انتهت ليلتي بالملط وبدأت صباحي بشكيب حيث جاء بنفسه وأيقظني من نومي وطلب أن أستعد خلال دقائق لأرافقه في مهمة عاجلة، فارتديت حذائي ولا شيء آخر لأرتديه وهرعت وراءه بين اليقظة والنوم، فأشار إلي أن أمتطي أحد الأحصنة، وبدأنا نشق طريقنا إلى خارج المخيم جنبا إلى جنب كصديقين، وكانت المرة الأولى التي أمتطي فيها حصانًا منذ رافقت القافلة، وتمنيت أن نتجول بين الخيام لألفت انتباه الأوغاد ليروا عزيز أفندي على صهوة حصان بجوار اليوزباشي العظيم شكيب، نعم العظيم يرافق عظيم، وكما قال روهان بيك: "تعظيمك لمكانة رفيقك هو مديح لنفسك".
بلغنا حدود المخيم وكانت بانتظارنا حاشية تضم عشرين جنديا لترافقنا، وسرني ذلك كثيرًا وعزَّز مكانتي النفسية كباشا، وكانت المفاجأة حين طلب مني أن أقوده إلى حيث هاجمتنا الضباع، وعلمت أنه اختبار لما ادعيته، هذا اللعين يبدو أذكى مما تدل عليه تصرفاته.
وفي غياب جودت وإيليا وأبيه واختفاء الخرائط لم يتبق مَنْ يعرف مكان الذهب غير الكعب، لهذا يرغب في أن يختبرني قبل أن يأمر بقتله، لابد أن أكون أكثر حذرا، وبدأت أراقب الجبال والتلال وكل شيء يمكن رؤيته من بعيد، ولم أكن في حاجة إلى هذا كله كي أستدل على مكان الضباع، وثرثرت كثيرًا حتى أصبته بالملل:
- انظر يا سيدي إلى ذلك الجبل لقد أخبرني جودت أن رؤيتي له ستذكرني بأني سأمر بالقرب من صخرة كبيرة.
وتكرار ثرثرتي دفعه ليأمرني بالصمت، ولم يتوقف عن مراقبتي، لم نكن نتجنب الطرق المألوفة، وصادفنا بعض العرب، ثم وصلنا إلى المنطقة الأثرية، ومنها إلى الصخور وجحور الضباع، وأشرت بيدي فطلب مني ألا أنبس بحرف حتى يأذن لي، وحين صرنا في المكان المنشود وشاهد آثار الدماء التي جفت، أمر جنده ببدء البحث عن مفكرة جودت، وحذرهم من الضباع الكامنة في الجحور، وسألني عن المكان الذي دُفن فيه أبو إيليا به فقلتُ له:
- كنت مختبئا بين الصخور لهذا لا أعرف عنه شيئا، ربما تخطَّفته الضباع.
ثلاثة من الجنود يقفون بالقرب منا، وبعدما أمرهم بالانضمام إلى البقية واطمأن ألا يسمعنا أحد سألني عن مكان دفن الذهب فأشرتُ له بيدي وقال:
- هل أنت متأكد؟
فقلت:
- نعم.
فقال:
- إن حفرنا سنجده؟
فقلت:
- أنا على ثقة سيدي.
اقترب من الصخرتين يتفحص التربة، ثم عاد وربت على كتفي وصمت، وانتقلنا إلى الصخرة التي نقش عليها أبو إيليا -رحمه الله- رموزه ورأينا نقشًا لثلاثة أصابع ونقشًا رابعًا كان واضحا أنه لم يسعه إكماله بسبب حادثة الضباع -لعنة الله عليها وعلى العرب- وهمس في أذني أن أدله على مواقع أخرى، لم أشأ أن أطلعه على بقيةِ المواقع، ولكني اضطرابي لتذكري ليلة الضباع دفعني لأخبره أننا مررنا عليها في طريقنا، فسأل:
- لماذا لم تخبرني؟
فقلت:
- لأنك لم تطلب مني سوى أن أدلك على هذا المكان، وأنا لا أحب الثرثرة فيما لم يُطلب مني يا سيدي.
ضحك واختبرني بثلاثة مواقع أخرى وفي طريق العودة مالت الشمس إلى الغروب، وطلب مني أن آخذه إلى أقرب مواقع الدفن إلى المخيم، وعند وصولنا إلى الصخور التي تشبه رأس الخنزير صرف جنوده بعيدا للبحث عن المفكرة وأمرهم ألا يعودوا إلا بإشارة منه، ثم طلب مني الحفر ليرى جرة الذهب بعينيه، فأستحضرتُ سانتورًا ليقول له:
- أحتاج القليل من الوقت لأصرف الجن يا سيدي.
فقال:
- أتمازحني ياعزيز؟
فقلت:
- أقسم بالله أني جاد فيما أقول وإن لم تصدق تعال واحفر بنفسك وسترى جان الـ"قاقا باقا" الذين سخرهم الشيخ لحراسة الذهب.
كان بين مُصدِّقٍ ومكذب عند قوله:
- وكيف ستصرفهم؟
فأخبرته أني كنت أراقب الشيخ وهو يعلم خادمه بيبرس كيف يصرف الجان عن الذهب، فقال:
- هيا اصرفهم إذًا.
وصرف جان طبرق لم يكن صعبًا، القليل من الهراء كافٍ لطرد الهراء، لم أجرؤ على التجرد من ملابسي مثلما كان يفعل طبرق، ولكني شرعتُ أقلد حركاته وأنشد الـ"باقا قاقا" بطريقة عكسية:
- (اقاق اقابلا اقاق اقبلا).
ثم امتنعت عن الحركة، وبدأت أتحدث إلى الصخرة وكأنها تسمعني، وألوح بيدي وأرسم في الهواء دوائر ومربعات، وأتمتم، وأغمغم واكتشفت أني موهوب في صرف الجان، ولست أقل خبرة من الكعب، وربما يوم ما سأطيل شعري وأشتري عباءة، وثلاث خناجر، والكثير من الخواتم، وأتوج نفسي ملكا على الجان...انتهيت من صرف الهراء وسرت نحو شكيب جاحظ العينين فناولني مجرفةً صغيرةً ولم ينطق، حفرت حتى ظهرت الجرة، وطلبت منه أن يساعدني في إخراجها لثقلها فأمرني بتركها مكانها وكسر قطعة صغيرة منها تمكنه من رؤية الذهب فقط، وثلاثة ضربات كانت كافية لأشقها ومع الرابعة لمعت عيناه وبرقت، وفقد السيطرة على لسانه من سحر ما رأى، وقال:
- ادفن، أسرع، ادفن، أعد التراب.
تلفتَ حوله وكأنه خشى أن تشاهد بريق أجساد جواريه العارية أعين متطفلة، وللحظة سرني أني من قمت بتعريتهن، وبصقت عليه في خيالي وأخبرته أنني صاحب هذا الذهب ولن يحصل عليه غيري...انتهيت من طمر الجواري الحسان وأوصاني بإخفاء كل أثر ونفض ملابسي من التراب، وتحركت وفاجأني حينما قال:
- ألن تعيد الجان ليحرس الذهب؟
هل يسخر مني أزرق العينين أم بدأ في تصديق الهراء بفعل سحر الذهب؟ لم يكن أمامي خيار سوى أن أعيد مسرحية الكعب الهزلية غير مبالٍ بما يعتقد، فإما أنني صرتُ أحمقًا في نظره، أم صار هو الأحمق ليصدق هذا الجنون، وأديت رقصة السعدان وأنشدت الـ"قاقا باقا" كما ينشدها الكعب هذه المرة، ثم أخبرته أني انتهيت، وبناء على طلبه صحبته إلى الصخرة ذات النقش، وبعدما عدَّ الخطوات التي تفصلها عن الجرة المدفونة سألني:
- لماذا كان نقش الرموز قريبًا من الدفن عند جحور الضباع؟
ولم أشأ إخباره بأن جودت لم يجد صخرة بعيدة عنا، أو أنه كان خائفًا من إطالة البقاء، وأحنيت رأسي وأخبرته أني لا أعرف.
غربت الشمس وأنار ثلثا القمر طريق العودة، وطرح علي ألف سؤال وأصابني بالملل، وسرني أنه لم يختبرني وإنما أراد التأكد من قدرتي على الوصول إلى كل موقع الذهب، هذا الحقير يعتقد حقًا بأني سأرشده ليسرق ذهبي ثم يلحقني بجودت بعد انتهاء دوري، ولكن لا بأس فإن آمن بهذا فسيكون ترتيبي الأخير في قائمة الموت.
غادرنا الجنود ودخلنا المخيم، وبلغتُ خيمتي مرهقا عطشا جائعا؛ فمذ حديث حيان عن سم الأثرياء القاتل وأنا ممتنع عن الطعام والشراب حتى أطمئن أن فاطمة لم تسممه.
وأشرقتْ شمس الأحد وعزمتُ على بدء نهاري بالاطمئنان على صديقي القديم جودت أفندي؛ فلو عدل عن رأيه في مفارقة الحياة ستهلكني شخصية السانتور الجديدة التي اضطررت لها مؤخرًا، ذهبت إلى خيمته الجديدة حيث يرقد وبجواره سالم الأبله والطبيب، وسبحان مقلب القلوب! لقد رقَّ قلبي مذ وقعت عليه عيني، ودعوت الله له بالشفاء! و تراجعت فورا عن دعائي لما فيه من المخاطر بعد الأكاذيب التي كذبتها على لسانه...تركته وذهبت لأطمئن على ما تبقى من ذهبي حيث استوطن شكيب، فاعترض طريقي الرومي البغيض وكان مُهذبًا في تلقيبي "عزيز باشا"، ورجاني ألا أوقظ اليوزباشي.
ذهبت إلى نجمة وأدهشني أنها عافتْ العلف والماء؛ لم ينقص مما تركته أمامها شيء، كانت على غير عادتها، رأيت الحزن في عينيها، هل يعقل أن الحيوانات تعي ما يدور حولها وتمتلك من المشاعر ما يفتقده البشر من أجل متاع الدنيا! ولكن لا بأس سأعيد السرور إلى قلبها وسأعتني بها، هذا ما أوصاني به جودت قبل موته لقد قال:
- اعتن بنجمة يا عزيز ولا تسمح لأحد أن يمتطي ظهرها غيرك؛ تلك هي وصيته قبل موته.
لن يصدق أحد هذه الكذبة ومثل هذه الفرس الأصيل ستلفت الأنظار نحوي وتفضحني لذا يجب أن أتنازل عن فكرة الاستحواذ عليها، سأتركها لشكيب، ولكني لن أتنازل عن نعناعة قط.
لم نتجاوز العاشرة صباحا وزارتنا عاصفة شرسة ألقت علينا السلام، ولم تطل البقاء، وأخذت معها خيمة الكعب والكثير من الخيام، فهرعت أنا وجمال الدين لمساعدته في لملمة الكثير من الثياب ذهبت مع الريح وجاوزت حدود المخيم لتحط في أحضان الأغربة السود القابعين خلف الصخور، كانت خسائر نعناعة كبيرة؛ حلَّقت رائحتها الأنثوية مع ملابسها الحريرية إلى ما الصخور حتى عبرت النهر، وكاد الكعب يطير وراءها.
ركضنا لاهثين في مطاردة حرير نعناعة، وتذكرتُ صديقي طبيلة حينما كان يركض ويطارد الفراشة، وتشاءمت؛ فما حدث لا يبشر بخير.
انتهينا من صيد الحرير وجمعه وشعرت بالاشتياق لصديقي الضخم وذهبت إلى قبره عند النبعة، وجلستُ إلى جواره واسترجعت مواقفه البريئة وبذلتُ جهدي في استعطاف الدموع لتزور وجنتي وأشعر بحرارتها، وبخلت عيناي بدمعة واحدة فتذكرتُ ما قاله روهان بيك: "عندما تتحجر المشاعر تجف الدموع.
أحدث طبيلة لعله يسمعني:
- أحتاج أن أبكيك يا صديقي ولكن دموعي أبت أن تطاوعني، هي لم تفارقني يوما ولكنها خذلتني عند احتياجي لها، أعدك يا صديقي عندما أعود مع الذهب وأكون ثريا سأزور أمهر الأطباء ليعيد إليَّ حزني ودموعي، وسأذكرك وقتها وأبكيك كثيرا، لن أدعو لك بالرحمة ولن أدفع لأحد قطعة ذهب واحدة ليدعو لك بها؛ لأن مثلك لن يحتاج إلى دعاء أحد؛ يا ملاكي الضخم لا تنس يوما أني اعتنيت بك وأطعمتك، واعلم أن الجنة فيها ما تشتهيه الأنفس، ولن تجوع فيها أبدا، ولكني اليوم أقف على أبواب جهنم وأحتاج إلى شفاعتك، فلا تنس صديقك "عذيز عذيز"، وأرجو منك ألا تشفع لأحد غيري فجميعهم أنذال لا يستحقون، وجميعهم يخططون لسرقة الذهب، ولم يفكر أحد منهم أن ينذر جزءا منه لعمل الخير سواي، أنا ولا أحد سواي عزم على بناء مسجد ومدرسة، وأيضا سأبني ملجأ للعمالقة المساكين أمثالك، ولو كلفني الأمر أن أبحث عنهم في كهوف الغيلان، وسأطعمهم كل يوم وجباتٍ ثلاث، وسأشتري لهم كسوة ونعلاً كل عام، وسأدعو الله ألا يكون عددهم كثير، وألا يكون لك إخوة يعيشون في تلك المغارة بالقرب من رام الله حتى أستطيع الوفاء بنذري.
لم أنتهِ من نذوري الجديدة لعلها تدخلني الجنة حتى قاطعني صوت ينادي بما أحب أن أسمع:
- عزيز باشا عزيز باشا.
كان الرومي خلفي، جاءني ليستدعيني لمقابلة اليوزباشي فلبيت نداءه، دخلت عليه وكان يحتسي قهوته وعلى الطاولة آثار تدل على أنه تناول إفطاره، يبدو أن الرومي خادم في ثياب العسكر، امتعضت لسرقة مكانتي، وطلب مني الجلوس على أحد المقاعد وبدأ يحدثني كصديق، ولم يفعلها جودت، وكانت المفاجأة؛ بعد دقائق دخل الرومي وقدم لي فنجان قهوة، لا أكاد أصدق نفسي هذا الشكيب يعلي من قدري، ويجيد التعامل معي مثل الباشوات، تركت حذري من سم فاطمة وأجبرت نفسي على احتساء القليل منها، كم أكره القهوة! وأكره التفكير في أن الرومي بصق فيها، سأقتلك أيها الخادم رومي إن ثبت أنك فعلت ما أفعله مع الآخرين! شعرت بطعم البصاق فيها وبالرغم من ذلك أسكرتني متعة غريبة؛ لقد صرتُ سيدًا أجالس السادة.
تحدثنا واستمتع بحديثي وعلمتُ أنه لم يطمئن على جودت منذ الأمس، ستة أمتار فقط تفصله عن خيمته، ودقيقة واحدة ستكون كافية ليطمئن عليه ولم يفعل، إن انعدام وفائه لا يبعث على الطمأنينة ويثير بداخلي القلق...وقف وتبعته إلى خيمة الذهب، وقد اختفت جرةٌ ثانية، لقد سرق الملعون جرتين من ذهبي وإن تهاونت معه سيسرق بقية الذهب، لابد أن أراقب لأعرف مكان إخفاء الجرتين لأخرجهما لاحقا عند عودتي، ازدحمت الخيمة بعدة صناديق حديدية صغيرة لا يتجاوز عرضها وطولها وارتفاعها أربعين سنتيمترًا، وصندوق كبير يزيد عرضه وطوله عن الثمانين سنتيمترًا، لم أدر شيئا عن موعد وصولها أو كيفيته، فأنا أحتاج إلى عشرة من عزيز المتلصص لأتمكن من مراقبة كل شيء في هذا المخيم...أمرني أن أملأ ثلاثة من الصناديق الحديدية بالذهب وأن أطمئن على إغلاقها جيدًا، واتسع كلُّ صندوق لأكثر من ثلث ما تتسع له الجرة، وحينما انتهيت طلب مني الذهاب إلى الشيخ وإبلاغه بأننا سننطلق جميعا مع الغروب لدفن الصناديق.
أسرعتُ إلى الكعب وأخبرته، وسألني عن قصدي بالصناديق، وهنا شككت بأن إرسالي كان لهدف أن أخبر الكعب بأني ملأتُ الصناديق ذهبًا وليس من المُستبعد أن يفرغها ويملأها ترابًا، وعدتُ إلى شكيب لأعلمه بأني أبلغت الكعب فطلب مني ومن الرومي أن نجرَّ الصندوق الكبير خارج الخيمة وكان ثقيلاً فساعدنا، وبصعوبة بالغة تمكنا من جره، أمَّا الصناديق الصغيرة فكانت خفيفة الوزن فخلتُ أني أستطيع حمل اثنين منها بمفردي.
انتهينا وكان لدي متسع من الوقت حتى غروب الشمس، قضيته بالتجوال، وكنت أشتم رائحة مؤامرة في كل بُقعة من المخيم، أعلم جيدا أن شكيب أمر جمال بقتل الكعب، وأن جمال طلب مساعدة حيان، وما أراه من انسجام بينهما يدل على اتفاقهما، ولكن هل سيصير اللئيم غبيًا لينولهم فرصة قتله!
وبعد غروب شمس الأحد أخذنا أهبة الاستعداد للانطلاق، كان الصندوق الحديدي ثقيلا، ومن سيرفعه على ظهر البغل المسكين؟ وهنا جاء دور جمال الدين وأرسل في طلب مفتول العضلات حيان ليساعده في التحميل، وهذا التكتيك أثار إعجابي، وكان كافيًا لإقناع الكعب بضرورة مرافقة حيان، ومرافقة شكيب لنا أزالت كل أثر لشك، وانطلقنا...الكعب المسكين سيواجه هذه الليلة ثلاثة قتلة بمفرده، وفرصة نجاته شبه معدومة، وتساءلت كيف ستنجح خطة هرب جمال وحيان بعد قتل الكعب برفقة شكيب؟ ولم يتأخر الجواب؛ بعد خروجنا من حدود المخيم بعدة أمتار سمعنا صوتا قادما من الخلف، التفتنا وكان الرومي مسرعًا نحونا، همس في أذن شكيب، وهنا اعتذر عن مرافقتنا وعاد أدراجه...لم أدر هل طرأ طارئ أم كان جزءا من الخطة الجهنمية التي لم يطلعني أحد على تفاصيلها؟ وبعد مغادرة أزرق العينين رأيتُ ابتسامة الكعب.
هذه الابتسامة أثارت بداخلي الريبة، وأردت أن أخبر حيان بأن الكعب يعلم مسبقا بنية قتله على يد جمال الدين ولكني تراجعتُ، لعلي كنت موقنًا بأن الكعب لن يتمكنَ من التغلب على قاتلين فارعي الطول تم تدريبهما في الجيش على القتل، وماذا يمكن لكلماتي أنا القصير الهزيل أن تغير شيئا من الواقع! لم نبتعد عن حدود المخيم كثيرا، ربما نصف ساعة مشيا على الأقدام والقمر بثلثيه كان منيرًا، والسماء صافية خالية من الغيوم، ورنين السلسة التي يجرها حيان خلفه أصابتنا بالصداع، وطلب منه جمال أن يرفعها فوق كتفه، وتوقف الكعب بجوار بئر جافة لم تبلغها الأمطار؛ ربما لأن مَنْ حفرها أخطأ في اختيار مكانها، وربما حُفرتْ أثناء الحقبة البيزنطية، ولتغير تضاريس الأرض بمرور الزمن ما عاد موقعها يناسب تجمع الأمطار...أمرني الكعب جلب مجرفةً وفأسًا وحبلاً واللحاق به، ولم يطلب من القاتلين شيئا، ولابد أنهما وجداها فرصة لتخطيط تنفيذ القتل، اقترب من البئر وجثا على ركبتيه ومدَّ رأسه في عنقها، ثم ربطنا الحبل سويًا في شجرة قريبة، وأمسك بالحبل وانزلق إلى قاع البئر وجميعنا نراقب، وكانت فرصة ذهبية للقاتلين، ولم تمر نصف دقيقة حتى خرج من البئر ونادى عليهما ليحضرا ثلاثة صناديق إلى جوار البئر، ولم يجد الحقير غيري ليطلب منه النزول، وبدأ يرشدني على مسامعهما إلى الزاوية الصالحة حفر ودفن الذهب، وما كنت لأخالفه على فزعي ورهبتي من الآبار...أمسكت الحبل استعدادا للنزول واقترب مني هامسًا في أذني:
- كن حذرا، فالبئر مليئة بالأفاعي، وإن اقتربت منك إحداها تجمد مكانك وستبتعد من غير سوء، ولا تفزع فهي لن تهاجمك إلا دفاعا عن نفسها...
لم يكن هناك داعٍ لأسمع المزيد عن الأفاعي التي علا فحيحُها في خيالي وهاجمتني ولدغتني حتى جرى سمها في عروقي، وألقيت الحبل وأسرعت مبتعدًا عن البئر، وبأعلى صوتي أعلنت:
- لن أنزل ولو قتلتموني.
المسخ يضحك في جنون ولم يفعلها من قبل إلا حينما أراد جودت أن يرسلني لشراء الطعام من العرب، المسخ اللعين أبهجه خوفي وأصر على نزولي البئر فتدخل الشجاع حيان وأحكم ربط الحبل في الشجرة وشد السلسة على خصره حتى لا تعيق حركته وأمسك بالحبل واستعد للانزلاق إلى قعر البئر ونظرات الكعب الخبيثة حركت كل حواسي وأدركت أن همسه في أذني كان جزءًا من مخطط خبيث لدفع حيان إلى نزول البئر دون إثارة الشكوك، ولم أجد ما أفعله سوى أن أرفع صوتي لعل حيان يفهم ويأخذ حذره! قلت:
- يا شيخ طبرق أنت لا تدفن الذهب في الآبار! يا شيخ أنت لم تدفن الذهب في الآبار من قبل.
والأحمق حيان الذي اعتاد أن يفكر بقلبه لا عقله تجاهل ما قلت وانزلق إلى البئر ودعوت الله أن تكون الأفكار التي راودتني أوهامًا، مدَّ الكعب رأسه في عنق البئر وسأله عن التربة.
فأجابه حيان:
- إنها جافة.
فطلب منه اللئيم الخروج قائلاً:
- اصعد؛ فهذه البئر لا تصلح لدفن.
وماذا كان يريد الخبيث أن يسمع من حيان ليجيز أن قاع البئر صالح للدفن؟ هل أراد أن يسمع: إن التربة مبللة!
تسلق حيان الحبل وأطل برأسه وكلمحٍ بالبصر سحب الكعب خنجره وحاول حيان صده بيده، وسمعت صوت ارتطام جسمه بقعر البئر، وملامح الكعب دلت على أنه لم ينجح في ذبحه، بالرغم من آثار الدماء على نصل خنجره، جمال الدين تجمد مكانه وبدا مرعوبا، فرماه الكعب بنظرة وقال:
- صدق عزيز، أنا لا أدفن الذهب في الآبار إنما أدفن الرجال، ما رأيك أن تنزل البئر لتنظر إن كان حيا؟
صمت جمال ولم يرد عليه، فتابع:
- اذًا هيا اظهرا بعض الشفقة نحوه وأسرعا لنريح هذا الرجل من عذابه، فلا داعي لأن نتركه يموت جوعا وعطشا، سنغلق عنق البئر ونمنع عنه الهواء ونهبه موتا سريعا، تعال يا جمال وساعدني في دفع الصخرة، وأنت يا عزيز اخلط التراب بالماء وآتني به.
وماذا أفعل أنا غير الطاعة إن كان جمال الدين مرعوبا ولم يفعل شيئًا لإنقاذ شريكه، فعلتُ ما طلبه ودفعنا الصخرة بعد ربطها بحبل وساعد البغل في جرها، وأغلقنا منافذ الهواء، وليتني تمكنت من إحداث شق ليتنفس كما فعلت مع عبد القادر! ولكن مَنْ أنا لأواجه الكعب! حملنا الصناديق الحديدية الصغيرة على الحمار مرة أخرى، وسرنا ما يقارب الساعة وفي الطريق سأل الكعب جمال ساخرًا ولم يلتفت اليه:
- هل أحضرت مسدسك الذي تخفيه تحت الصخرة ليدرأ عنا خطر الضباع، أم أنك اعتمدتُ على خنجر صديقك الذي أخفاه تحت ملابسه؟
وعى جمال الدين رسالة الكعب، لقد كشف الخبيث مخططهما لقتله واستعد لهما، وهذه الليلة المشئومة لن تكون نهايتها سعيدة، وعلى الفور نزع مسدسه من خلف ظهره وصوبه نحو الكعب الذي التفت إليه قائلاً وهو يضحك:
- هل قتلت أحدا في حياتك؟ الأمر ليس بهذه البساطة يا جمال، والآن أخبرني قبل أن تقتلني إن كنت معتقدًا أنك قادرٌ على ذلك، هل أمرك شكيب بقتلي؟ وهل تعتقد أنه سيتركك على قيد الحياة أنت أو غيرك؟
زاغ بصر جمال، وبرقت عيناه رعبًا، وارتجف سلاحه في يده...والكعب كان مطمئنا وكأنه يواجه وردة تهديها له نعناعتي ممَّا أثار ريبتي، وحان وقت ذاكرتي اللعينة؛ أتذكر ملامح وجه الحذاء عند الخطر، وأتفحص وجهه الآن؛ هذا السفاح لم يكن شجاعا قط عند مواجهة الموت، ودائمًا يأخذ فريسته على حين غرة؛ فهو جبان خائن قبل أن يكون قاتلاً سفاحًا، لقد أدركت استعداده لهذه المواجهة وعزمتُ ألا أكون متفرجًا؛ وقفت بين الاثنين ظهري ناحية الكعب وجعلتُ من صدري درعًا يواجه مسدس جمال، وقلت له:
- اقتلني أنا ولا تقتل سيدي الشيخ طبرق!
<<<<<<<<<<نهاية الحلقة 58>>>>>>>>>>
Comments