top of page
  • صورة الكاتب

جرة ذهب - الحلقة السادسة والخمسون


على من أراهن؟! على ملك الـ"قاقا باقا" أم على هذا العسكري الدمية الذي يبدو أنه لا يتحرك إلا وفق أوامر؟ أعتقد أنه اكتسب مكانته من علاقته القوية بجودت ويعقوب، نعم هو عسكري جريء، متغطرس وخشن، وهو على النقيض من جودت، فمنذ عرفته في معسكر النبي موسى- عليه السلام- رأيت فيه الرجل الهمجي؛ في تعامله مع رجاله، في تناوله الطعام، حتى عند خروجه لقضاء حاجته يفعلها بوقاحة شديدة ولا يكون حريصًا على التواري عن الأنظار، كما أنه منافق كبير ولا يعطي للألقاب أية أهمية، لم أر فيه الرجل الحريص على مخاطبته بالألقاب ولا يتردد في مصافحة أحد، ولا يفرك أصابعه بعد ذلك ليتذكر أنه يتوجب عليه غسلها حتى لا تنتقل له عدوى الأمراض من مصافحة الأقذار، هذا العسكري القاتل لا يبدو لي أنه سيصمد جولة واحدة أمام سفاح الـ"قاقا باقا" ولا أمام الأفعى فاطمة. خيرُ لي أن أعود وأختبئ خلف عباءة الكعب وأستمتع برائحته الكريهة لأعيش لفترةٍ أطول.

خرج العسكري من صمته وقال:

- احكِ لي كل ما تعرفه عن طبرق.

تزاحمت الأفكار في رأسي وأنا أبحث عمَّا أقول، لن أتسبب في إضعاف الكعب في هذه المرحلة وأنا على يقين بأنه لن يذبحني ويأكلني إلا بعد الانتهاء من الجميع، أمَّا شكيب فلم يكشف عن نواياه بعد، فهل سينضم إلى لصوص الذهب؟ إن التعامل مع عسكري شريف سيكون فيه هلاكي لأن الأوامر واضحة؛ (الموت للجميع).

عاد وكرر سؤاله ليخرجني من صمتي:

- تكلَّم يا عزيز.

- جودت أفندي كلفني أن أراقبه وأنقل إليه كل تحركاته، هل تريد أن أراقبه من أجلك يا سيدي؟

- تابع مراقبته، ولكن أخبرني ما أخبرته لجودت عنه.

- الشيخ طبرق له علاقات مع عفاريت الـ"قاقا باقا" ويرسل الناس الى الجنة.

ابتسم وقال:

- قصص العفاريت والـ"هاقاراقا" سمعتها من جودت.

قاطعته قبل أن يكمل جملته لأصححها وقلت:

- الـ"قاقا باقا" وليس الـ"هاقاراقا" يا سيدي.

فضحك وقال:

- اللعنة عليك! الآن فهمت لماذا يصفك جودت بالنبيذ المعتق، انتبه لي يا عزيز، هل هناك ما يمكن أن تخبرني به غير العفاريت؟

- ألا تؤمن بالعفاريت يا سيدي؟

وفاجأني بأن سحب مسدسه وألصق فوهته بجبيني وبعفوية وبأعلى صوتي قلت:

- أشهد أن لا الله الا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.

انفجر ضاحكًا حتى ارتمى على المقعد، وبعدما سيطر على نوبة الضحك التي اجتاحته قال:

- لن أقتلك يا عزيز قصدت أن أخبرك أن هذا المسدس هو العفريت الوحيد الذي يجب أن تخشاه.

لقد أرعبني تصويبه المسدس تجاه رأسي، ولكن ما جعلني أكثر رعبًا قهقهته كعاهرة غير مبالٍ لحال صديقه الذي يحتضر، فهل حُزْن الأمس تلاشى مع بريق الذهب! وعلى الفور طلبت منه الإذن لأخرج قبل أن أتبول تحتي، وهكذا تمكنت من الإفلات من أسئلته حول الكعب حتى أدري ما أقول له.

لم أبتعد كثيرا حتى خرج خلفي متجولاً، راقبته حتى أشار بيده وعاد إلى خيمته، لا حاجة لأخمن لمن أشار بيده فلا يوجد غير اللعين جمال الدين، فهو الذي اختاره ليرافق القافلة ويكون عينَ كاظم ويعقوب، وعدت مسرعا نحو الخيمة واحتللت موقعا يسمح لي بالتنصت واستراق النظر، وكان على مقربة من نجمة الغالية، وقد حملت لها بعض العلف في يميني وتصنمت مُنتظرًا وصول الحقير، وطال انتظاري.

كان شكيب يحمل سيف جودت العتيق ويلهو به وحينما دخل جمال الدين الخيمة وقال:

- سيدي.

رد عليه شكيب دون أن يلتفت اليه:

- اجلس يا جمال.

جلس الحقير ونظر نحو الثقب الذي حشوت فيه عيني، وتوهمتُ للحظةٍ بأنه يراني كما أراه...أهمله شكيب لأكثر من دقيقة واستدار وجلس على المقعد الآخر، وطمأنني بأن حجب الثقب بظهره عن عيني جمال، ولم يصافحه وكان مباشرا في حديثه وقال:

- لقد نقل لي كاظم المجهود الكبير الذي تبذله هنا وكل هذا ستكافأ عليه لاحقا.

- أنا في خدمتكم سيدي.

- والآن أخبرني عن تقييمك لكل فرد في المخيم على حدة.

- حيان لا يخرج من خيمته، ويعتزل فاطمة لما يزيد عن العشرة أيام، وأواظب على مراقبته ليل نهار كما طُلب مني، ولم يبدر عنه شيء يثير الشبهات، وكل تحركاته أبلغها أولاً بأول، والشيخ طبرق يقضي أغلب وقته خارج المخيم ولا يوجد لدي تصريح لمغادرة المخيم لأتمكن من مراقبته، وسالم فهو ساذج لا أكثر، أمَّا عزيز فلا يتوقف عن التلصص على الجميع وطُلب مني مُسبقًا مراقبته، وهو لا يزيد عن كونه أبلهًا فضوليًا، هذا كل شيء يا سيدي.

- وفاطمة ومن معها؟

- لقد طلب مني يعقوب ألا أشغل بالي بهم وأكثف كلَّ جهودي على حيان فقط.

- جيد من اليوم أريدك أن تراقبهم جميعا. أتذكر لقائي بك في المعسكر قبل شهرين تقريبا أيها الملازم جمال؟

- نعم أذكر، وأنا لم أترق إلى رتبة ملازم يا سيدي.

- رتبة الملازم ستكون في انتظارك بعد انتهائك من المهمة التي سأكلفك بها.

- سمعًا وطاعةً يا سيدي.

- المهمة التي اخترتك لها حساسة وتحتاج إلى قدر عالٍ من السرية، هل بإمكاني الاعتماد عليك أيها الملازم؟

- نعم سيدي.

- مهمتك أن تخفي الشيخ طبرق من الوجود دون أن تترك أثرًا لذلك.

- نعم يا سيدي ولكن سلاحي الشخصي تمت مصادرته من قِبَل كاظم ويعقوب.

- أعلم ذلك، عندما تبدَّل طريق سير القافلة حُظر على الجميع حمل السلاح وبعد انتهائك من مهمتك سأعيده لك.

- أحتاج سلاحًا وتصريحًا للخروج من المخيم حتى أتمكن من تنفيذ المهمة بلا أثر.

- سأجد طريقة لترافق الشيخ خارج المخيم، وأعتقد أنه تم تدريبك جيدا لتتدبر أمرك بغير سلاح.

- عُلم وسيُنفذ يا سيدي.

يقف شكيب ويربت على كتفه ويقول:

- سريةٌ هذه المهمة، حتى كاظم لا يجوز أن يعرف شيئًا، ومن اليوم أنقل لي مباشرة كل تقاريرك، واحرص أن تفعل هذا في سرية، وسأبلغك بساعة الصفر، بإمكانك الانصراف الآن.

ابتعدت قبل خروجه، وسرني أن جمال الدين كان صادقا معي ومع حيان ولم يكشف سرًا، وأرعبني هذا الشكيب اللعين؛ لم تمر ساعة وها هو يقرر قتل الكعب، وإن فعلها جمال سأجد نفسي عالقًا بين قتلة يصعب السيطرة عليهم، القدر يسخر مني حقًا، لقد أوهمت الكعب أن جمال سيقتله لعله يخلصني منه، والآن أجد أن أكاذيبي تصير حقيقة، ولن أسمح بموته في هذه الظروف، ولابد من إيجاد طريقةٍ لإنقاذه، اللعنة على هذه القافلة لا شيء فيها يسير كما أريد!

تأبى شمس الخميس أن تفارقنا، ومازلنا نرقب دفن الميت الحي، ولا يبدو أنه في عجلة من أمره ليقابل ابن خالته يعقوب، سبحان الله! ضبع خدش ساق سلامة وربما كان مجرد كلب ومات على أثره، وسحق ضبع ساق هذا الناعم، والتهم جزءا منها، وتذوق آخر القليل من لحم ذراعه، ونزف معظم دمه ومازال حيا! فهل يعقل أن الموت يحب الفقراء أكثر من الأغنياء؟! أم أن المشعوذة المصرية قد تمكنت من حبس روحه داخل جسده، لا أستغرب عنها شيئًا بعدما رأيتها تقحم مُصران بعير في حلقه لتجعل منه محقنا للسوائل الغريبة إلى جوفه، لعلها بهذه الطريقة تعوضه عمَّا فقده من دماء! وهذا مما دفعني إلى التسلية بالتلصص على آخر فنون الشعوذة والطب لأجد الطبيب التركي الذي جاء به كاظم يقف يائسا حائرا ويردد:

- لنتركه يموت بسلام.

وترد عليه رباب:

- سنبذل جهدنا حتى يأذن الله بموته.

يبدو لي أن هذا الطبيب الشاب ليس ذا نفع، وأعتقد أن شعوذات هذه الساحرة ستبعده عن القبر الذي ينتظر ليحتضنه بشوق، شعرت بالجوع وعزمت على الذهاب إلى خيم المؤن بحثًا عن طعام غير مسمم، ولم يكن أمامي إلا المعلبات التي تفوح منها رائحة كريهة، وما كنت لآكلها أبدا ولكن طعامًا رخيصًا بلا سُم خيرٌ من طعام شهي يرسلني إلى حيث ذهب طبيلة.

أخذتُ بعضًا منها وعدت إلى خيمتي ووجدت الملط اللعين جالسا على فراشي يعبث بحقائبي ويبدو أنه عثر على كنزي الصغير؛ الأسوار والسلاسل الذهبية، لم يتفاجأ ولم يبال بدخولي بل واصل عبثه وسألني أن أهديه إحدى السلاسل فاختطفتها منه وأعدتها إلى الحقيبة وأخبرته أنها لخالتي دولت وبإمكانه أن يطلب منها أن تعطيه، فطلب مني الجلوس بجانبه فادعيت اختناق الجو وطلبت منه أن نجلس خارج الخيمة، هذا الحقير بعدما جرني لأفعل معه ما فعلت، ثم طردني من خيمته أتقزز من رؤيته ولا أحب أن يجمعني به مكان، جلسنا خارج الخيمة وعلى مرأى من الجميع بدأ يمطرني بالأخبار وحينما انتبه أن ما حمله لم يثر انتباهي انتقل للحديث عن الآثار التي تحملها فاطمة، وشدني بحديثه عن تمثال لـ"نبوخذ نصر" من الذهب الخالص طوله متر وعرضه 40 سم، وأن فاطمة لا تنام إلا بعد تقبيله، وأسعدني أن نبوخذ نصر أقصر مني قامة، وانتقل بالحديث عن جلجامش، وادَّعى أن لديها أكثر من لوح ذهبي وقبل استفساري انتقل بخباثة لسؤاله عن طبرق:

- سمعت أن هذا الشيخ الذي لا ينبت الشعر في وجهه يتكلم مع الجان.

- نعم هو ملك الجان.

- هذا الحرذون ملك؟

- إنه ملك ملوك الجان ولا يوجد عفريت من الجن إلا ويخضع له.

- لقد سمعت أنك رأيتهم، فهل يشبهون البشر؟

أصفهم بما يتناسب مع شذوذه، وهو لم يتوقف عن ترديد:

- (ووو واو ا و نار نار).

وسأل:

- وهل يعرف قراءة الكف هذا الشيخ تبرك؟

استفزني سؤاله وقلت:

- هو إمبرطور الجان، وقادر على فعل الخوارق، يقرأ الكف والقلب والكبد.

في غنج النساء قال:

- حبيبي عزيز خذني إليه ليقرأ كفي.

جاهدته كي أتملص منه، ولكنه قطع لي وعدا؛ إن رافقته سيأخذني لأرى تمثال نبوخذ نصر الذهبي ولم أكن لأقاوم عرضًا كهذا، سار أمامي وذهبنا معا إلى خيمة ملك الهذيان والهبل، وقبل اقترابنا صادفتنا نيروز خارجة من الخيمة إلى جهة مجهولة فاعترض الملط طريقها وقلَّد طريقة رباب بالكلام:

- (ازيك يا نونو).

ردت بفتور أثار استغرابي وابتعدت مسرعة، ولم أجد طريقة لأخبرها ألا علاقة تربطني بهذا المخنث، وألا حبيبة لي سواها، دخلنا الخيمة واستقبلنا الكعب، ودلَّع الملط الأحرف والكلمات ورجا الشيخ أن يقرأ له كفه، وما كان من الكعب ليرده خائبا، فأمسك بكفه وأخذ يتأمله كخبير وافتتح الكلام:

- أنت اسمك مالت تحب العطور والحرير، وتعمل مع امرأة ذات شأن كبير، وعلى جسدك أكثر من شامة، وأنت فنان مبدع وووو

الملط فتح فمه للذباب مشدوها بقدرات الكعب الخارقة على التبصر وتمزيق حُجب الغيب، وأنا رغبت أن أبصق على المتحدث بغرور والمستمع بذهول؛ ومَن في المخيم لا يعرف الملط المخنث! خادم فاطمة، المعطر المُكتسى بالحرير، والشامة التي على رقبته تشير إلى أنها لن تكون يتيمة، أمَّا عن اتهامه بأنه فنان مبدع فكلُّ مَنْ في المخيم مبدعون وفنانون وعباقرة، هذا ما يعتقده الجميع، وكلُّ ما نطق به الكعب من هذيان يبرع فيه سالم إن أراد، وليته لاحظ أن الملط اللعين غيَّر ملامح وجهه أكثر من مرة للتلاؤم مع ما يقوله! وأنه ما جاء إلا ليتعرف شخصيته، وربما أرسلته فاطمة لغايةٍ ما، واهتزاز قدم الملط وتحريك أصابعه لم تشر إلى إعجاب، وإنما إلى أنه قد ملَّ وفاض صبره، وفي أجواء هذا الهذيان عزمتُ على أن أقدم احتجاجًا إلى ممالك الجان والدجل ليعزلوا المسخ عن منصبه لسوء أدائه، وانتهت جلسة قراءة الطالع وفي طريق خروجنا قال الملط:

- (الشيخ هذا شاطر كثير عزووو).

فأجبته:

- إنه ملك العفاريت، والآن متى ستأخذني لأرى تمثال نبوخذ نصر الذهبي كما وعدتني.

فقال:

- اصبر، وسأحضره إلى خيمتي وأدعوك لتراه عندما تسنح الفرصة.

أسررتُ قولي:

- عليك اللعنة أيها الملط! وتريد أن تلبسني العار أمام نبوخذ نصر بعظمته.

وانقضت الليلة ولم ندفن الذهب ولا جودت، وكان صباح الجمعة باردا والشمس لا تكاد تصلنا بعدما حجبتها الغيوم فشرعتُ أطاردها لأنعم بدفئها، ثم قمت بمهامي كالمعتاد وذهبت لأطمئن على جودت أفندي، دخلت خيمته الجديدة وكان نائما وبالقرب منه الطبيب لم أشأ أن أزعجهما ولكني عزمتُ على قلق ذلك الطفيلي سالم الذي نقل فراشه ونام بجوار الأفندي، ركلته بقدمي عدة مرات حتى أفاق وهمست له أن يتبعني، وحين وصلت إلى موقع عرشي طلبت منه أن يعد لي القهوة لأشتم رائحتها ورد علي:

- (ما بدي أعملك قهوة أنا بطلت اشتغل عندك).

لم أتوقف عن التحايل؛ فأنا جائع وبحاجة لمن يتذوق الطعام قبلي للتأكد من خلوه من سم الأثرياء القاتل، ولكن الحقير رفض أن يأكل حتى حبة زيتون وقال:

- (انت بصقت عليه وبدك تطعميني منه أنا مش أهبل وأنا شبعان ما بدي أكل، رباب طعمتني أنا والحكيم).

ولم يكن أمامي إلا لغة التهديد، فهددته بأني لن أعطيه سيجارة واحدة، والحقير أخرج علبة سجائر فاخرة الصنع من جيبه وقال ما لم أفهم:

- (ما بدي تتنك وبطلت اتتن تتن حقاريص)

وأدار ظهره وتركني، وخمنت قوله: إن سجائري سيئة وأنه انتقل إلى السجائر الفاخرة، ولابد أن مصدرها الطبيب الجديد ولا حاجة لأشغل عقلي بسالم وأسراره، يوم أو يومان سيموت جودت ويغادرنا الطبيب ولابد أن سالم قد سهر الليل وهو يحكي له عن قصص القافلة، وإن انتبه شكيب لهذا فسيحرص على أن يصعده المركب المبحر إلى عالم الأموات ليعتني بجودت هناك.

ذهبت إلى جمال الدين وأزعجت منامه وحينما تأكدت أنه لن يعود للنوم تركته وعدت إلى عرشي ولابد أن يتبعني مثل الكلب من أجل القهوة والسجائر، وجاء خلفي لاهثا جلس وسألته:

- مالي أراك مشغول البال يا جمال؟

فرد ساخرا:

- مولاي السلطان: اليوم سأحقق أحلامك وسأخلصك من أعدائك الثلاثة.

قلت:

- لا أعداء لي يا جمال الدين.

فقال:

- خصومك ومنافسيك على العرش هم أعدائك يا مولاي.

يروق لي أن يخاطبني بـ"مولاي"، فقلت له:

- هات ما عندك يا جمال وإن أحسنت القول سأكافئك.

رماني بنظرة غامضة وقال:

- عزيز أعد القهوة واجلب معك السجائر والحق بي إلى خيمتي ولا داعي لإضاعة الوقت على لعبتك الغبية.

وقبل أن ينصرف أسرعت وقدمت له الجبنة والزيتون ورفض –مثل سالم- أن يتذوقها وتركني وانصرف فبصقت على ظله وأعددت الإفطار، وذهبت لأختبر الطعام على حب حياتي نعناعة وعشيقها، وكان قبيحًا في استقبالي، قدمت له الإفطار فالتهمه، وسرني أن نعناعة كانت نائمة ولم تشاركه، وتساءلت، "إن كان الطعام مسمومًا هل سيؤثر في هذا الحيوان؟" لم أجد داعيًا لأهدار الوقت عليه سأعود لاحقًا حينما تفيق حبيبتي، ولمَّا هممتُ بالانصراف استوقفني وسألني عن الأخبار فأخبرته:

- شكيب مازال نائمًا، وجمال الدين في خيمته، وبالأمس اجتمعا معا وسمعت أزرق العينين يقول: "اعتن بالشيخ طبرق يا جمال الدين ونظِّف خلفك جيدا وستجد بدلة ملازم في انتظارك".

انصرفت مسرعًا وقطعت السبيل على أسئلته، واعتقدت بأني أنقدته وتخلصت من جمال، ومما قاله روهان يوما: "ثق بالحرامية أكثر من السرخفية"، وتناولت الطعام بعد اختباره على الكعب، وذهبت إلى خيمة شكيب ووجدت على بابه عسكريًا لم أره من قبل، وراقني أنه لم يكن طويلا وضخما مثل بقية مرافقيه، أمَّا الأغربة فقد انشقت الأرض وابتلعتهم، لابد أن شكيب قد وجد طريقة لإبعادهم عن المخيم، ربما لثقته الزائدة بنفسه؛ فهو ليس بحاجة لحراسة مدرعة، وربما قال لنفسه: كلَّما قل عدد العارفين عن الذهب كان أفضل...اقتربت من العسكري الكسول المدلل الذي يحرس الخيمة وهو جالس على أحد مقاعد جودت المشوهة فابتسم لي وسألني:

- ماذا تريد؟

شجعني استقباله الناعم وابتسامته الرقيقة لأتطاول عليه فقلت له:

- قف ولا تحدثني وأنت جالس ألا تعرف من أكون! ما كان الصدر الأعظم ليحدثني وهو يمتطي كرسيه.

ولم أكمل جملتي حتى سمعت قهقهة من داخل الخيمة:

- دعه يدخل يا رومي إنه عزيز باشا.

عدلت ربطة عنقي وولجت الخيمة وهمست حتى لا يسمعني العسكري الوغد:

- سيدي جئت لأسالك إن كنت مستعدا للإفطار والقهوة.

وانتبه لسبب همسي، ورفع صوته حتى يسمعه الرومي:

- نعم يا عزيز باشا اطلب من الخدم أن يعدوا لنا الإفطار والقهوة وعد لتشاركني.

سرني كثيرا أن شكيب يجاريني في لُعبتي ويبدو أني سأحبه، وقبل خروجي سألني عن الأخبار، فأجبته:

- الشيخ طبرق لم يخرج من خيمته ولم يأمر بذبح بعير، وجمال في خيمته وحيان كذلك الأمر أما سالم فهو في خدمة الطبيب وأرجو منك أن تستبدله بشخص آخر لأني بحاجة لمساعدته كثيرا لإعداد الطعام والاعتناء بالخيول.

أعددتُ الإفطار والقهوة وعدت وسألني عن فتاة الشيخ وغمز بعينيه، امتعضت وبصقت عليه وقلت له:

- سأقتلك سأقتلكم جميعا، هي لي، وحذار أن يقترب منها أحد.

هذا كان سرًا، أمَّا جهرًا فقد قلت له:

- إنها فتاه مستوحشة تأكل الحراذين والصراصير، وجميع حشرات الأرض ولا تغتسل أبدا يا سيدي.

وانتقلت إلى موضوع آخر:

- متى سندفن الذهب يا سيدي؟

فرد علي:

- اليوم سأقرر، والآن تعال معي.

ولج خيمة الذهب وتبعته، وجلس على أحد الصناديق وأشار إلى إحدى الجرار وقال:

- عندما تنتهي مهمهتنا سأعطيك جرة ذهب مكافأة لك.

أصابني الارتباك، ولابد أنه قرأ ملامحي، هذا الحقير يختبرني متخابثًا، فأحنيت رأسي لأبعده عن عيني، وسكتُّ باحثا عن حل لهذا المأزق الذي أوقعني فيه، فسأل:

- هل تدرك ماذا يمكن أن تفعل بجرة ذهب؟

تبرمتُ وعصرتُ عيني واستعرضتُ كلَّ ما قد يثير الحزن في نفسي لعلي أتمكن من جلب بعض الدموع، وأبقيت رأسي منحنيًا حتى سألني:

- ماذا بك يا عزيز؟

فرفعت رأسي ليرى آثار الدموع وأجبته:

- لقد وعدني جودت أفندي أن يأخذني معه لأعمل عنده ويخصص لي غرفة ويشتري لي ملابس ويزوجني، وأخشى أن يطول مرضه ولا يفي بوعده.

ملامح وجهه أخبرتني أن خطتي أتت ثمارها، فقال:

- ولكن هذا الذهب سيكفي حاجتك ويجعلك ثريا.

باستغباء:

- وكيف سأعيش بدون عمل يا سيدي؟

ابتسم وقال:

- لو تعرفت بك في غير هذه الأيام لأخذتك لتعمل عندي.

فأجبته على الفور:

- لا أستطيع يا سيدي لأني سأذهب للعمل في بيت جودت بعد أن يشفى.

رد بعفوية:

- للأسف، يجب أن ترافقَ جودت!

صرفني وبقي برفقة الذهب ومازالت كلماته الأخيرة ترن في أذني: "يجب أن ترافق جودت"، هذا السفاح حاول أن يختبر حقيقتي فكشف حقيقة نفسه، وهو يعرف جيدًا أن جودت في طريقه إلى القبر وهذه ليست الحقيقة الوحيدة التي اكتشفتها؛ بالأمس أزعجني النظر إلى جرار الذهب لأن عددها كان تسع جرار وهو رقم فردي يقلق راحتي ويثير توتري، أمَّا اليوم فقد أراحني النظر إليها لأن عددها ثمانية جرار؛ لقد اختفت الجرة التاسعة من جرار الذهب، لقد عزم شكيب على أن يسرق القليل لنفسه ولن يمر الكثير من الوقت حتى يفقد السيطرة ويهمس الذهب في أذنه: "لا تكتفِ بجرة يا شكيب اسرق جرتين...ثلاث...أربع جرار اسرق كل شيء، اشتر جزرًا، ابنِ قصورًا، كن سيد نفسك".

أزرق العينين هذا وقع في أسر سحر الذهب وإن عزم على سرقته كله سيبدأ بقتل الجميع، والكعب لن يكون إلا بداية طريق دموي.

اشتد بي العطش فذهبت إلى النبعة وشربت من الماء الجاري حتى ارتويت؛ فلا يقدر أحد على تسميم النبعة، عدت وأعددت القهوة وذهبت إلى جمال الدين لعله يبوح لي بمخططه لقتل الكعب! لأفضحه وأنتهي منه إلى لأبد، قدمت له تقريرًا مثل البقية. وقال:

- ألا تريد أن تعرف كيف سأخلصك من أعدائك الثلاثة؟

<<<<<< نهاية الحلقة 56>>>>>>>




٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page