وصلت القافلة، ولم يلق علينا التحية أحد، ولكن دوابهم تواضعت، أو تجاوزت حدود التهذيب واختلطت بدوابنا الجرباء، فانزعج الساسة وحاولوا الفصل بين جمالنا الهزيلة الجرباء التي سكنها القُراد، وحمولتها الخشبية، وبين جمالهم المدلـلة وحمولتها الغامضة الملفوفة بالسجاد الأحمر.
انفرجت أسارير حيان بعد تيقنه أن هذا الحشد في مهمةٍ خاصة، وليس في مطاردته، البيك يسأل حيان وقد أثار استغرابه الحراسة المشددة على القافلة، التي يبدو أنها في طريقها إلى خارج فلسطين، ولكن حيان كان أكثر منه استغرابا وقال:
- لم يحدث أن احتاجت قافلة جمال لمثل هذه الحراسة إلا إن كانت ترافق فردا من القصر.
وسأل البيك:
- وهل ترى ما يشير إلى وجود أحدهم؟
حيان:
- حركة الجند واقترابهم من الجمال دون كلفة تنفي مرافقتهم أحدا.
البيك:
- هذه الجمال تحمل شيئا ثمينا.
وكأنه ينقصني المزيد من الغموض والأسرار؛ أرغب في اكتشاف ما تحمله هذه القافلة، وإن كنت أفضل اكتشاف سر صناديق الكهف أولا.. رماني البيك بنظره وشدَّ أنفه بالسبابة والإبهام عدة مرات، أدركت أنه يطلب مني أن أقوم بما نهاني عنه:
- اذهب واشتم يا عزيز.
أجبته بابتسامة:
- سمعًا وطاعةً، أنا من سيشتم لك الأخبار.
أخذت أهبة الاستعداد لممارسة هوايتي المفضلة؛ أزلت ما علق على ملابسي من غبار، وأخرجت ربطة العنق وارتديتها، ثم اقتربت من الخدم والحمالين، لم أفشل يوما بدفع الآخرين على الثرثرة. أسير في تؤدة تجاه الأقرب، وألقي تحيتي:
- صباح الخير أيها الأخ الكريم.
أحنى رأسه ولم يجب، حدثته عن مكانتي المرموقة، وكان حري به أن يطرب ويفرح لتواضعي بالحديث معه، إلا أنه اكتفى بتحريك رأسه عدة مرات. هذا الخادم البليد صمت وتجاهلني، ثم همهم وغمغم...تبين لي أنه أبكم لا يبين كلامه، تركته وانصرفت إلى غيره؛ ذو لسان طويل لا فائدة منه، ما دام يجهل العربية والتركية...انتقلت إلى آخر؛ كان عربيًا، ولم يُفتن بمكانتي المرموقة، وتجاهلني الحقير فتجاهلته، وكنت أرغب أن أصفعه لأعلمه كيف يكون التعامل مع أمثالي من الباشوات.
قررت التخلي عن تواضعي والابتعاد عن العبيد والخدم، فانتقلت إلى الجنود الأتراك، الذين يجيدون احترام من هو بمكانتي، اقتربت من أحدهم؛ أحنى رأسه وثرثر، وأخبرني أنهم قد استلموا حراسة القافلة على مشارف حيفا، وأن حراستها السابقة عادت من حيث أتت، والقائد وحده مَنْ بحوزته أسرار القافلة. أعي جيدًا أن الأسرار دوما تكون عند الخدم لا الجنود الحمقى.
وفجأة...يلوح خيَّال قادم من الأفق البعيد يسابق الريح، وما هي إلا برهة حتى وصل إلى المحطة، ظهر عليه الإرهاق الشديد، يتضح جليًّا أنه قطع مسافة طويلة دون توقف؛ كاد فرسه أن ينهار من الإعياء، ترجل يلتقط أنفاسه، وبدا على وجهه الارتياح بعدما جالت عيناه في الأرجاء، وكأنه قد عثر على ضالته، استقبلته الجنود بالسلاح، وبادر بالسؤال عن القائد، وأشار إليه واقترب منه وتحدثا قليلا بعدما طلب من أحدهم الاعتناء بفرسه المتعب.
بعد نصف ساعة من وصوله حضر خيال آخر، يزيد عن سابقه إرهاقًا، ويفوقه مكانة؛ لقد كان هدف الأول الوصول سريعا لمنع القافلة من التحرك لحين وصول الثاني.
فور وصوله قدموا له الماء، كان في عجلة من أمره؛ فلم يرح نفسه قليلا، أخذ يتجول بين الأفراس، واختار واحدًا؛ استبدال مطيته ينبئ بأن فرسه لم يعُدْ قادرا على حمله، كما ينبئ بقدومه من أقاصي البلاد، أو من خارجها...استلم زمام القيادة، وبدأ يعيد ترتيب الجند، ويصدر أوامره طالبًا من الجميع الاستعداد للتحرك.
استعد الجميع، وبينما نحن في شغف المراقبة وحيرة التساؤل عما تحمله هذه القافلة التي أشرفت على الرحيل مع الكثير من الغموض، أشار ذلك القائد بيده نحونا في استعلاء، قائلاً:
- هيَّا... تحركوا.
اختلاط الدواب أوجب اختلاط البشر؛ وهكذا اختلطت الأمور على قائد الغفلة ليظن أننا ضمن قافلته...يتوجب على أحدنا أن ينير عقل هذا المغفل، ولكن طريقته الجافة في إلقاء الأوامر، وحثنا على الإسراع استفزت روهان بيك، فطلب منا أن نتجاهله ولا نلقي له بالا، فثار غضب المغفل، وقارب الخطو سائلاً:
- لماذا لا تتحركون! هل أنتم بحاجة لمن يحملكم!
روهان –كعادته- أغمض نصف عينه اليمنى ونظر إليه باليسرى، وشد عضلة خده وقال باستهتار:
- أتعرف من أنا؟
ابتسم المغفل وسأل ساخرا:
- ومن تكون يا باشا.
فقال:
- أنا روهان بيك، والصدر الأعظم ما كان سيكلمني وهو على ظهر حصانه.
المغفل ساخرًا:
- تشرفت يا سيدي، هيا تحركوا، الرحلة أمامنا طويلة ولا وقت لدي لأهدره بالاستماع إلى الصدر الأعظم ذاته.
يبدو أن روهان قد أدرك أن الحديث مع هذا المغفل لن يجدي نفعا، فابتسم وسأله ساخرا:
- وإلى أين تريد أن نتحرك يا أغا.
قطب الرجل حاجبيه وقال في حزم:
- لدي أوامر بإعادتكم جميعا إلى القدس هيا تحركوا.
البيك في دهشة:
- وما علاقتنا بك لنعود معك إلى القدس، هل جننت! خذ قافلتك وعد بها إلى جهنم، فلا علاقة لك بنا.
الرجل في هدوء:
- سيدي...الأوامر واضحة؛ سيرافقني الجميع إلى القدس ولن أستثني أحدًا، ولو كان الصدر الأعظم برفقتكم لأجبرته على مرافقتي.
البيك يكاد يفقد صوابه أمام غباء هذا الرجل، ويقول:
- أيها الشاب إن الأمر تشابه عليك، نحن طاقم آثار وعائدون إلى تركيا، وما نحمله معنا لا علاقة له بكم.
المغفل:
- سيدي...سنعود جميعا إلى القدس.
روهان يتمالك أعصابه:
- هل تعرف ماذا يوجد بالصناديق الخشبية التي تريد أن نهدر وقتنا بإعادتها إلى القدس، تعال لترى بنفسك أيها الأحمق.
قفز قلبي من الفرح، فقد حانت اللحظة لأرى ما تحويه الصناديق من أسرار إلا أن المغفل قد خيب أملي في رده:
- ليست مهمتي أن أعرف ما تحمله الجمال، مهمتي أن أصل بها إلى وجهتها، ولن أتهاون مع كل من يعترض طريقي ويخالف أوامري.
إن لهجة القائد الجديد وما تحمله من تهديد ووعيد زادت من استفزاز البيك، ولكنه اضطر لتهذيب حديثه بعدما لَحَظه يلامس مسدسه، حاول البيك محاولة يائسة لإيضاح سوء الفهم الواقع من جراء تصادف وجود جماله بالمحطة قبل مجيء القافلة، واستنجد بالجنود ليؤكدوا كلامه.
وعلى الرغم من تأكيدات الجنود على كلام البيك قد أغلق القائد أذنيه دون أي حديث، فالقافلة لا تعني له سوي جمال وبغال وحمير تحمل أسرارًا عسكرية لا يجوز كشفها، وهو لا يرتبك عند سماع أسماء الباشوات، ولكنه تنازل تعاطفا مع مكانة البيك وكبر سنه، وعرض عليه أن يستقل القطار دون أن يصحب معه أي شيء حتى حقائبه الخاصة التي هي أيضا في نظر القائد تحوي أسرارًا عسكرية.
جلس روهان على الأرض مثل الأطفال، وأعلن أنه لن يبرح مكانه، ولن يغادر من أتباعه أحد، وهنا اقترب حيان من قائد الغفلة، وطلب منه أن يمنحه خمس دقائق لينهي الخلاف، ثم اقترب من البيك ورجاه أن يتنازل قليلا ويصبر، وإلا ستكون النتائج وخيمة، وأشار بعينيه تجاه المغفل وتمتم:
- هذا الرجل ينتمي إلى الفرق الخاصة ولن يتوانَ عن إطلاق الرصاص على مَنْ يخالفه.
رضخ روهان، وقرر أن نرافقهم جميعًا؛ ربما شعر بأنه لا يجوز التخلي عن فريقه، أو لعله ما كان ليطيق مفارقة صناديقه الخشبية، وفي طريقنا إلى القدس كنا نتحرك في حرية تامة؛ نتحدث مع من نشاء ما دمنا لا نخرج عن خط القافلة، ولا نقترب من حمولتها، ولا مما نحمله من حقائب تخصنا.
البيك يسأل حيان:
- ماذا تكون الفرق الخاصة؟ ولمن تتبع؟
حيان:
- لست أدري، ولكن أشك بأنهم تابعين لجمال باشا، فهم وحدهم الذين يملكون صلاحيات كبيرة حتى على الجيش.
تواصل حديثهما حول التشكيلات الخاصة...السرخِفية...الفِرَق...أمَّا أنا فلا يهمني من يكونون، همِّي الأوحد أن أعرف ماذا تخفي هذه الصناديق اللعينة، وكذا ما تحمله الجمال السمينة.
أرهقني التفكير، ولم أستطع إطفاء عقلي الفضولي، وكنت -خلاف الجميع- أجد ما حدث في حيفا مسليا، وشعرت أننا على أبواب مغامرة شيقة؛ أُلحقت قافلتنا جبرًا بقافلة أخرى لا ندري من أمرها شيئًا، أصبح الجميع تحت إمرة قائد لا يعرفونه، حقائبنا ممنوعة عنا، ولكن قِنِّينَة البيك ملآنة بالعرق، فشرب منها حتى ثمل.
القافلة تسير والحمر تنهق وروهان يسأل بأعلى صوته:
- هل هذه الطريق تأخذنا إلى روما أم إلى القدس؟
فيقترب منه حيان:
- لا...هذه الطريق أقرب إلى مرج ابن عامر منها إلى القدس.
البيك ساخرا:
- كل الطرق تؤدي إلى القدس يا حيوان.
أسعدني عودة البيك لشتم الملازم، وتمنيت لو أنه شتم رشيد اللعين أيضًا.
وصلنا جنة الله في أرضه؛ سهل أخضر فسيح، لا نهاية له، تفوح منه رائحة الطبيعة النضرة، وتغمرك رغبة بتأمله طويلاً، أو الاستلقاء على عشبه لنومة أبدية.
نلمح خيمًا بيضاء ناصعة، وعلمنا أنها وجهتنا، يخبرنا حيان أننا في مرج ابن عامر، وشعر روهان بالارتياح؛ فكثرة الخيام تدل على وجود باشوات وقادة كبار، ليطالبهم باعتذار رسمي لما لحق به وبمكانته من إهانة على يد ضابط صغير تافه، وحين وصولنا كانت الخيام فارغة، وحولها مجموعة من الخدم، روهان يدور بين الخيام لعله يجد باشا أو بيك وعاد إلينا، ثم قال:
- هذا المكان مريب؛ فهو يخلو من الطرابيش الثمينة.
حقيقةً...لقد كان المكان يخلو من كل شيء، أكثر من أربعين خيمة فارغة لا تحوي شيئا، بجوارها بضع جند مستلقين على العشب الأخضر، لا يبدو أنهم قد كلفوا بحراسة أي شيء.
على الجانب الآخر للخيم جلس خمسة أشخاص، يخالطهم الكثير من الدواب، وعلى مقربة منهم جلس رجل ضخم لفت انتباهنا قليلا، وعندما انتصب على قدميه كان عملاقًا؛ تجاوز طوله المترين، ووزنه الثلاثمائة كيلو، جبل بشري متحرك، يرتفع رأسه عن سنام الجمل، قصير الشعر، خفيف اللحية، حليق الشارب، يرتدي سروالا حتى ركبتيه، حافي القدمين، ممزق الثياب، تكشَّف صدره الأشعر، وفي عنقه سلسلة كالتي يُربط فيها البغال...بدا بينه وبين الخدم نوع من الانسجام، أما الجنود فقد اختاروا الانزواء عنه. وعليَّ تجنبه أيضًا؛ فالتلصص بالقرب منه قد يكلفني حياتي.
اقترب أحد الخدم يسألنا الطعام، فهممت بطرده ليتسول بعيدًا، ولكني أدركتُ ألا ينبغي أن أفوت فرصة للثرثرة قليلا؛ فسألته:
لماذا لم يطعمونكم؟
أجاب: الطعام ليس لنا، إنما هو للعملاق، فاقتربت منه متظاهرًا بأني أبحث عن طعام بخُرج الحمار، وبدأت التحقيق معه سريعًا؛ علمت أنهم مجرد حمالين رافقوا المعلم سلامة والحاج حسين بالأمس، لتحميل الخيام ونصبها مقابل أجر.
وسألته: من يكون سلامة وأين هو؟ أخبرني أنه ذهب ليشتري طعاما، وأنهم في انتظار عودته ليدفع أجرتهم ويعودوا إلى بلدهم، وأيضا عرفت أنه طُلب من الجنود أن يرافقوهم فقط.
وأثناء حديثنا ظهر عربي في بداية الخمسينيات من عمره يرتدي الكوفية والعقال، قد غزا الشيب لحيته، سمين ويبدو عليه الثراء، يحمل بين يديه الكثير من الخضروات، قام بوضعها بين يدي العملاق الذي أخذ يلتهمها في شراهة، وعرفت أنه سلامة المقصود.
لم يكن الجميع على دراية بما يحدث، حتى المغفل الذي قادنا إلى هنا لا يعرف ماذا يفعل، ولم يطلب منا شيئًا وكل ما قاله وردده "انتظروا هنا...انتظروا هنا" لقد كان مُهتمًا بمراقبه وحراسة ما تحمله الدواب، ولم يشفق عليها، ويسمح بإنزال حمولتها حتى ترتاح قليلا.
بحثنا عن ماء لترتوي عروقنا، فأرشدنا سلامة العربي إلى عين ماء، كانت تبعد حوالي ثلاثمائة مترًا، ذهبنا ولم يأبه أحد لغيابنا؛ فالجمال والبغال هي المهمة، وقد منعوا الاقتراب منها، وأخضعوها لحراسة مجنونة، وكل المحاولات لإقناع المغفل بفتح حقيبة البيك بحجة إخراج دوائه بائت بالفشل...لا يجوز الكشف عن الأسرار حتى حقيبتي الغبية التي فيها حذائي الإيطالي تحولت إلى سر عسكري، ولو علمنا ما يخبئه لنا المستقبل، لكانت تلك فرصة مثالية للرحيل.
تتوافد القوافل الصغيرة إلى المخيم من كل حدب وصوب، الواحدة تلو الأخرى، حتى بلغت ستة عشرة قافلة، تضم كل واحدة عددًا كبيرًا من الدواب، ما وصلت من الجنوب كانت بحراسة الجند، أما التي وفدت من الغرب لم ترافقها حراسة؛ يبدو أنها لا تحمل ثمينًا.
استوقفتني إحدى القوافل يقودها عربي يشبه سلامة رداءً وخِلْقةً، وفور وصوله توجه إلى العملاق وأمسك يده، وأخذ يقوده كطفل صغير، مرددًا:
- (امشِ معي راح ترجع معي يا طبيلة)
التصقت قدما العملاق بالأرض، وركبه العناد كبغل حارن، وأخذ يصرخ وينادي:
- سمامه...سمامه.
هرع إليه سلامة مسرعًا، وقال للعربي:
- اتركه يا حاج حسين، اتركه وصلِّ على النبي المختار.
لم يتوقف الجدال، والعملاق يردد "سمامه...سمامه"، وينتهي الجدل بفوز سلامة؛ فامتطى الآخر أحد البغال وعاد أدراجه، ولم يدرِ وقتها أن الحظ حالفه لابتعاده عن هذا المكان الملعون، أما سلامة فأمسك بيد العملاق طبيلة، وأجلسه بجواره، وأخذ يمسّد شعره حتى ألقى رأسه الضخم في حجره.
قبيل مغيب الشمس وصلت ست عربات، وعلق حيان: قلما يجتمع هذا العدد في مكان واحد. إحداهم كانت مزودة برشاش، اعتقدنا أنها ناقلة أسلحة وذخائر، ولاحقا اكتشفت أنها كانت تحمل آثارا وذهبا، وبعض الشخصيات المهمة.
تتغير ملامح المكان في سرعة خاطفة؛ تحول الجزء الشرقي إلى ثكنة عسكرية محظورة، يُمنع الاقتراب منها، وحينها بدأت القوافل المحروسة بدخول الثكنة، والعودة بعد إفراغ حمولتها، اكتظ المخيم بالجند والخدم والحمالين؛ عرب، وأفارقة، وبلغار، وأكراد، وأتراك ومجهولي الهوية.
>>>>>>>> نهاية الحلقة السادسة<<<<<<<<
Comments