top of page
  • صورة الكاتب

جرة ذهب - الحلقة السابعة

أتجول من زاوية إلى أخرى في حرية، ولم يعترضني أحد؛ عرفت عربًا وأكرادًا وزنوجًا، حادثت عددًا من الجنود الأتراك...أعتقد أن روهان قد بالغ في ظنونه؛ فلم أجد ما يثير الريبة، وعلى الرغم من تأكيد حيان على أن اليد العليا للجيش، ونفي وجود الفرق الخاصة، إلا أن روهان أخذ يردد كالببغاء:

- مريب...مريب...أمر مريب.

اختفى حيان بين الخدم متجنبًا الاقتراب من الجنود، بينما لم يتوقف روهان عن مطاردة كل ضابط، مطالبًا مقابلة أحد المسؤولين، وعندما لم يحظ إلا بالمماطلة في كل مرة، حاول الاقتراب من الخيمة الكبيرة؛ حيث توقفت العربات العسكرية وحيث أفرغت بعض القوافل حمولتها، فاجتمع عليه جنود غلاظ، وأوشكوا على إهانته، فما منعهم سوى كبر سنِّه وبعض ما بقي من عظمة البكوية.

الجميع يجهل ما يحدث هنا، كنت أعتقد أن الأسرار التي أخرجناها من الكهف هي ما تستحق الحراسة والاهتمام، وتبين ألا يأبه بها أحد غيري.

ومن الجزء الشرقي المحظور، أطل ضابط برتبة يوزباشي؛ رفيع العود، طويل الأنف والساقين، قريب الشبه من طائر "أبي سعد"، قصد إحدى خيام الخدم، الواقعة جنوب المخيم، ولم يمكث إلا دقائق معدودة، ثم خرج وبرفقته شاب ملثّم، شديد سواد الثياب، قصير القامة، ضئيل الحجم، حركات سيره تثير الريبة، يتبعه –كظله- زنجي؛ فارع الطول، مفتول العضلات، أفطس الأنف، يدب على الأرض كالفهد، تسبق عيناه خُطا سيده، باحثةً عمَّا ينقض عليه؛ لقد كان الحارس الشخصي للشاب الصغير، يرافقهما شاب آخر يمشي على رؤوس أصابعه، تجبره مِشيته على التمايل، ملابسه غريبة عجيبة لا تليق بفتاة...يتوجهون نحو الجِمال الممنوعة، ليفصل الشاب الملثم الجمال السمينة عن جمالنا الهزيلة في صمت، وتعود ثلاثتهم إلى خيمتهم في هدوء...لم يكن الملثم في حاجة ليفحص حمولة عشرات الجمال الأخرى؛ فهو لم يقترب من جمالنا الهزيلة، ولم يحاول إلقاء نظرة على ما تحمله؛ تساءلت من يكون! ولماذا يسكن بين الخدم! ولِمَ لمْ يتواجد بين الضباط في الجهة الشرقية للمخيم! وهل خادم بحاجة لحارس ومرافق!

أمَّا أبو سعد فطلب من الساسة جلب الجمال لخيام الجزء الشرقي، لتفرغ حمولتها، ثم تعود مع الساسة.

بعدها ابتعد الجنود عن الدواب، ورُفع الحظر، وقمنا جميعا بإنزال الحمولة لإراحة الدواب، ولم يعد البيك مهتمًا بمراقبة الصناديق، وصب اهتمامه على الحقائب وزجاجات العرق.

الكثير من الأسرار تشغل بالي، ولم تتوقف عن اللَّح على فضولي المريض؛ أرغب في اكتشاف سر الصناديق، وسر خيمة الخدم الغامضة، وسر الجهة الشرقية المحظورة، أرغب في تفتيش حقائب رشيد وحيان، وقراءة مفكرة البيك وما كتبه عن الكهف.

انطلقت لأكتشف سر الصناديق التي لم يكترث بها أحد، وروهان –كعادته- لم يفشل يوما في قراءة أفكاري؛ فباغتني من الخلف:

- لقد قلت لك يا عزيز، الصناديق فارغة لا تحوي شيئا، لا تتعب نفسك، صناديقهم هي الثمينة.

وهنا لم أتمالك نفسي وقلت له بحدة:

- إذًا اسمح لي برؤية ما فيها حتى لا أفقد صوابي.

فضحك وقال:

- اذهب وألق نظرة أيها الأحمق قبل أن يقتلك الفضول، يوجد بها حجارة لا تساوي شيئًا، وفي أول فرصة سأتخلص منها، ألا تصدقني يا عزيز؟ الشيء الوحيد الثمين هو بحقيبتي وليس بالصناديق.

كلماته هوت على رأسي كمطرقة حديدية، وتركني عالقا أمام خيارين؛ الأول أن أسعى إلى الصناديق متماديًا في تكذيبه، والثاني أن أحترق كل لحظة بنار الفضول...البيك يعي جيدًا أنى أعجز عن كبح فضولي، كما وعى جيدًا أني لا أصدقه؛ اقترب مني وأمسك يدي، ثم قال:

- أتذكُر يا عزيز ما علمتك إياه في لقائنا الأول؟

أحنيت رأسي خجلاً، وكيف لي أن أنسى ذلك اليوم؛ لقد خلع عليّ رداء احترامي لذاتي؛ أقنعني بأنني لست أبلها، لم يعِ الآخرون ما أعانيه كما وعيه البيك.

رآني الجميع بليدًا، ولم يكن الحسد سبب بلائي، وإنما خلل في ذاكرتي يتعلق بالأرقام الفردية، والألوان، وبعض الكلمات؛ عقلي يتوقف عن الحركة ويعجز أمام الأرقام الفردية التي لا أحفظ منها سوى الواحد.

علمني البيك كيف أحفظ الأيام والأشهر، والألوان، علمني كيف أحوِّل الرقم الفردي إلى زوجي بزيادة الواحد الذي أحفظه؛ علمني إغلاق ثغرات عقلي، عالج قصوري، لقد اكتملت ذاكرتي بفضله، ومذ وقتها لم يتمكن رقم فردي من الهروب. لم يتوانَ عن تعليمي وتدريبي لثماني سنوات متصلة قضيتها في عالمه، ليعيد لي ثقتي، ويكون لي أبًا ومعلمًا وصديقًا، ولو لم يكن في حياتي لكنتُ ذاك الولد البليد التافه. مازالت كلمته تترد في أذني منذ اليوم الأول:

- ثق بي ياعزيز، لن أسخر منك.

لو قال لي: إن الشمس تشرق من الغرب لصدقته، ولكن صناديق وحجارة لا تساوي قرشًا، ابتعدت عن الصناديق، وأعلم أنني لن أتوقف عن التفكير في أسرارها.

انتصف الليل واكتمل القمر بدرًا، وشغلت تفكيري بمراقبة الخيمة الغامضة وحينما حاولت الاقتراب وجدت الزنجي بانتظاري؛ فعدت أدراجي خائبا.

قضينا ما تبقى من الليل بالخيام، شاركت البيك وحيان ورشيدًا خيمة واحدة، لم يتوقف رشيد عن الشخير، وكان شخيره غريبا "اوووووووخ" ومن الطرف الآخر يجاوبه البيك "وووووغغغ"؛ سمفونية متناسقة من الشخير...حيان لم يشخر، ولعل شخيره يتلاشى أمام العزف الثنائي لرشيد والبيك. غط الجميع في نوم عميق، أمَّا أنا، فأنَّى لمثلي أن يرتاح أو يسعد! أشعر بأني قتيل الأسرار التي تطبق على عقلي من كل جانب.

تسللت بهدوء القطط، وفتشت حقيبة رشيد، لم يكن فيها سوى بعض الملابس المتسخة، وغيارا داخليا أشك أنه قام بغسله يوما؛ أقسمت ألا اقترب من حقيبته مرة أخرى ولو كانت تمتلئ ذهبا.

أمَّا حقائب حيان فكانت مَلأَى، وتفتيشها أهدر وقتي؛ العديد من الرسائل بالتركية والعربية، وبعض الصور، وأشياء أخرى لم أتفحصها جميعا؛ فلم تكن ذات أهمية.

أمَّا عن حقائب روهان، فأنا مَنْ يعدها ويرتبها، وأعرف كل صغيرة وكبيرة فيها، وبإمكاني فتحها كيفما شئت دون حرج. بحثت عن دفاتر البيك وملاحظاته، وفتشت كل الحقائب دون جدوى؛ حرصه على إخفائها ينبئ عمّا تحويه من أسرار.

أذكر ذلك الجيب السري أسفل الحقيبة البنية، ولم يفطن إلى وجوده أحد، هذا ما كان يعتقده البيك، ولم يكتشف يوما أني اعتدت على تفتيش حقائبه بسبب وبدون سبب، لقد اكتشفتُ كل مخابئه السرية منذ سنوات.

طلع صباح الجمعة واستيقظ الجميع، وأعددت القهوة، وما زالت روعة القمر في إصرار على عدم تركنا بالرغم من أن الشمس قد شرعت تنشر نورها في كسل.

البيك شارد الذهن، تسقط عينه ذابلةً في فنجان القهوة، ثم يهيج ثائرًا، يقسم أنه سيحرق هذا المخيم إذا لم يخرج إليه أحد المسؤولين، ف توجه إلى أحد الضباط وهدد وتوعد، فخرج إليه ضباط آخر برتبة يوزباشي، كان مهذب الحديث، امتعض بعدما أدرك الخلط الذي أهدر وقتنا، وغيَّر مخطط سيرنا، ثم طلب من البيك أن يشير إلى الضابط الذي أجبرنا على مرافقته، ولبسمة حظه لم يجده منا أحد، فطلب الضابط إذنًا بالانصراف على أن يعود بعد استعلام الأمر، ثم عاد بعد هنيهة، وبرفقته ملازم ثانٍ، وأمره أن يوفر لنا كل ما نحتاجه وأن يرافقنا إلى محطة القطار أو إلى أي جهة نريدها...ودَّعنا...تنفسنا الصعداء...لم يقدم لنا الملازم سوى القليل من التمر؛ هذا ما وجده.

شكر البيك الملازم، وأعفاه من مهمة مرافقتنا قائلاً:

- اذهب يا بني سنتدبر أمرنا.

نتشارك في تحميل الصناديق وزمّها على الجمال استعدادا للرحيل، وتطوع العربي سلامة آمرًا عملاقه طبيله بمساعدتنا، فأذهلتنا قدرته الجسدية، حتى خُيِّل لنا أنه قادر على حمل بغل على كتفيه، وقال سلامة:

- الجمال ليست كالبغال، طريقتكم في شد الحبال ستؤذيها، وتتسبب بتقرحات يشكركم عليها القراد والذباب، فشكرناه على نصحه ومساعدته، وقبل أن نتحرك همس لنا القدر: "لا تفرحوا كثيرا فرحلتكم لم تبدأ بعد".

من الطرف الآخر للمخيم يسرع نحونا اليوزباشي المهذب بخطوات مرتبكة، يداوم على مسك أذنه وتركها، ثم يأسف علي إخبارنا بضرورة أن نرافقهم باتجاه سوريا لدواعٍ أمنية، ومنها بإمكاننا التوجه إلى تركيا، وأكد على حرصه أن نصل وجهتنا بسلام، وعلى أن تتوفر لنا سبل الراحة، وقبل توديعنا وعد البيك أنه سيقوم بزيارته في المتحف، وأبلغنا أن القافلة ستواصل السير بعد ظهر اليوم.

لم تمر ساعة حتى غادرت المخيم ثلاث سيارات، وكان الضابط المهذب ضمن المغادرين، ولم تبلغ الساعة التاسعة صباحا حتى دبت الحياة في المخيم واستعد الجميع للتحرك بتحميل الجمال والبغال على عجل، وحثنا أبو سعد على الإسراع، فقمنا بتحميل جمالنا الهزيلة بالصناديق للمرة الثانية وشددناها بمساعدة سلامة، وهنا همس حيان للبيك:

- دعنا نتخلص منها ونوفر علينا مخاطر جرها واكتشاف أمرها.

أحنى روهان رأسه، ولكنه ما لبث أن غير رأيه، وقال بصوت خافت:

- إن فعلنا سنثير الشبهات حولنا.

ثم تعمد أن يرفع صوته وقال:

- هيا يا أولاد حمِّلوا الصناديق، ففيها حجارة مميزة جلبناها لبناء قصر الخليفة.

حقيقة ما عدت موقنًا إن كانت هي الحقيقة، أم أنه تعمَّد السخرية، وهنا حدثت نفسي:

- تبا لكم! احتفظوا بسركم فلست في حاجة إليه.

ولم ألبث أن عدت للمراقبة من جديد، ولاحظت أن عدد الجمال التي تخضع لعناية خاصة تسعون جملا، وحينما تحركت القافلة الضخمة بقيت الجمال التسعين في مؤخرة الركب تخضع لحراسة مشددة؛ ففطنت إلى أن هذا العدد الضخم من البشر والدواب كان ساترًا لحماية مؤخرة القافلة.

رافقتنا ثلاث عربات -إحداهم المزودة بالرشاش- لعدة ساعات؛ تنفصل عنا لتلاقينا عند مُلتقى الطرق من جديد.

لم أر قافلة بهذا الحجم؛ لقد امتدت لتتسع لها مئات الأمتار على الطريق، تسير ببطء متناهٍ يلفت انتباه كل بلدة نجاوزها، خرج عشرات السكان لمراقبتها، سار خلفنا الكثير من الصبية، اهتمامهم بالعربات غلب اهتمامهم بالقافلة.

لاحظ روهان بيك أن الطريق لا تؤدي إلى سوريا، فامتدح حيان فطنته، فعنَّفه البيك قائلاً:

- لست حمارًا، ربما لا أعرف هذه البلاد، ولكن بإمكاني أن أعرف أين تقع سوريا، ولا أشك أننا نسير باتجاه لبنان.

كان يشتم ويلعن كل الطرابيش، وكان يردد حينما أصل لبنان سألقنهم درسا لن ينسوه أبدا.

توقيت رحيل القافلة دل على غباء شديد؛ فلم يرحمنا حر الشمس، ونفد منا الماء، واشتد بنا العطش...لم تكن هناك خطة مسبقة؛ فالأمر يتم ارتجاليًا.

وبعدما حل المساء استرحنا بجوار عين ماء كان يسكنها بعض رعاة العرب الذين تم طردهم قبل وصولنا، انتظر البعض طويلاً للحصول على القليل من الماء، والجزء الأكبر من الدواب لم يحصل على قطرة ماء، ولم يُسمح بإنزال حمولتها لترتاح قليلا.

لم تصدر أية أوامر بالتحرك، وبدا أن قادة القافلة ليسوا على وفاق؛ لقد نشب بينهم خلاف تسبب في تأخير تحركنا؛ خلافٌ كان رحمةً بالدواب التي حصلت على القليل من الماء، ولمَّا طال مكوثنا غلبنا النعاس، واشتد بنا الجوع، ولم يتبقَ معنا سوى حبيبات تمر مجفف، فحرصت على عدم الاقتراب من مخزون الشوكولاتة والبسكويت، حتى لا يبدأ البيك بتوزيعها على الجميع، لهذا كنت أخرج بعض القطع -فقط- مُدَّعِيًا نفادَها.

إننا في الجليل، هذا ما أخبرني به سلامة حينما وقف بجانبي قائلاً: إن الدواب ستنفق إن لم يتم إراحتها وإطعامها، ولم يكن يملك من المعلومات ما يستحق أن أهدر عليه حبة شوكولاتة، هو تاجر دواب، واعتاد أن يوفر للمعسكرات العمال والدواب مقابل الأجر، والذي تشاجر معه كان أخوه وشريكه في تجارته، والاثنان من رام الله. وأنه رافقنا مع فيله "طبيله" مقابل أجر، وقبل أن يقص عليَّ قصته وعلاقته بهذا العملاق، صدرت الأوامر بتحرك القافلة، فأسرع إلى دوابه يقودها.

لم ينتصف الليل بعد، وضوء القمر المكتمل صيَّر الليل نهارا، فلاحظنا أمرا مريبا؛ لقد تبعثرت العربات العسكرية على رءوس طرق متباعدة، ظهر على إثرها خيَّالة سود كالأغربة، ثم صوَّت دوي طلقات نارية شقت صمت الليل.

اقترب أبو سعد اللعين من القافلة وبرفقته عشرة من الغربان السود ضخام الجثث، ليملي أوامره على الجميع، ثم خرجت القافلة عن

الطريق السهلة، وأخذت تشق طريقها عبر ممرات وعرة لا تصلح لمسير.



٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page