شكيب ينقل مؤخرته من صندوق إلى آخر مسرفا في التدخين، مشكلا ضبابًا يحجب رؤية القادم عمَّن بالداخل، وإن لم يمت جودت بسبب جراحه سيموت اختناقا بفعل الدخان الذي قصده من الخيمة الثالثة.
راقبت عينيه، رموشه، حاجبيه، أنفه، شفتيه، كفيه وكتفيه، وعدد مرات حك ذقنه ورأسه، وابتسامته العفوية، وكلُّ خلية في جسده أخبرتني أن هذا الرجل قد وقع تحت سحر الذهب وغرق في أحلام الثراء ولابد أنه قد بدأ يبني القصور، ويشتري الجزر، وتشاءمت من القادم، فأنا معتاد على لصوص صغار يسرقون جرة أو جرتين، أو حتى نصف صندوق، ولكن مثل هذا اللص لن يكتفي، تركته غارقا في أحلامه لحاجتي إلى القليل من الراحة بعد هذا اليوم الذي عج بالإثارة.
قبيل انتصاف الليل وفي طريقي لخيمتي أشفقت على طبيلة الذي افترش الأرض والتحف السماء، فما الذي يشغل بال هذا الطفل العملاق غير الطعام والنوم! اقتربت منه ووقفت فوق رأسه ودغدغته في بطنه بقدمي كما اعتدت عند إيقاظه، لم يصحُ فانسحبت بهدوء كيلا أزعجه، ثم عدتُ إليه من جديد لينام أمام خيمتي، أعلم أنه غير قادر على حمايتي ولكن وجوده كان يشعرني بالقليل من الاطمئنان، انحنيت ألامس وجهه وسحرتني ابتسامته البريئة التي ارتسمت على شفتيه، حتى كدت أشك أنه يتظاهر بالنوم، ولكن الشحوب الذي اعتلا وجهه أثار القلق في نفسي، وحينما لمسته بظهر كفي شعرت بصقيع يمر من وجنتيه إلى كفي ليصل قلبي ويعتصره بقوة.
ارتجفت، اقشعر بدني، تقلصت معدتي، وشعرت بدوار، تجمدت ولم أقوَ على تحريك ذراعي، أجاهد لأخرج الصوت من حنجرتي، انهمرت الدموع وبدأت الأفكار اللعينة تضرب رأسي بمطرقة:
- (تاتات .. حا حا حيا حياااان).
هرول إليَّ يجر سلسلته حافي القدمين، وفزع نحوي سالم وجمال الدين، وحين تحسسه حيان بيده طلب من سالم أن يسرع بطلب رباب، وعندما لمستْ رباب عنقه أسرعت تتفحص عينيه، وتساقطتْ دموعها التي أغنت عن كلامها، وأنا مازلت مصدومًا لا أريد أن أصدق، وعاد خيالي مرتحلاً إلى كل مشهد لهذا الطفل العملاق منذ إصراره على مرافقة سلامة مع قافلة لا يقودها إلا الموت؛ مررتُ بمشهد سلامة وروايته قصة طبيلة وكهف الـ(غولة)، واستوقفني هياج طبيلة وفزعه لفراقه، ثم تجولت في عيني العديد من مواقف تقربي إليه، ثم ملاحقته لي كظلي، وفرحه بالسيف الخشبي الذي صنعه أبو إيليا، وضحكه عند استحمامه ولبس الجديد على يد رباب ونيروز، ولهفتي عليه هذا الصباح عندما لهى به الأغربة السود، وهاج إلي كعاصفة حنان ورفعني في الهواء وضمني إلى صدره وأعاد إليَّ روحي التي سرقتها القافلة الملعونة، والتصقت برأسي اللحظات التي حمل فيها سلامة، ورفض التخلي عنه بعدما شعر أن روحه فارقته وهو نائم على كتفه، ومازال صوته يرن في أذني: (أزيز...أزيز...عذيز..عذيز)، لم أجد وفيًا بين هؤلاء البشر سواه! أغمضت عيني وعصرتهما حتى تظلما، أنا نائمٌ حالمٌ وسأصحو بعد قليل وسيتلاشى كل هذا، فتحتهما ولم يتلاشَ شيء، لقد مات الضخم طبيلة! نجا من الضباع قبل شروق شمس اليوم ليموت قبل غروبها! كيف مات؟ لماذا مات؟! وهل يموت الإنسان بلا سبب؟!
ليته لم يعد إلى المخيم حتى أعيش على أمل ملاقاته يومًا! لم أر بشاعة الموت إلا برؤيته مبتسمًا فوق التراب، هل نجا ليريني كيف تموت البراءة بين وحوش البشر! كيف نجوت يا طبيلة! ستتركني ولم أجد تفسيرًا لشيء، ستتركني ومازلت أتساءل: كيف استطعتَ العودة إلى المخيم؟ ولمَ عدتَ ثانيةً؟ ليت أنك لم تعُدْ!
الكل يواسيني؛ فأنا "عذيز عذيز"؛ أمه وأبيه، حزن الجميع وأشدهم حزنا كان سالمًا ورباب التي رأيت في عينيها غضبا لم أره عندما صفعتني لتحرشي بها، كانت تنظر إليه في صمت وعيناها تشع غموضًا وأسرارًا.
الكعب في فضول يستكشف هذا الجمع الغفير، وحينما علم موته ركض كالمجنون إلى خيمته ليمنع نيروز من القدوم حتى لا يشغل وقته بمسح دموعها...جمال الدين كان له الأثر الأكبر في التخفيف من آلامي حينما أخذ يدعو الله أن يميته مثل هذه الميتة، ويردد:
- لقد أنجاه الله من افتراس الضباع ليموت ضاحكا نائما مثل الملائكة.
وقبل منتصف الليل قمنا بدفن أطهر من رافق القافلة؛ طبيلة؛ الذي لا نعرف له أب ينسب إليه، ولا أمًّا تحزن عليه، ولا إلى أي أرضٍ ينتمي، العملاق الذي لم يتكلم لنعرف بأي لغة ينطق، من هو! من يكون! من أين أتى! لن نعرف يوما، وربما ليس أمامنا إلا أن نؤمن بما أخبرنا به سلامة يومًا:
- أمه الـ(غولة) تركته مع صرة ذهب في مغارة بالقرب من رام الله.
دفنَّا الملاك الضخم بالقرب من نبعة الماء التي أخبرتنا بضحكته البريئة للمرة الأولى في اليوم السابق ليوم عرفة، وهناك ضحكنا وغمرتنا السعادة بين أناس يعز عندهم الفرح، وهناك ستتردد أصداء ضحكاته إلى الأبد.
انقضت تلك الليلة وأشرقت الشمس على مشاعر تجمدت، أو ربما ما عاد لها وجود، أفتقده وكأن شيء ينقصني، ولكن لا أشعر بأسى! ماذا يحدث لي! فقد وجدت نفسي أخرج الصندوق وأنصب العرش وكأن شيئا لم يحدث، لم يأت إليَّ سوى جمال الدين، وعزاني مجددا ولم أكترث، وعدنا للجدال حول عدد السجائر التي سيحصل عليها، ولم أتنازل فالسجائر أهم من الجميع، ثم جاء إلينا الكعب وأوصانا أن نخبر نيروز أن طبيلة قد عاد إلى أهله؛ أمه وأبيه وإخوته، وتجول ليوصي الجميع، لم يمر الكثير من الوقت حتى أطلت نعناعة واستقبلها سالم وقبل أن تقترب قال:
- (طبيلة مات يا نيروز).
هذا الأبله لن يتوقف عن بلاهته يومًا، وببراعة أخبرتها:
- قصد أن يقول: إنه فات عند أهله كما أخبرك الشيخ طبرق.
ولم يفهم سالم إلا بعدما بعد غمزته فكتم الخبر حتى لا تبدأ بالنواح واللطم على خدها الرقيق، فهي نوَّاحةٌ بطبعها، فكيف مع موت طفلها الضخم!
تجاوزنا النواح والبكاء، وحان موعد قهوة جودت أفندي، وقررت أن أحافظ على روتيني اليومي، أعددتها بالرغم من علمي بأنه مدعو لشربها مع قريبه يعقوب، قدمت القهوة لشكيب ليحتسيها نيابة عنه وسألته إن كان راغبا في إعداد الإفطار، كان مرهقا نعسا، بدا عليه أنه لم يفارقه طيلة الليل، ولكنه لم يكن في حزن الأمس؛ ربما استوعب الصدمة، أو أن سحر الذهب ساعده في التغلب على أحزانه، المسكين جودت مازال على حاله، بل ازداد سوءا، وفي انتظار موته.
تجمدت الحياة في المخيم، وتثاقلت خُطى الزمن، وافتتحت فاطمة الزيارة الصباحية للميت الحي وأوصت رباب به، ولسان حالها يقول:
- سأقتلك إن لم يمت.
وزاره الكعب البطل الذي أوهم الجميع أنه المُنقذ من الضباع، لا دموع في عينيه ليذرفها ولسانه خشن، ومهما حاول ترقيق كلماته فهي تنزلق من بين شفتيه قبيحة ولزجة، وقال مجاملا:
- الحمد لله أن الضباع لم تأكل إلا جزءا من ساقه، (الله ستر).
بقية أهل المخيم لن يحضروا للاطمئنان على الأفندي؛ لأنهم لن يستطيعوا تجاوز الأسودين، كما أنهم لا يحبونه ولا يحبون حتى أنفسهم، وصل كاظم وكان برفقته عسكري صغير السن، ومن حقيبتة الصغيرة التي يحملها بيمناه علمت أنه طبيب، وسرَّ ذلك رباب التي أرهقها الاعتناء بجودت وحدها، وعلى الفور أمر شكيب بنصب خيمة كبيرة مخصصة للطبيب الجديد ونقل إليها الميت الحي، وأنا الوحيد الذي يعلم أنه فعل ذلك ليغلق الطريق أمام الجميع على دخول خيم الذهب الموصولة بخيمة جودت، وحينما أمرني بتوفير ما يحتاجه الطبيب طلبت منه إبعاد الغرابين حتى أتمكن من إحضار من يساعدني، فخرج ليطلب منهما الابتعاد وكانت الصاعقة؛ تجاهلا هذا اليوزباشي الذي لا سلطة له عليهما، وما كانا ليبتعدا لولا فاطمة، هذان الغرابان لم يتم تدريبهما على احترام الرتب العسكرية، يبدو أن مَنْ يمتلك السلطة عليهما هذه الغجرية الغامضة وذلك الذي يصارع الموت.
بعدما انتهيت من توفير ما يلزم ونقلنا الميت الحي إلى خيمته الجديدة، طلب مني شكيب إحضار فراش له إلى خيمة الذهب، وأن أعود لايقاظه لاحقا، لم يكن هناك ما أفعله بعد نوم وريث الذهب الجديد سوى العودة إلى ركني الخاص، وهناك كان ينتظرني حيان، وعزاني في مصابي، ويبدو أنه اعتقد بأني أكاد أموت حزنًا على طبيلة، وحين حاول أن يجمِّل موته أغلقت الطريق أمامه، فلا حاجة ليحدثني أحد عن أنواع الموت، ليتني أستطيع إخبارهم بأني شاهدت أفظع وجوه الموت! هل سيصدقون -لو أخبرتهم- أني طهوت قلب أحمد شيخة ليأكله الكعب ولم أتقزز؟ سيتهمونني بالجنون لا محالة، وإن صدقوني سأتحول في نظرهم إلى مسخ لعين، وهنا بدأ يهذي حيان:
- عزيز خذ حذرك، لقد قُتل طبيلة.
ضحكت علنا وبأعلى صوتي وشر البلية ما يضحك، وقلتُ ساخرا:
- نعم نعم لقد قُتل حقًا، ولكن مَنْ قتله؟
فقال:
- لا تسخر، الأمر أخطر مما تعتقد.
كانت ملامح وجهه جادة واعتلاها الكثير من القلق، ولم أقتنع بجنونه، ولكني سألته:
- ومَنْ في العالم بأسره يرغبُ في قتل طبيلة؟
- لا أعلم ولكن هناك مَنْ دسَّ له سُمًا في الطعام.
- وكيف اكتشفت ذلك؟ لم أر ما يثبت شكوكك!
- لقد قتل بنوع من السموم لا يملكه إلا الأثرياء، لا يقتلون به أعداءهم، وإنما أنفسهم عندما يقررون إنهاء حياتهم، وهو مزيج من الأفيون النقي ونوع من الزئبق، وهذا يفسر ما أصاب طبيلة من ضحك هستيري قبل أن يتوقف قلبه.
ولم أمنع نفسي من السخرية مما قال:
- ومَنْ -في رأيك- الثري الذي أهدر هذا السم الملكي الفاخر على طبيلة؟
أديتُ بلا قصد حركاتٍ تمثيليةٍ ساخرةٍ مشيرًا بيدي إلى حجم جسد طبيلة وحجم عقله وقلت وكررت:
- هذااااا طبيلة فقط طبيلة.
امتعض أسلوبي وقال:
أقدر حزنك عليه، وسأتركك الآن...فقط خذ حذرك يا عزيز.
ولمَّا تركني انتبهت ذاكرتي؛ لابد أن رباب المصرية أخبرته بذلك، هذه الساحرة تفاجئني كل يوم، ولكن مَنْ سيدسُّ السم لطبيلة وهو لا يفارقني لحظة؟! مَنْ سيقترب منه؟ ولماذا؟! هراء...هراء! ولم أمنع نفسي عن التفكير...لا يسعى لموته أحد، ولكن هناك مَنْ يسعى لموت جودت ولابد أنه المستهدف إن صحَّتْ رواية حيان.
طبيلة لم يأكل أو يشرب شيئًا أمس إلا في خيمة جودت، شخصٌ ما تسلل إلى خيمته وسمم طعامًا أو شرابًا قد يتناوله بعد عودته، ولم يتوقع أن الضباع ستفترسه، وأن آخر سيدخل خيمته ويتناول طعامه ليموت بدلا منه، مسكين طبيلة ما كان ليوفر طعاما يقع تحت يديه، ومن له مصلحة في قتل جودت غير فاطمة! اللعنة! كلُّ الشبهات تحوم حولها! هذه اللعينة لو صبرت لوفرت عليها الضباع عناء تسميم طعامه، ولكان طبيلة حيًا حتى الآن.
والآن أنا في مأزق حقيقي، وثلاثة أنواع من الموت يتوجب الحذر منها؛ خنجر الكعب، ومسدس شكيب، وسم فاطمة، إنه مكان صغير جدا ليجتمع فيه ثلاثة قتلة من الكبار.
ماذا فعلت بي يا حيان؟ ومن أين لك بكل هذا؟ وهل رباب أخبرتك عن سم الأثرياء؟ إن رباب تلازم فاطمة، فهل يمكن أن تكون شريكة في هذا؟! لقد كانت حريصة على إنقاذ حياة جودت، وكانت أول مَنْ بكي طبيلة، عليك اللعنة يا ابن العربية! وكأن ما بي لا يكفيني لتحضر لي هذا الكابوس، لقد جئت لتحذِّرني ولم تدر أنك قتلتني جوعا وعطشا، وكيف سآكل أو أشرب بعد اليوم والغجرية بالجوار لا تبخل بسُمِّ الأثرياء؟!
أسرعت إلى حقائبي وأخرجت ما ادخرت من بسكويت وشكولاتة، وأردت أن ألقيها في القمامة اتقاءً لموت الأثرياء؛ فقد عاش طبيلة مُعدمًا ومات ميتةَ ثري، ولكني عدلت عن رأيي وأغمضت عيني وبعشوائية اخترت حبة واحدة من الحلوى الفاخرة، وذهبت إلى جمال الدين وقدمتها له مُبتسمًا، فاندهش لفرْط أدبي، ولكني أخبرته أن كلامه الرائع عن الموت بالأمس قد ترك أثره في نفسي، التهمها بسرعة وشكرني، ووقفت أنظر إليه ببلاهة لعله يسقط ويموت أمامي، وللأسف لم يدس لي أحد السم لهذا لم يمت جمال الدين، تركته لألوم نفسي، فلو سقط جمال الدين، وكانت حكاية السم حقيقية، فلابد أن الثري صاحب السم سيلصق بي تهمة قتل جمال، وربما سيصنع مني وحشًا خائنًا قتل صاحبه طبيلة، وإن لم يفعل سينتظر طريقة أخرى يقتلني بها طالما أن السمَّ لم يفلح معي.
تركته وعدت لايقاظ شكيب من نومه كما أمرني، وهذا يعني إعداد القهوة للمرة الثانية، وأصرَّ أن أشاركه القهوة، وأجبرت نفسي على شربها وترك شمها، كنتُ فيما مضى المهرج الذي يطلب شكيب حضوره ليسليه ببلاهته، ولكن ليس هذه المرة؛ بدأ بامتداح الثقة التي منحها لي جودت، ثم سألني عن الذهب وكيفية عده وتعبئته، وعدد الجرار التي يتم تحميلها، وكيفية الدفن، وعدد الأفراد الذين يخرجون مع جودت، ووظيفة كل فرد...، وختم كلامه بسؤاله:
- وماذا يفعل طبرق؟
أسئلةٌ متلاحقةٌ طالبًا مني قولاً مُفصَّلاً، يبدو أنه ينوي إتمام ما بدأه جودت، وأنه ليس مُلمًّا بمخططه، ولم يجد غيري ليسأله، وهنا تحتَّم عليَّ أن أوازن بين سانتور وعزيز، إن شكيب على قناعة بأني مهرج أبله لا أنطق إلا بما يُضحك، وأن جودت يثق بي ثقةً عمياء لبلاهتي وبساطتي، وأني لا أطمع في شيء من هذه الحياة، ولا يمكن أن أفكر في سرقة غير الحلويات.
قلت له:
- يا سيدي، جودت باشا يطلب مني أن أملأ أربع جرار أو خمسة في كل مرة نحملها ونخرجها من الخيمة أنا وطبيلة، ثم نحمل الجرار الصغيرة على حمارين والجرة الكبيرة على بغل وبعد ذلك نربط ووو..
قاطعني قائلاً:
- لا أريد حديثًا مفصلاً في هذا، أعرف كيف يتم التحميل وقيادة الدواب، أخبرني عن كيفية الدفن.
- بعد ذلك نذهب برفقة الشيخ طبرق ونسير في الوديان ونسمع عواء الكلاب،
قاطعني مرات، وطلب الحديث عن كيفية الدفن فقط، فقلت:
- أحفر أنا وطبيلة -رحمة الله عليه- ويأتي الشيخ ويرقص ويغني لعفاريت الـ "قاقا باقا" ويذبح حمارًا ثم ندفن، وكان جودت يطلب من المرحوم أبي إيليا أن ينقش رموزًا؛ سهمًا، أو صليبًا، أو نقاطًا، أو مربعًا، أو أفعى، أو يد هلال، وحينما لا ينقش أبو إيليا كان ينقش سيدي جودت بنفسه أو يطلب مني، وأيضا كان يحمل معه دفترًا ويرسم عليه أشياء لا أعرف ماهيتها.
وهنا سألني عن مفكرة جودت وأوراقه التي يدون عليها الملاحظات، وتذكرت أني لم آخذ المفكرة التي يحملها في جيبه، فأخبرته أنها لا تفارقه دوما، ويبدو أنها فقدها عندما هاجمتنا الضباع، فسألني:
- هل تعرف أين دُفن الذهب؟
أحك رأسي مدعيًا البلاهة، وأفكر في أمر هذا الجشع، فإن كان يرغب في سرقة الذهب لنفسه فيجب أن أكون مفيدا له ليحافظ على حياتي حتى أجد مفرًا من قبضته، وإن لم يرغب فمعرفتي أو عدمها لن يحولا دون قتلي، وجودت أفندي لن يعود إلى الحياة، وكما قال روهان يوما:
- لو عاد الميت وسمع القصص التي رويت على لسانه لمات من الدهشة.
طورت شخصية السانتور لتناسب ما استجد وأخبرته:
- إن جودت أفندي كان يطلب مني أن أحفظ كل أمكنة دفن الذهب تحسبًا لضياع مفكرته، وأوصاني:
- إن طرأ طارئ أخبرْ الباشا الكبير بمواقع الدفن يا عزيز.
فسأل مندهشًا:
- هل أنت جاد في قولك؟
- نعم يا سيدي.
- وكم موقع دفنتم فيه الذهب؟
- المئات يا سيدي.
- وهل تريد أن تقنعني بأنك قادر على العودة إلى كل المواقع!
- نعم يا سيدي لقد علمني جودت كيف أفعل ذلك.
- وكيف علمك؟
- كان يطلب مني أن أحفظ بعض العلامات التي تميز هيئة ولون كل جبل وتلة وصخرة الكبيرة، وقال لي: عقلك فارغ مثل الأطفال وبإمكانه أن يحفظ أي شيء، وحينما كنا نعود كان يطلب مني أن أغلق عيني ويكرر على مسامعي كلماتٍ وأوصافًا، وأخبرني بأني سأتذكر كل شيء فور رؤيتي لأي علامة سأمر على مقربة منها مرة أخرى.
ابتسم وقال:
- نعم الإيحاء لعبة جودت، والآن فهمتُ سرَّ حبِّه لك.
ثم قلت له ببراءة سانتور الساذج:
- ولكن اقطع لسانك ولا تخبر أحدًا بذلك وإن سألوك عن أي شيء قل: لا أعرف فقط.
ضحك وقال:
- ولماذا تخبرني هذه الأسرار طالما أنه طلب منك أن تقطع لسانك ولا تخبر أحدًا.
- لأنه طلب مني ذلك يا سيدي، لقد أوصاني أيضًا، "إن حدث لي مكروه يا عزيز ابحث عن شكيب ويعقوب وقل لهما أن يأخذاك إلى الباشا لتساعده في الوصول إلى الذهب، واحذر أن يعرف طبرق أي شيء. "
لمعت عيناه، وحبس أنفاسه وغرق في صمت، ونجحت في خطتي ولن يكشف كذبي إلا إن عاش جودت -لا قدر الله له النجاة- وعندها كل أكاذيب العالم لن تبرئني.
خرج شكيب عن صمته وقال لي:
- عزيز أنت رائع.
- نعم أنا رائع يا سيدي.
- ومن يعرف بهذا الأمر غيرك؟
- يعقوب رحمة الله عليه؛ قبل موته بيوم أخبره جودت بأن عزيز باشا هو خطة الطوارئ الثانية فاحرص عليه جيدا.
فضحك وقال:
- أنت باشا حقًا.
ومن الخارج وصل إلينا نهيق الكعب:
- يا شكيب يا أخ شكيب.
خرج من الخيمة واستقبله:
- تفضل يا شيخ.
دخلا معًا، وقال لي شكيب:
- اذهب وأعد قهوة الشيخ.
فأخبرته:
- الشيخ طبرق لا يشرب القهوة يا سيدي.
جلسا ولم يكن هناك داعيا لخروجي، وفضلت الجلوس على الأرض لأن هذا ما يفعله الخدم بحضور السادة، ولن يعارض بقائي أحد؛ الكعب يعتقد أنني رجله، وللتو كسبت شكيب، تربعت وأرخيت أذني، وافتتح الكعب الحديث:
- البقاء لله يا أخ شكيب، وأنعم الله بالصحة والعافية على أخينا جودت ومع هذا أمامنا مهمة شاقة يتوجب أن نسرع في إنجازها.
- أصبتَ في قولك يا شيخ طبرق، ولكن علينا الانتظار قليلا للاطمئنان على جودت أفندي.
- شفاه الله، شفاه الله، وأنت يا أخ شكيب ابن جيش وحرب وتعلم أنه لن يعيش حتى الأسبوع قادم، لندعُ له وننته من مهمتنا.
- لنصبر حتى نهاية الأسبوع وبعد ذلك سنعيد ترتيب الأمور.
- هذه المهمة خُطط لها أن تنتهي خلال نصف شهر، وها نحن نختتم الشهرين لذا لا وقت لدي لأهدره.
- وماذا تريدني أن أفعل؟
هز الكعب أنفه وقال:
- لا أريد منك إلا أن تقوم بعملك وتحضر لي بعض الخدم لمساعدتنا.
- ومن أين أحضرهم؟
- تدبر أمرك ولا تنس أن مهمتك حراستنا وتوفير ما نحتاجه، وعند المرأة فاطمة الكثير من الخدم أراهم كل يوم يأكلون ويشربون ويمرحون ولا يفعلون شيئًا مُفيدًا، اذهب وأحضر لي بعضًا منهم.
ووجه كلامه إلى أسفل قدميه حيث أجلس وقال:
- وأنت يا عزيز، مع نهاية الأسبوع أحضر مَنْ يساعدك وجهز لي خمس جرار لنأخذها معنا.
فقلت:
- لا يوجد أحد ليساعدني، سالم عند جودت يخدم الطبيب الجديد.
نظر الكعب إلى شكيب المصدوم الذي أخرسته وقاحة حديثه وقال:
- أحضر له أحد خدم جارتنا ليساعده.
وتركنا نعيش في أجواء من الصدمة، هذا المسخ اللعين تصرف كملك "قاقا باقا" حقيقي ألقى أوامره، وأعلن نفسه قائدا للقافلة، وحوّل السفاح شكيب إلى حارس ورئيس خدم.
على من أراهن؟! على ملك الـ"قاقا باقا" أم على هذا العسكري الدمية الذي يبدو أنه لا يتحرك إلا وفق أوامر؟ أعتقد أنه اكتسب مكانته من علاقته القوية بجودت ويعقوب، نعم هو عسكري جريء، متغطرس وخشن، وهو على النقيض من جودت، فمنذ عرفته في معسكر النبي موسى- عليه السلام- رأيت فيه الرجل الهمجي؛ في تعامله مع رجاله، في تناوله الطعام، حتى عند خروجه لقضاء حاجته يفعلها بوقاحة شديدة ولا يكون حريصًا على التواري عن الأنظار، كما أنه منافق كبير ولا يعطي للألقاب أية أهمية، لم أر فيه الرجل الحريص على مخاطبته بالألقاب ولا يتردد في مصافحة أحد، ولا يفرك أصابعه بعد ذلك ليتذكر أنه يتوجب عليه غسلها حتى لا تنتقل له عدوى الأمراض من مصافحة الأقذار، هذا العسكري القاتل لا يبدو لي أنه سيصمد جولة واحدة أمام سفاح الـ"قاقا باقا" ولا أمام الأفعى فاطمة...
<<<<<<<<<<نهاية الحلقة 55>>>>>>>>>>

Comments