top of page
صورة الكاتب

جرة ذهب الحلقة الستون

المصرية تحولت في لحظات من ملاك إلى وحش وأنا لمت نفسي على تهوري، وقالت:

- يجب أن ننقذه.

- فات الأوان على ذلك، وإن نجا من خنجر الكعب والسقوط في قعر البئر فلن ينجو من انعدام الهواء.

- لعل الله كتب له النجاة! هيا أسرع معي إلى فاطمة وأخبرها بما حدث، وستجد هي طريقةً لإنقاذه.

فأجبتها على الفور:

- لن أذهب إلى الموت، إن لم تقتلني فاطمة سيقتلني طبرق أو شكيب، لا علاقة لي بكل هذا.

فعاد صوت الملاك وتلاشى زئير اللبؤة وقالت:

- أرجوك يا عزيز تعال معي إلى فاطمة وأخبرها بما حدث.

شعرتُ بدنو أجلي، ورأيت الموت يحيط بي من كل جانب، فقلت لها:

- لن أذهب، وإن سألتني فاطمة سأخبرها أنك كاذبة وأنني اختلقتُ هذه القصة تحت تهديد السكين.

فقالت:

- إذًا لا داعي لإخبار أحد، تعال لنذهب سويًّا لإنقاذه.

- لو تمكنا من الوصول فلن نتمكن من زحزحة الصخرة وهي تحتاج إلى عدة أشخاص أقوياء وبغل لإزاحتها عن عنق البئر.

زمّت شفتيها وأخذت تنفث الهواء في الهواء وترميني بنظرات وعيد وتهديد، شدت قبضتها وأرخت شفتيها لتتمكن من رسم ابتسامة زائفة وسألتني أن أصف لها موقع البئر، فوصفته بدقة دفعتها للشك في قدرتي على هذا الوصف الدقيق، وقالت:

- بعد دقائق لاقني خلف الخيمة التي كان يسكن فيها جمال الدين وسنذهب معا لإنقاذ حيان.

فضحكت وقلت لها:

- سيقتلنا المسلحين قبل اقترابنا من حدود المخيم.

- لا تخف سأتدبر أمر خروجنا.

هذه البلهاء تعتقد أنى سأخاطر بحياتي وبكل شيء من أجلها، ولابد أنها تنوي إخبار فاطمة بالأمر فقلت لها محذرا:

- إن علمتْ فاطمة أو أي شخص آخر بالأمر سأقسم أنك كاذبة، ولن أمانع أن أخبرها بأني رأيتك تتسللين ليلاً إلى خيمة حيان، أنا لن أتزحزح عن مكاني ولن ألقي بنفسي إلى التهلُكة.

وقفت ورمتني بنظرة وقالت:

- عزيز سأقتلك، أقسم بالله لأقتلنك، ولو كان هذا آخر شيء أفعله في حياتي.

بصقت في وجهي وابتعدت، فأسرعتُ بنطق كلماتي لتصلها قبل أن تبتعد:

- ومالي وكل هذا؟، اذهبي واقتلي الشيخ وشكيب، لماذا لا تجترئون جميعكم إلا عليّ؟!

غابتْ عن ناظري ولم أتوقف عن الهذيان:

- لتذهب هي وحيان إلى الجحيم، لا يهمني أحد، لا علاقة لي بكم ولا أخافكم، وإن كانت هذه المصرية تعتقد أنها قادرة على قتل مساعد ملك الـ"قاقا باقا" فلتعلم أنى وصديقي طبرق سنقتلها ونشرب من دمها ونستحم فيه، أنا عزيز أفندي لستُ خادمًا ولا عبدًا، لن يقدر أحدٌ على قتلي، أنا...أنا سأقتلكم جميعًا.

ومازلت أهذي حتى رأيت فاطمة تمتطي حصانها المرقط وتلف وجهها باللثام الأحمر وتنطلق كالسهم بين الخيام نحو حدود المخيم، وكأنها في سباق مع رصاصة بندقية، هذه الغجرية لا تأبه بأحد، وإذا لقى حبيبها حتفه ورأته على هذه الحال ستبدع ألف طريقة لقتلي عند عودتها...انشطر القمر؛ شَطْرٌ أسود والآخر فضيٌّ متلألأ...ساعات وسينتصف الليل ويطل عليَّ الثلاثاء اللعين...أصابني التشاؤم والفزع، ولابد أن أجد طريقةً لأنجو بحياتي قبل عودتها.

ذهبتُ إلى سالم ورجوته أن يأتي ليجلس معي قليلا فلا أريد أن أصاب بالجنون من جراء حديثي إلى نفسي، ووافق الأبله إشفاقا على ما ظهر على وجهي من إرهاق وقلق، وتطوع ليعد لي شيئا أشربه وجاء لي بالشاي فقلتُ له:

- أنا باشا ولا أحتسي إلا القهوة.

فرد علي:

- (بدي أنام يا عزيز بدي أنام، اشرب الشاي وخليني أروح نام).

فقلت له:

- لا لن تنام سنهرب معا، فالخطر يحيط بنا من كل جانب وربما تكون هذه فرصتنا الأخيرة.

فرد عليّ بسذاجة:

- (بدي أنام وبكرا بنهرب).

جاهدتُ لأسكن الرعب في قلبه؛ أخبرتُه أنه لم يبق غيره وإنْ لم يهرب معي سيجوع الكعب ويأكله عاجلا أم آجلا إلا أن ردة فعله كادت تقتلني؛ يتثاءب ويردد:

- (نعسان بدي أنام).

هذا الأبله اعتاد النومَ مثل الدجاج مع غروب الشمس بعدما مُنع من مرافقتنا لدفن الذهب...عدتُ لأحدثه عن أكل قلوب البشر وأكبادهم، ورده الأخير أغلق أمامي كلَّ الطرق وأصابني باليأس حيث قال:

- (قصة الغولة اللي بتوكل الأولاد بالليل سمعتها من جوهر ومن سلامة وما بخاف أنا).

لا أملك الكثير من الوقت لسذاجة سالم وكان علي أن أجد مكانًا للاختباء لحين عودة فاطمة بما ستحمله، فإن أنقذت حيان سيشفع لي عندها، وإن لم تنقذه سأهرب قبل أن تُلحقني به...سالم يغفو وهو جالس ومن بعيد أطل علينا الملط اللعين ووجهه يقدح نارًا، دققت النظر فرأيت سبب الاحمرار القرط الذي وضعه بأنفه مؤخرا، يبدو أنه لم يلائم بشرته، كان متكدر الحال معكر المزاج ولا يبدو أنه جاء لغاية التحسيس، ولم يمض على غياب فاطمة ساعتين لأعتقد أنها أصدرت أمرًا بقتلي...صَرف الملط سالمًا وكان مباشرا في سؤالي عن حيان، ولم أتسرع حتى أكتشف ما أخبرته به رباب ولكنه أعاد السؤال، فاختصرت الحديث:

- هرب، هرب، غافل الجميع وهرب، هذا كل ما لدي.

وبطرف عينيه نظر إلي وقال:

- أنت لا تكذب عليَّ، أليس كذلك عزووو!

- أنا لا أكذب على أحد، هرب، هرب.

- تقسم بشرفك على هربه؟

- أقسم بشرفي وشرفك لقد هرب.

وأسررتُ قولي:

- أقسمُ بشرف البغال والحمير أيضًا، اللعنة على هذا المخنث! عن أي شرف يتحدث؟ هذه القافلة تحمل الذهب لا الشرف، ألا ينقصني إلا الملط والعفريت الأرجواني ليحدثاني عن الشرف!

كرَّر سؤالُه مراتٍ وكنتُ أجيبه وأقسم بشرف القافلة على هربه، ثم سألني عن رباب وعن حديثها معي عند الغروب فأخبرته أنها جاءت لتسأل عن حيان وعن كيفية هربه، فسكتَ برهةً وكان سكوتُه مريبا وفاجأني بسؤاله:

- هل أخبرتك رباب أين ذهبت؟

عادتْ ذاكرتي اللعينة؛ ما أغباني! كيف لم ألاحظ أنَّ الزنجي كيماني لم يكن برفقتها، وفاطمة ما كانت لتسير خطوةً بدونه؛ لقد ارتدتْ المصريةُ ملابسَ فاطمة وامتطت المرقَّط لتتجاوز الحراسة، وما كان ليعترض طريقها أحد...سرني وأبهج قلبي تأكيد الملط على أنها سرقت فرس فاطمة وخرجتْ بغيرِ إذنها، ودعوتُ الله ألا ألتقيها مجددا، ولكنِّي تمنيتُ إنقاذ حيان على الرغم من صعوبةِ ما أقدمتْ عليه رباب؛ فلو بلغتْ البئر ستبقى عاجزة أمام الصخرة، والهواء المُحتبس لن يكفي لحبيس البئر كي يعيش يومًا آخر...أخبرني الملط أن شكيب نفسه قد زفَّ لفاطمة خبر هروب عشيقها، ولكنها لم تصدق وتظاهرتْ بعدم اكتراثها، وكانت على يقين بأنه لن يفعل، وأنه سيعود لا محالة، ولكن صدمتها كانت أشد عند علمها بأن رباب سرقت فرسها وهربت، وفضلت كتم الخبر؛ لئلا يعرف أحد أن طبيبتها الخاصة قد هجرتها وراء عشيقها.

لم يتوقف الملط عن الثرثرة، وعن سوء حال الغجرية بعدما تسلل إلى قلبها بعض الشك في احتمالية علاقة عشق بين حيان ورباب؛ لم يتقبل عقلها بل قلبها أن اختفائهما في اليوم نفسه من قبيل المصادفة، ولمَّا أطربني كلامه، ووافق ما هددتُ به رباب من قبل وجدتُها فرصةً لأثرثر أمامه عن شكوكي في أمرهما، واطمأن قلبي؛ فمادامت رباب لم تخبر فاطمة شيئًا فأنا في مأمن من كل سوء... تركني المخنثُ أنتظر انتصاف الليل، وأستقبل يوم السعد؛ الثلاثاء، ولا أعتقد أن ربابَ ستعود، وأتمنى أن يكون الأغربة في انتظارها ويردوها قتيلة إن فكرتْ في العودة.

صحوت يوم الثلاثاء مع حلم جميل؛ أحد الخدم جاء ليوقظني وما قاله دغدغ عواطفي:

- عزيز باشا القهوة بانتظارك، هيا أفقِ.

أعي جيدا أن ما أسمعه ليس حلمًا، ولهذا لم أفتح عيني راغبًا في التمتع بما أسمع:

- عزيز باشا استيقظ.

فتحت عينًا واحدة وتركت الأخرى حالمةً، وكان أزرق العينين؛ جاء ليوقظني ولم تشرق الشمس بعد، ابتسم وقال:

- ارتد ملابسك وتعال إلى خيمتي وستجد القهوة بانتظارك.

انتعلتُ الحذاء وسبقته بين اليقظة والنوم إلى الخيمة التي ورثها في حياة جودت، لم أجلس حتى بدأ الذهب يعزف أعذب الألحان، وتساءلت:

- هل في الخيمة الثالثة مَنْ يعبث بذهبي؟ أم هو رنينٌ في رأسي فقط، وسرعان ما سيتلاشى بعد إفاقتي؟

رائحة القهوة أنعشت حواسي، هذا الرومي خادم بارع، ولن يهمني لو بصق فيها فأنا أفضل القهوة بنكهة البصاق تُقَّدم لي كباشا على قهوة بلا نكهة أحتسيها وأنا خادم وضيع، وفي كلتا الحالين لن يكون يومًا لطيفًا أبدأه بالقهوة التي أكرهها أكثر من جمال ويعقوب لعنة الله عليهما، ولا أتقي فيه تسلل فاطمة أو أحد خدمها لخلط سم الأثرياء بقهوة الباشوات...ربما لن تهدر سمها الفاخر عليّ، ولكن ما أدراني أنها لا تنوي قتل شكيب ويصيبني ما أصاب طبيلة، لن يضرني القليل من الحذر، ولم أتسرع باحتساء هذا القرف إلا بعدما انتهى مضيفي العظيم من احتسائه...نصف القمر لم يغادر السماء حتى الآن، وبدت إشارات الشمس التي بدأت بالنهوض من سباتها خلف جبال الشرق، وأزرق العينين هذا لا يتوقف عن إدهاشي ببراعته في العزف على أوتار عواطفي، فقال:

- هل ترغب أن يعد لك الرومي الإفطار يا عزيز باشا؟

فأخبرته:

- لست معتادا على الإفطار المبكر، وأكتفي بقطعة بسكويت مع القهوة، وسيجارة كل صباح.

فضحك لعلمه أني لا أدخن، وقال:

- هيا إذًا لنساعد الرجال.

لم أدر مَنْ قصد بالرجال وعدة خطوات نحو خيمة الذهب وكانت المفاجأة الغير سارة في انتظاري لتفسد عليّ روعة رائحة القهوة والإحساس بمكانتي الباشوية؛ ثلاثة رجال؛ اثنان منهم بزي العسكر؛ أحدهم معقوف الأنف يعيقك أن تري كتفيه، والثاني أصلع، ولا أسنان في فمه المظلم، وكلاهما يغرفان من صناديق الذهب ويملآن صناديق الحديد الصغيرة، وبريقُ أعينِهم فاق ضوء مِصباح الخيمة بعد ملامستهما الذهب، لم يكن عبث العسكريين بذهبي ما أفسد صباحي وإنما الأبله الثالث الذي يساعدهما وقد سال لعابه فوق الذهب، ولا أشك أنه سيغتنم أول فرصة ليملأ جيوبه، وليس لديَّ طريقة لأحذره في وجود شكيب الذي لم يطلب مني مساعدتهم بل الإشراف على ملء عشرين صندوقا صغيرا وتحميلها فوق البغال.

حين ابتعد أتقنت دور السيد وأمرت خدمي الثلاثة بأن يكونوا لُطَفاء مع الذهب، وأن يتركوا تأمل كل قطعةٍ وتقبيلها لأنها متماثلة، ولم أجدْ طريقةً لأسأل ثالثهم سالمًا عمَّن أتى به إلى الخيمة الملعونة في هذا الثلاثاء، ولكنه موهوب بالفطرة فسأل:

- (جاي تعبي معنا ذهب يا عزيز؟)

ولم يكفْ عن الغمز بجفنيه، وتابع:

- (شايف قديش في ذهب!)

تجاهلته، وتحدثت مع العسكريين بالتركية، الأول يُدعى "سمور" والثاني "حمزة"، وركاكة لغتهما أخبرتني أنهما عربيان، وحين تأملتهما جيدًا راودني إحساس بأن عِزرائيل قد شارك شكيب في اختيارهما، واطمأن قلبي لأن سالمًا لن يموت اليوم وحيدا، وأشرقت الشمس ولم تكشف لي عمَّا يدور في رأس أزرق العينين، لستُ قلقًا على حياتي؛ فلن يقتلني الآن، وإنما يسعى لإرضائي.

انتهينا من تحميل البغال وطلب مني شكيب أن أمتطي حصانا وأسير بجواره، وأمر الثلاثة أن يقودوا البغال خلفنا، وسرنا وسط الخيام وتفاجأت بأنه يتجه جنوبًا، ولن تنتهي بنا طريقه إلى مدخل المخيم كما اعتدنا...إلى أين سنذهب؟ ولماذا؟ وكيف؟ لستُ أدري!

قبل خروجنا من المخيم انصرف عقلي لحساب كمية الذهب التي يتسع لها كل صندوق صغير فأدركتُ أن الخيمة تحتوي ضعف الكمية التي نحملها، ثم انصرفتُ إلى سالم وسمور وحمزة؛ ثلاثة وجوه مشؤومة في يوم ثلاثاء، مازالت أعينهم تبرق من أثر مقابلة الذهب ومصافحته، ولا يبدو على أحدهم الخوف مما هو آت، ولا أشك في أن جيوبهم قد امتلأت بذهبي، لا يهمني أمر الجنديين، ولكن نهاية سالم ستكون اليوم، أشعر بهذا، لن يعود حيا ولا أعلم ما السر الذي يعلقني بهذا الأبله! لا يتوقف عن التمرد عليَّ كلما سنحت له الفرصة، ومع هذا لا أحتمل فكرة أن يُصاب بأذى...محاولة سانتورية لعلي أنقذ حياته فاقتربت من شكيب وسألته:

- هل سندفن الذهب اليوم يا سيدي.

- نعم هذا ما سنفعله.

فقلت له همسا لأشعره بأني أتحاشى أن يسمعني سالم:

- سيدي، لا يحب جودت أن يصحب هذا العربي لأنه فألُ نحْس، كل مرة رافقنا فيها حدثت مصيبة ما، إنه عربي مشئوم، اطرده ليعود لخدمة الطبيب قبل أن ينحسنا.

ابتسم وقال:

- لا عليك لن يحدث شيء.

فقلت له:

- يا سيدي أقسم بالله العظيم إنه شؤم، انظر إلى أسنانه، أنفه، عينيه، حتى أذنيه تشير إلى الشؤم وستكون مصيبة إن رافقنا.

رد على بنصف ابتسامة وتجاهلني، ابتعدنا مسافة تقارب المئة متر وهي المسافة التي حذَّرنا كاظم من تجاوزها، ولم أتوقف عن تكرار:

- سالم نحس، سالم شؤم.

قطعنا مئة متر أخرى وسقط أحد الصناديق الصغيرة عن البغل وتناثر بعض الذهب، ودقائق قلائل حتى جمعناه وأعدنا الصندوق مكانه، وأسرعت لأسير بجوار شكيب وهمست:

- أرأيت سيدي؟ هذا العربي مشئوم، أعده قبل فوات الأوان.

ضحك وقال:

- سأطلق النار على رأسك إن كررت هذه الجملة مرة أخرى، أغلقت فمي وتدخَّل القَدَر بعد عشرة أمتار تفاجأ فرس شكيب بعربيد أسود فجفل وكبا ثم نهض وكاد يسقطه عن ظهره، ولكنه كان بارعًا في السيطرة عليه، ثم نظر نحوي ووضع أصبعه على شفتيه:

- (هووووش).

يحذرني أن أفتح فمي، ووضعت كفي على فمي لأغلقه، ولكني تركت عيني تجول بين سالم وعيني الفرس لأخبره بشؤم سالم الذي لم يقتنع به فارسه، وهنا ضحك شكيب، وقال لسالم محاولاً الحديث بالعربية:

- (ارجعوا انتو يا سالم إلى خيمات الطبيب ولا تطلعوا منها).

وتنازلت عن مكانتي الباشوية وترجلت عن حصاني، لأقود البغال بعدما فشل الجنديان في قيادتها، شكرت نفسي وشكرتُ العربيد الأسود الذي اعترض طريقنا، ولن يشكرني سالم لأني لن أستطيع يوما إقناعه بأنه مدين لي بحياته، وفي الطريق أخبرني شكيب أنه لم يأمر سالمًا بالعودة إيمانا بشؤمه، وإنما لأنه يريد ألا يتشاءم من تكراري لهذه الكلمة، وكانت نجاة سالم اليوم بفضل ما قاله روهان يوما: "اطلب من أحدهم ألا يتشاءم ثلاث مرات وسيغرق في التشاؤم".

وعرةٌ هي طريقنا نحو جنوب المخيم؛ أجبرتنا على الاقتراب من النهر، ولم نصادف أغربةً إلا بعدما توجهنا غربًا...ساعدني السير نهارًا لأكتشف الكثير من ثغرات الهرب، نصف ساعة أبعدتنا عن المخيم والنهر، ووصلنا أرضًا منبسطة وهناك كان ينتظرنا ما يزيد عن الثلاثين عسكريا من رجال شكيب، وانطلقنا معا وعدت أمتطي حصاني بجانب شكيب بعدما تولى العسكر قيادة الدواب...أشعر أني من رتب العسكر، ولا أرغب أن أفكر فيما يفسد عليَّ يومي، وساعة من المسير وبدأ يسأل همسا:

- أين المواقع التي يجب أن نختارها لدفن الصناديق؟

لم أشعر أنه يختبرني وكنتُ حذرًا؛ أخبرته أن جودت علمني وجوب اختيار أماكن لا يتوقعها عقل، لا تبدو للمار عليها أنها مخبأ لشيء، وأن تكون بالقرب من معلم ثابت لا يتغير بمرور الزمن، وبينما هو مصغٍ إلى حديثي أشار إلى صخرة ضخمة وسألني:

- هل يمكننا الدفن بجوارها؟

فأخبرته:

- تصلح أن تكون علامة، ولكن الدفن يجب أن يكون بعيدا عنها.

- إذًا هيا لندفن أحد الصناديق ونرسم خارطة.

أعاد نشر الجنود ليبعدهم، وترك سمور ورفيقه حمزة بجوار البغال، وبدأت الحفر لصندوق واحد كما أمرني، وبعدما انتهيت سألته بسانتورية عن رغبته في استحضار جان الـ"قاقا باقا"، فضحك بأعلى صوته وقال:

- لا دعهم نائمين لا حاجة لإزعاجهم.

لم ترق لي قولته، ولكني تغافلتُ؛ فالناس لا تخاف الـ"قاقا باقا" نهارا، وحملت الصندوق وقبل دفنه اقترب مني وأعطاني كيسًا من خيش وأمرني أن أفرغ ما بداخل الصندوق فيه وأدفنه، ثم أملأ الصندوق ترابا وأعيد تحمليه على البغل، انتهينا وانتقلنا لموقع آخر، استغرق وصولنا إليه أكثر من ربع ساعة، وحفرت وأفرغت صندوقًا آخر ودفنته، وملأت الصندوق ترابًا, وأعدت تحميله على البغل، ومن موقع إلى آخر تساءلت:

- هل هذا المجنون سيأمرني بدفن كل ما نحمله بمفردي وبالطريقة نفسها؟! أيعقل أنه لم يعِ أن دفن كل صندوق سيحتاج إلى ما يقارب الساعة، أم أنه يسعى لمعرفة الوقت الذي يستغرقه عند عودته لإخراجه مستقبلا؟

تعمدت التباطؤ لعل هذا الحمار يفكر ويجلب من يساعدني! صباحًا جعل مني باشا، وفي الطريق جعلني مستشارًا عسكريًا يخطط لمواقع الدفن، وعند رؤيتنا للصخرة اتخذني عبدًا لا يجيد سوى الحفر والدفن، والآن ما عدتُ قادرًا على حمل صندوق واحد، وفي الصباح كان في استطاعتي حمل صندوقين.

حملني تعبي على التساؤل:

- لماذا أحضر هذين البغلين؟

سمور وحمزة لا يشاهدان ما نفعل ولكنهما لا يبتعدان عنا كثيرا، فهممتُ بسؤاله، ولم أجرؤ:

- هل أحضرتهما لمراقبتنا وحراسة البغال؟

اللعنة عليه! سيعودان ويسرقان ذهبي إن لم يقتلهما، أي أحمق يدفن الذهب نهارًا برفقة أكثر من ثلاثين شاهدًا! يا لفطنته! لقد كان يبعدهم عن كل موقع نختفي فيه نحن الأربعة لأكثر من نصف ساعة وربما سيخبرهم لاحقا أننا كنا نختفي عن أنظارهم كل هذا الوقت من أجل التبول، وأعاد الفرجُ إليَّ روحي وعزيمتي حينما طلب مني الجلوس والارتياح قليلاً، واصطحب حمزة ورفيقه مع صندوق وغابوا عن أنظاري، وسرعان ما عاد وحيدًا وساعدني في الحفر، ثم أفرغنا خمسة صناديق وملأناها ترابًا، وبعد تحميلها انتقلنا إلى موقع جديد، وكانت هذه أغرب طرق الدفن وطقوسه في قافلة الذهب مما دفعني إلى الاعتقاد بأنه اخترع خريطة ذكية؛ فالدفن على خطٍ متوازٍ، والمسافة بين الموقع وما يليه متساوية، ولا أستبعد أنه اعتمد الظلال رموزًا لهذا فضل الخروج نهارا إلا إن كان هذا السفاح يخشى ظلام الليل.

لم يتوقف عن تدوين ملاحظاته، وقبل غروب الشمس كنا قد انتهينا من دفن كل الذهب وتحميل الصناديق الملآنة بالتراب، وساعد الله سمور ورفيقه حمزه فقد أرهقهما شكيب في دفن صناديق التراب ونقش رموزًا لا معنى لها.

هذا الداهية موَّه النظر عن الذهب الحقيقي بطرق شيطانية لم تخطر ببال أحد، وفي طريقنا عرجنا على مغارة كبيرة وطلب من الجنود الصغار البدء بحفر حفرة كبيرة تتسع لدفن ما تبقى من صناديق مملوءة بالتراب، وبمساعدة ثلاثة ضباط قام برسم خارطة تفصيلية للمكان، دفنوا الصناديق وانتشروا لحراستها وحينما لاحظت أنه حرص على عزل سمور وحمزة عن بقية الجنود قرأت على روحهما الفاتحة سلفا، وعجبتُ لأنهم عادا معنا سالمين إلى المخيم.

وصلنا قبيل الفجر، وطلب من الرومي أن يطعمهم ويذهب للنوم معهم بأحد الخيام، ووقتها وددتُ أن أقول لهم طعامًا شهيًا فوق ظهر الأرض، وطعامكم القادم في الجنة -بإذن الله- سيكون قريبا، ولم يسمح لي بالذهاب للنوم قبل أن يوصيني أكثر من مرة أن أخبر الشيخ طبرق بأننا دفنا كمية ذهب كبيرة في أحد الكهوف، وأن أخفيَ عنه بقية التفاصيل، وعدت إلى خيمتي ولم أنفض الغبار ولم أخلع حذائي، ونمت كالعبد وأفقت على كابوس؛ أحدهم يركلني بقدمه:

- عزيز انهض.

فتحت عيني ووجدت الكعب واقفًا فوق رأسي فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم، وركلة المسخ دلَّتْ على أنه عزم على إنهاء صداقتنا واستعبادي مجددا، علمتُ من ظل اللعين أن الساعة تجاوزت العاشرة صباحا، وسألني:

- أين اختفيت أنت (واليوك باشي)؟

واختصرت الجواب:

- دفنا الذهب في الكهف، وترك الجند يحرسونه.

وما كان ليرضيه اختصاري بل أصر على معرفة أدق التفاصيل وحرصت ألا أخبره إلا بما أراده شكيب، وفي ساعات الظهيرة اجتمع الاثنان معا ليمارسا لعبة الخباثة والاستغباء، أعددت القهوة والشاي واستمتعت بالعرض الهزلي؛ الكعب يتظاهر بعدم معرفته، ويسأله عن اختفائه بالأمس، والآخر يرد عليه وهو يعلم أنه يعلم، ويخبره بأنه دفن كمية من الذهب في أحد الكهوف وتركها في حراسة الجند، فيعترض الكعب قائلاً:

- لا ينبغي أن يطلع أحد على مكان دفن الذهب.

فينظر شكيب في عيني الكعب وهو يقول:

- أعوزتني الحاجةُ إلى ذلك.

وسكتَ برهةً ثم تابع:

- وكان دفنُ الذهب طُعْمًا لاصطياد ناجي خان.

اندهشت حقًا، وفاقني الكعب دهشةً، وسأل:

- ومن هذا ناجي خان؟

<<<<<نهاية الحلقة 60>>>>>



٠ تعليق

Comments


bottom of page