top of page
صورة الكاتب

جرة ذهب - الحلقة السابعة والخمسون

اشتد بي العطش فذهبت إلى النبعة وشربت من الماء الجاري حتى ارتويت؛ فلا يقدر أحد على تسميم النبعة، عدت وأعددت القهوة وذهبت إلى جمال الدين لعله يبوح لي بمخططه لقتل الكعب! لأفضحه وأنتهي منه إلى لأبد، قدمت له تقريرًا مثل البقية. وقال:

- ألا تريد أن تعرف كيف سأخلصك من أعدائك الثلاثة؟

فأجبته:

- لا أعداء لي ولكن لا مانع أن أعرفهم، وكيف ستخلصني منهم؟

قهقه كعاهرة هو الآخر، وقال:

- إن طاوعتني وتعاونت معي ستفوز بالجائزة وحدك ولن ينافسك عليها أحد ولكن أرجوك يا مولانا توقف عن البلاهة وافتح أذنيك جيدا.

- أنا مصغٍ ولكن لا تكن مُلغزًا في حديثك.

- بضربة واحدة ستفوز بنيروز وتتخلص من حيان ومن طبرق ومني أيضا، ما رأيك في هذا العرض؟ وقبل أن تجيب أرجوك لا تحاول التظاهر بخلاف ذلك وأرحني من أسلوبك اللعين، اتفقنا؟

فاجأني هذا الملعون، وأراه غامضا في كلامه، كيف يمكن أن يحدث هذا؟! جمال الدين يعرض عليّ أن يخلصني من نفسه، وهل يمكن أن أعترض!

وسألته:

- وما الذي أوحى إليك أنني أريد التخلص منك؟ كن واضحًا يا جمال، وأفصح عن نيتك، هل تنتوي الهرب، وتأخذ معك حيان والشيخ طبرق؟

- لا، أنا وحيان سنموت وطبرق سيهرب وأنت ستفوز بنيروز، وستكون الشاهد على هذا، والآن تعال معي وساعدني على إقناع حيان بالخطة.

لم أفهم شيئًا مما قال، وتبعته إلى خيمة حيان وكان استقبال ابن العربية لنا فاترا، يبدو أنه نسي أنه مكبَّل، ولولا كثرة الخيام لنام تحت شجرة.

كان حيان مباشرًا في حديثه؛ قال لجمال الدين:

- أوجز في كلامك!

- هذا الأسبوع شكيب سيقتلنا جميعا ولن يستثني أحدا.

ضحك حيان:

- وهل أخبرك بذلك؟

- لا داعي ليخبرني بذلك، فقد أمضيت ثلاثة أيام في معسكره قبل أن يكلفني بقافلة المؤن، وسمعت عنه الكثير، ويعقوب تلميذ صغير في مدرسته.

فسأله:

- وكيف تأكدت من ذلك.

- أمرني شكيب بقتل الشيخ سرا، وهذا يعني أنه تجرأ على قتل رجل جمال باشا، ثلاثة في هذه القافلة لا يجرؤ أحد على المساس بهم: جودت، وطبرق، وفاطمة.

فسأله:

- وكيف أثق بأنك تقول الحقيقة؟ وهل تريد أن أهرب معك؟

- خطتي جهنمية لن تجبرنا على الهرب والاختباء كالفئران، ولن يطاردنا أحد، اليومَ سأطلب من شكيب إذنًا بخروجي مع الشيخ وعزيز لدفن الذهب، وسأتمكن من إقناعه بأن ترافقنا، وستقتل أنت الشيخ، ثم نتقاسم الذهب ونختفي، وعزيز الصادق الأمين لا يشكك في شهادته أحد، سيعود ويبلغ شكيب بأن طبرق قتلنا ودفننا، وستمر أيام قبل أن يفتقد أحدٌ غياب الشيخ لاعتياد الجميع غيابَه، وعندما ينقطع أثره سيعتقدون أن سوءا قد لحق به، أو أنه هرب مع الذهب، وأشك أن تكون مطاردته إلى أقاصي الأرض، وسيسجل التاريخ أنه الوحيد الذي فشل الجيش العثماني في العثور عليه، وكلانا لن يكون ضمن قائمة الأحياء ليطاردنا أحد.

- ولماذا تعتقد أني أرغب في قتل الشيخ؟ ولِمَ لا تقتله أنت؟

- لن أستطيع التغلب عليه بمفردي.

طال الجدل ولا يبدو أن جمال الدين سينجح في إقناع حيان...تركتهما، وحدثت نفسي: حقًا هذا الجمال داهية وخطته جهنمية، وربما تكون سببًا في موت الكعب، ومع اختفاء المفكرة، وموت جودت، عندئذٍ لن يكون أمامهم خيار سواي لأدلهم على مواقع الذهب، أعتقد أنها ضربة ثلاثية جهنمية كما وصف جمال، وسأفوز بنعناعة في النهاية، وإن كان المسخ قد أوهمها أنه أمير ممالك الجان فلن أعجز عن إقناعها بأني ملك من أقاصي الأرض أتخفى في شخصية عزيز حتى يلتفَّ حولي أعواني وأسترد مملكتي، وربما سأقنعها بأنى الشيخ طبرق نفسه ولكن في صورة عزيز، ولن ينقصني إلا أن أنهق وأصرخ في الجميع وأكون لينًا معها، ولكن العقبة التي لا يعرفها غيري أني حذرت الكعب سلفا، ولابد أنه استعد للقاء جمال ، أمَّا أنا فلن أشغل عقلي، وقريبا سيُقتل أحدهم وسأناصر القاتل ضد القتيل.

قضيت أكثر من ساعة برفقة الحبيبة نعناعة، ونصف دقيقة للاطمئنان على جودت، ونصف ساعة في محاولة إعادة ترويض سالم، وبينهما رأيت جمال يذهب إلى شكيب ويمضي معه القليل من الوقت، ويعود إلى خيمة حيان، ومن بعيد رأيت فاطمة تجول برفقه كيموو الزنجي، ولم أمنع نفسي من مراقبتها قليلا، ولمَّا أصابني الملل ذهبت إلى خيمة القاتلين المقتولين؛ جمال وحيان ووجدتهما منسجمين، يبدو أن الكعب المسكين وحّدهما بطريقة ما، لم أتفاجأ، ولم أخفِ إعجابي بقدرات جمال الدين، هو أدنى رتبة من حيان، وربما هذا أحد أسباب تأدبه في معاملته، هما من أبناء الجيش، أحدهما ملازم والثاني جندي انتقل إلى السرخفية، وهذا القاسم الوحيد بينهما.

جلست في صمت ولم يتوقف جمال عن محاولة إقناع حيان بمخططه بعدما حصل على موافقة شكيب في أن يرافقنا حيان، لم أشأ إخبارهما بأن الكعب على علم مسبق بنية جمال في قتله، فإذا انضم حيان إلى جمال قد يتمكنا معًا من قتل المسخ اللعين، وبالرغم مما سأحققه من اختفاء الثلاثة من حياتي إلا أني لم أرغب في موت الكعب، يراودني إحساس أن موته لن يجلب عليَّ خيرًا، ووجود نعناعة في أحضانه أو أسفله لا يؤثر في؛ هو بغيض وقبيح وأنا شديد الوسامة مقارنة به، ولكن جمال وحيان فارعي الطول ووجودهما بالقرب منها ينغص عليَّ حياتي.

انتقل جمال من حديث لآخر وحاول أن يجر حيان للحديث عن والده، ولكنه صده بقوة، وضحكت سرًا فهذا الحيان يعتقد ألا يعرف قصته أحد، فقد ثرثر لي قريبه رشيد عنه كثيرًا:

والد حيان كان ضابطا كبيرا في الجيش العثماني، وأثناء خدمته شرق الأردن تزوج ابنة أحد شيوخ القبائل وأنجب منها هذا الحيان ثم هجرها ورحل، وبعد خمس سنوات عاد مع قوة كبيرة من الدرك، وطلقها وأخذ ابنه بالقوة ورحل ثانيةً، وانقطعت آثاره، وأقسم جدُّ حيان لأمه أن يقتله ولو كان في أحضان السلطان، ونشأ حيان في أحضان أمٍّ تركية ومعسكرات الجيش وعاد ببدلة العسكر باحثًا عن أمِّه العربية سرا، ومِمَّا رواه رشيد أن أحد أخواله المطلوبين لدى الدولة كاد يقتله لجهله به، ولُمَّ شمل العائلة ليكتشف حيان أن أمه بعد طلاقها من أبيه العثماني تزوجت من عربي وأنجبت له أختًا وأخًا، وحرص على علاقته بأقاربه العرب دون معرفة والده، وبعدها بسنوات وجد طريقه ليخدم الدولة بفلسطين وشرقي الأردن، والمثير في هذه القصة أن والده طمس كل أثر يدل على أنه ابن عربية حتى أنه استبدل اسمه في الأوراق الرسمية إلا أن حيان تمسك منذ صغره باسمه الأول، واعتاد الجميع عليه كلقب، وقصته هذه لا يعرفها أحد من الأتراك، وأنا كتركي وفيّ للدولة وجيشها لو عرفت هذه القصة في حالٍ غير هذه ما كنت لأتردد في فضح أمره؛ حتى لا يرتقي سلَّم قيادة الجيش وفي عروقه دماء عربية؛ ولكن للقافلة الملعونة قوانينها الخاصة، ولن تميز بين تركي أصيل وهجين، والأسرار الوحيدة التي تعرفها ليست سوى الذهب.

حين انتقل جمال الدين للحديث عن رباب المصرية، حاول حيان التجاهل والتزام الصمت كعادته عندما يتعلق الحديث بالنساء، وأخبره جمال الخبيث بأنه رآها تتسلل إلى خيمته، وسأله عن سر علاقتها بفاطمة، واكتفى حيان بهز رأسه نافيًا معرفته، ولعله فضل الصمت! وهنا استعرض جمال مهاراته في المراقبة والقدرة على التحليل والاستنباط، واستدراج الآخرين إلى الحديث، فقال:

- رباب عربية شرسة لا تحني رأسها لأحد، وفاطمة مغرورة تتصرف وكأنها ابنة سلطان، وما حدث مع جودت يدل على أن هذه المصرية أشبه بطبيبة، وكم شاهدتها تركض مسرعة إلى خيمة فاطمة! فهل ترجح أن فاطمة مريضة بمرض ما؟ لا أعتقد أنهما مجرد صديقتين!

لم ينطق حيان حرفًا...صوت ناعم بغيض وصل إلى مسامعنا من خارج الخيمة:

- (عزوووو عزووو).

ابتسم الاثنان وقال جمال الدين:

- أسرع يا عزوو ولا تترك حبيبك يحترق بشوق الانتظار.

ذبت خجلاً وقلتُ غاضبًا:

- حبيبك أنت وليس أنا.

- لا تغضب، أنا أمازحك فقط، ولكن اخرج إليه فلا حاجة ليدخل ويرانا مجتمعين وتدب الغيرة في قلبه يا عزووو.

بصقت على حيان وجمال بعد خروجي من الخيمة، ولم يكن أمامي مفر إلا أن أصفع هذا المخنث وأحذره من الاقتراب مني ثانيةً، ولكنه همس في أذني:

- أحمل لك هدية، وأخبارًا مثيرة.

قررت تأجيل الصفعة لحين اكتشاف الهدية ومعرفة المثير من الأخبار، وذهبنا تجاه خيمتي ورفضت الجلوس معه داخلها أو خلفها، واخترت الجلوس في مكان لا يثير الشبهات، ويحد من قدرته على التحسيس، وبعد جلوسنا ناولني قطعةَ لحمٍ مقدَّد رائحتها تصرخ وتدعو لالتهامها بلا تردد، وأخبرني أنها وصلتهم حديثًا، أخذتُها ومنعتُ نفسي من تذوقها حتى أطمئن بأنها ليست مسمومة، وسألته:

- من أحضر هذا اللحم الفاخر؟

فقال:

- لدينا مؤننا الخاصة فنحن لا نأكل طعامكم.

أخذ قطعة وأراد أن يضعها في فمي وتملصت منه بصعوبة، هذا الأحمق يعتقد أني سآكل شيئا قبل أن يتذوقه أحد، ماطل كثيرا قبل أن يطلب مني القسم بألا أخبر أحدا، أقسمت وأخبرني أن قافلة فاطمة سترحل عن المخيم خلال عدة أيام وإن وافقتُ سيقنعها بأن أنضم إليهم.

عرضه لمرافقتهم كان مثيرًا، ولكن ما كنت لأتخلى عن نعناعة وما تبقى من ذهب لم يدفن بعد، ولأن أكون برفقة موت يعرفني وأعرفه خيرٌ من مرافقه موت أجهله.

أخبرته بأني سأفكر في عرضه، وقبل أن أسأله عن وعده لي بمشاهدة تمثال نبوخذ نصر اقترب منا المسخ، واعتقدت وقتها أن ما جذبه رائحة اللحم المقدد ولكن تبين- أن رائحة الملط كانت أقوى! حاول الكعب تنعيم صوته ومهما حاول سيبقى نهيقًا:

- كيف حالك يا مالت؟

ابتسم الملط ومهما حاول أن يخشن صوته سيبقى أنعم من صوت النساء:

- مليح، كيف أنت شيخ تبرك؟

- أنا مليح مليح، ما رأيك يا مالت ان آخذك الليلة لتشاهد الجان الأرجواني.

فغر الملط فاهه وقال:

- يا الله! هل أنت جاد؟ نعم أريد رؤية الجن الأريجاوني.

هز الكعب رأسه وابتسم:

- تعال بعد الغروب مع عزيز وسأنتظرك، سأذهب الآن.

وكأن هذا ما ينقصني، أن ينتزع الكعب قلب الملط ويأمرني بطهوه مع البصل، ويورطنا مع فاطمة، هذه القاتلة لن ترحم أو تتهاون إذا قُتل خادمها ومتلصصها، وويلي إن اكتشفت أنى من صحبته وطهوته، ماذا يمكن أن تفعل بي هذه المجنونة، وهي تكرهني دون سبب، فقلت له:

- أنا لا أنصحك يا مالت أن تذهب مع الشيخ فالجن مؤذٍ جدا وبخاصة الأرجواني منه.

- أريد أن أقابلهم وأنت أخبرتني أنهم وسماء الطلعة.

- نعم وسماء ولكن الأرجواني قبيحٌ ومؤذٍ.

- وهل تعرف الأرجواني هذا؟

- لا يعرفه أحد أكثر مني، وسأخلصك من هذا الموقف، سأبلغ الشيخ طبرق أن فاطمة قد منعتك من المغادرة وهكذا لن تتعرض لحرج أو أذى.

- (لا انا اريد ان أراه للجن الارجواني) وهو لم يؤذيك ولهذا لن يؤذني.

- إنه يؤذيني صباحًا ومساءً، ووقت الظهيرة، وأثناء النوم.

فتبرم وقال:

- لا تحاول تخويفي سأذهب مع شيخ تبرك وأنت ستحميني من الأرجواني إن حاول أن يؤذيني.

هذا اللعين أغلق كل الابواب وتركني أمام خيارين؛ الأول أن أحضر البصل وأستعد لطهو قلبه وتقديمه للكعب، والثاني أن أثبت له كم الأرجواني مؤذٍ لعله يتراجع، وأخرج من هذا المأزق! فكشفت له عن ظهري ليرى التشوهات التي تركها سوط يعقوب، وقلت له:

- هذا من صنع الجن الأرجواني، هل تريد أن يشوِّه جسدك الناعم هكذا؟

وضحك ابن الحرام وقال:

- أنت كاذب يا عزووو ولا تريد أن يشاركك أحد في الأرجواني، هذه العلامات من تعذيب يعقوب لك والجميع يعرف القصة.

تركني وانصرف بعد أن أكّد على لقائنا مساءً، وذهبت إلى الكعب لعنة الله عليه لعلي أجد طريقة تمنعه من قتل الملط وأكله! وعرضت عليه أن أذبح له بعيرًا لعله يأكله ويسكت جوعه! فقال:

- لا رغبة لي بطعام حاليا.

فأعطيته اللحم المقدد، وقلت له:

- خذ تذوق من السيد مالت، وقد وعدني أنه سيحضر لي كمية كبيرة منه بعد غد.

كنت آمل أن يتركه حيا طمعا في المزيد من اللحم المقدد الشهي، ولكنه التهمه دفعةً واحدة وقال:

- لذيذ لذيذ، اليوم بعد الغروب اصحب مالت إلى منطقة الصخور حيث وجدتم الولد وكن حريصًا على ألا يراك أحد.

تركته، وللحظة خطر ببالي أن اذهب إلى فاطمة لأبرئ نفسي من دم خادمها ولكني عدلت عن سذاجتي في إخبارها أن الشيخ طبرق عزم على أن يتعشى على خادمها المخنث، ومرت ساعة وجاءني شكيب نفسُه وأرسلني لاستدعاء الكعب إلى خيمته، وحين وصلنا لم يعترض طريقنا الرومي حارس شكيب الهزيل، ولم أجد سببا لدخولي الخيمة، وبقيت بجوار الرومي الذي أفسد عليَّ التنصت، وكل ما وصلني أن بعد الغد سنعود لدفن ما تبقى من الذهب، وحين سأله الكعب عن الخدم أخبره بأنه سيحضرهم قريبا، ولكن عليه الآن الاستعانة بما يتوفر من رجال، كان واضحًا أنه يدفعه إلى حيان وجمال الدين.

كان غروب الجمعة وجاءني الملط، ولم تنجح محاولة يائسة أخيرة كي يتراجع عن مقابلة الجان، وما كان لدي ما أفعله إلا أن أصحبه إلى الصخور، ولم نجد المسخ اللعين، وهناك انتظرنا ساعة وخلالها لم أر أي أثر لخوف في عيني المخنث اللامعتين مع ضوء القمر، وتساءلت:

- هل يشعر بكل هذا الأمان لاعتقاده أني سأحميه؟ ليت بإمكاني إخباره بأن الكعب سيشق صدره ويخرج قلبه وسأطهوه له ليأكله، وقد تشاركه نيروز!

وظهر المسخ اللعين –كعادته- فجأة واصطحبنا إلى ساحة متسعةٍ سترتها الصخور عن الأعين، وانزوى يداعب الملط ويلاعبه، وأنا أرقب منتظرًا أن يسحب خنجره ويغرسه في صدره.

لم يحدث شيء مما توقعت، ولم يخطر ببالي أن الخنجر الذي سيستخدمه، الكعب الشاذ سيفرح قلب الملط كثيرا، وحدث ما حدث وكان ما كان، وابتهج الملط ومعه الكعب، وشعرت بالكثير من الحرج؛ لقد اعتدت أن أرى شق الصدور وأكل القلوب، ولكن الطقوس الأرجوانية الشاذة أخجلتني كثيرا، وتركنا الكعب بعدما أوصاني بالملط.

قليلةٌ هي اللحظات التي أكره فيها نفسي، وهذه القافلة الملعونة مازالت مصرة على أن تنعم عليَّ كل يوم بلقب جديد وها أنا أتحول إلى قوَّاد الكعب، ولتكتمل هذه الليلة كان لابد للملط أن يغرد واصفا مشاعره من مقابلة الجن الأرجواني:

- أنت لئيم يا عزيز أردت الاحتفاظ به لنفسك.

وبعفوية فتى صغير يدافع عن شرفه أخذت أتخطف أنفاسي، وأبصبص بسبابتي نحوه وأقسم له بأني لم أعرف أن هذا الأرجواني هو المقصود ولم أقابله في حياتي، فرقَّص حاجبيه، وأسبل جفنيه، وابتسم، ثم قال:

- لا لا أنت تقابله صباحا ومساء وظهرا وقبل النوم، هكذا أخبرتني، ولم تكن تريد أن أشاركك فيه (أيها الملعون).

لديه الحق كله في أن يظن بي الظنون، أنا مَنْ أخبرته بأني خير من يعرف الأرجواني، وما خطر ببالي أن العفريت الأرجواني سيكون على هذا الشكل، وهل هناك طريقة في العالم تمكنني من إقناع هذا الشاذ بأني لستُ عاهرة الكعب التي يزورها صباح مساء! تجتاحني رغبة في أن أصرخ "هووووع" وأقول لهذا الحقير:

- اخسأ يا لعين أنا لستُ مومسًا ولا قوادًا! أنا عزيز، سفاح، قاتل، أرتشف دماء البشر، وأطهو القلوب والأكباد، ولا علاقة لي بالأرجوانية.

بلعت نسل خنجر حاد لأمنع تدفق سيل الكلمات من الوصول إلى حنجرتي حتى لا تنزلق عبر شفتي، اللعنةُ على هذا الملط! فليذهب بظنونه الشاذة إلى حيث يشاء؛ فلا حاجة لأبرر لهذا الشاذ اللعين مَنْ أنا، ولكن مَنْ أنا حقًا! وهل صفة السفاح والـ"قاقا باقا" تشرفني، أم أنها أقل عارًا من الأرجوانية؟!

انتهت ليلتي بالملط وبدأت صباحي بشكيب حيث جاء بنفسه وأيقظني من نومي وطلب أن أستعد خلال دقائق لأرافقه في مهمة عاجلة، فارتديت حذائي ولا شيء آخر لأرتديه وهرعت وراءه بين اليقظة والنوم، فأشار إلي أن أمتطي أحد الأحصنة، وبدأنا نشق طريقنا إلى خارج المخيم جنبا إلى جنب كصديقين، وكانت المرة الأولى التي أمتطي فيها حصانًا منذ رافقت القافلة، وتمنيت أن نتجول بين الخيام لألفت انتباه الأوغاد ليروا عزيز أفندي على صهوة حصان بجوار اليوزباشي العظيم شكيب، نعم العظيم يرافق عظيم، وكما قال روهان بيك: "تعظيمك لمكانة رفيقك هو مديح لنفسك".

بلغنا حدود المخيم وكانت بانتظارنا حاشية تضم عشرين جنديا لترافقنا، وسرني ذلك كثيرًا وعزَّز مكانتي النفسية كباشا، وكانت المفاجأة....

<<<<<<<<<<نهاية الحلقة 57>>>>>>>>>>



٠ تعليق

Comments


bottom of page