وفي لحظات مواراةِ الغيوم وجه البدر تبادر إلى مسامعي أصوات غريبة اعتقدتها في بادئ الأمر ضحكات طبيلة، ولكن حينما شابهت الأصوات نهيق الكعب، و"هوووع" الضبع الذي سمعته برفقة المرحوم سلامة، وصرخة مدوية لأبي إيليا من خلف الصخور، كلُّ هذه الأصوات وما صاحبها من ذكريات فزع دفعتني لأتراجع وأحشر جسدي بين الصخرتين، صراخ...رصاص...بكاء ولهاث، ارتجفت، تجمَّدت، أصاب الشلل أعضائي، وفاحت رائحة الدماء، وبِلتُ في ثيابي، لا أعرفُ كم لبثتُ بين الصخرتين؛ دقيقة، ساعة، يوم، ربما الدهر كله حتى سمعت:
- اخرج، اخرج.
هذا ما كان يأمرني به الكعب، ورفضت الخروج، صرخ شتم لعن هدَّد، ولم يزيدني إلا التصاقًا بالصخور، مدَّ يده مُحاوِلاً سحبي ولكن ضيق المكان لم يسمح لجسده الضخم بالوصول إليَّ، اختفى وعاد واختفى، ولمَّا أشرقت الشمس كان أكثر هدوءا، وطمأنني بزوال الخطر فزحفت من بين الصخرتين، وغرقتُ في بركة من دماء، وتصنمتُ جاثيًا أحملق في لونها، وعنَّفني الكعب وأمرني بالنهوض وحمل الفأس والمجرفة وأخفى كل أثر يشير إلى حفر ودفن، وحمل جودت على كتفه وسرنا لمسافه تزيد عن الثلاثة ألف متر، ومن بعيد لمحنا أحد الأحصنة التي كان برفقتنا يقف بجوار شجرة، اقتربنا منه وألقى الكعب جودت المخضب بالدماء على ظهره، وسرنا وبدأ الهدوء يعود إلى نفسي شيئًا فشيئًا، فسألته عن أبي إيليا، فقال:
- افترسه الضبع.
انتابني وجوم عدة لحظات، ثم سألته عن طبيلة، وساخرا قال:
- ربما أكلته الضباع أيضًا، لقد بحثت عنه فلم أعثر عليه، عُد للبحث عنه إن أردت.
وما كنت لأفعلها وأنا أرى بطرف عيني ما فُقد من ذراع جودت أفندي وساقه...نصف ساعة من المسير خلف الكعب كانت كافيه لأتأقلم مع بشاعة ما يحمله الحصان على ظهره، وساعة أخرى برفقة الشمس كانت كافية لتستعيد ذاكرتي الملعونة تفاصيل ما حدث بِناءً على ما التقطته أذناي، وصورته عيناي، وهذا ما حدث قبل ساعات:
جودت يحثنا على الإسراع وأنا مازلت ممسكا بالمجرفة وظهري تجاه الصخور، والكعب أمامي ينظر إلى جودت، وفي اللحظة تلك أسمع جعر ضباع، فيسحب الكعب مسدس جودت من حزامه بخفه ورشاقة، ويقفز فاتحًا ساقيه، ويتكئ بهما على الصخرة، فتبعه بصري عاليًا وقد انتصب بين الصخرتين فوقي ومازال بصره معلقٌ بجودت الذي هاجمه ضبعان؛ يقضمان ساقه اليسرى فيسقط على الأرض متكئًا على كفَّيه، وكاد يمزق حزامه باحثًا عن مسدسه الذي انتشله الكعب، يزحف محاولاً الخلاص، وبقدمه اليمنى يدفع بقوة رأس أحد الضبعين فيترك ساقه ليقضم ذراعه، فيعلو صراخ جودت:
- (ااااااااه ااااااااااخ).
الكعب يراقب ولا يحرك ساكنا، وجودت يصارع الضبعين وحده، أحدهما ينسحب بعدما قضم جزءًا من ساقه، والآخر يحاول الحصول على نصيبه وجودت لا يستسلم، أنا لا أرى إلا ساقي الكعب، ولا يبدو أنه ينتوي مساعدة جودت، تنقشع الغيوم، ويطلُّ البدر، أسمع دوي رصاص من الأعلى، فيهرب الضبع الثاني، وجودت يضغط على ذراعه ويتأوه، ولا يبدو أنه أدرك ما حدث لساقه، الكعب يقف فوق رأسه ولا يمد له يد المساعدة، وأبو إيليا يعرج نحونا، وساقه تسيل دمًا، ويردد:
- الحمد لله، الحمد لله.
ويرد عليه الكعب:
- الحمد لله.
لحظات وأسمع صوت (اوووووع اووووع)، أرى ساقي الكعب ولم أتبين ما حمله على كتفه، أسمع صوت ارتطام، يعود وينادي عليّ ويشتم ويحاول أن يسحبني بالقوة، ألتصق بين الصخور ولا تصل يده إلي، يتركني ويذهب، أشعر بالوحدة، يختفي القمر وحينما يطل لا أرى أمامي إلا بركة من الدماء.
أشرقت شمس الأربعاء وخرجت ثملا لا أعي ما يدور حولي، وها أنا أسير خلفه وما عاد لدي شك في أن الضباع بريئة من دم أبي إيليا ولا أجد منطقا ليقتله الكعب، أمَّا غريمه جودت الذي طالما حلم بقتله وما كان ليجرؤ أن يفعلها يوما فقد جاءت الضباع لتحقق أمنيته إن لم يكن هو مَنْ قاده عمدا لجحرها، وها هو يحمله ليثبت ألا علاقة له بموته، لا أعلم إن كان الغراب الأسود هرع إلينا بعد سماعه صوت الرصاص فقتله الكعب أو صرفه، وطبيلة المسكين مازال مصيره غامضا ولا أعتقد أن الكعب قتله؛ فقد وجده مفيدًا في الآونة الأخيرة، ولا يشكل عليه خطرًا، ولو افترسته الضباع لملأ صوت صراخه الجبال والوديان، وأخشى أن يكون ما رواه سلامة عن بول الضبع حقيقيا، وأن طبيلة انجذب لجحرها ليكون وجبة دسمة، ولم أشعر بأن سوءا قد حدث له، فمَنْ مثله لابد أنه يمتلك غريزه البقاء.
أبذل جهدي لأشيح بوجهي عن جثة جودت وتتلاقى عيناي بعينيه فأراه مازال ينبض بالحياة، والكعب اللعين حريص على أن يتركه ينزف ما تبقى من دمائه، اللعنة عليه! هو يدرك جيدًا استحالة نجاته مع هذه الجراح التي لم تتوقف عن النزف، ومع هذا يطيل الطريق ليزيد من عذابه.
قبل اقترابنا من حدود المخيم لمحنا ثلاثة خيالة يلهون بخيولهم حول صخرة ويثيرون الكثير من الغبار، ومع اقترابنا تبين أنهم من الأغربة السود، والصخرة التي يرقصون حولها لم تكن سوى طبيلة العملاق، هؤلاء الأنذال يعرفون طبيلة جيدا، فلم يهابوه وكانوا يلهون به كحيوان لا قيمة له، اندفعت بلا وعي أركض نحوه وهنا صرخ الكعب:
- توقف أيها الحمار توقف.
واقترب مني وحذرني ألا أندفع أبدا نحو هؤلاء حتى لا يقتلوني، نسير نحوهم ببطء وعندما كانت المسافة كافية ليروننا انطلق طبيلة تجاهي:
- (عذيز عذيز).
تركوه يمرُّ حتى حضنني ورفعني عن الأرض وكاد يسحق عظامي، كنت بين يديه كدمية يدور بها في الهواء وهو يضحك:
- (هووو هي هي هووو).
هل يحبني حقًا إلى هذا الحد! هل يوجد إنسان في هذا العالم البائس يحبني أنا! لقد أغرقني بمشاعر لم أتذوقها منذ انتبهت إلى قسوة الحياة، في تلك اللحظة فقط رأيتُ الدموع التي انهمرت من عيني سلامة عندما فرقوا بينه وبين طبيلة، في تلك اللحظة فقط وجدت تفسيرا لها، ولن أجد تفسيرا يوما لكيفية نجاته وعودته إلى المخيم.
طلب الكعب من أحد الأغربة أن يذهب للبحث عن كاظم وإبلاغه بإصابة جودت، وقبل دخولنا المخيم قال لي:
- لا داعي لأن يعرف أحد أنك اختبأت وبلت في ثيابك، أخبرهم أن عشرة ضباع هاجمتنا وأني خاطرت بحياتي لإنقاذ جودت، وبإمكانك إخبارهم بأنك ساعدتني في إنقاذه.
أحنيت رأسي سمعا وطاعة، بالرغم من أني لم أرَ سوى ضبعين، وربما كان هناك ثالث هاجم أبا إيليا، ولكن لا بأس فعدد الضباع لن يغير شيئا، دخلنا المخيم وبلا مبالاة طلب مني حمل جودت إلى خيمته، وتركنا وذهب، فحمله طبيلة ووضعناه على فراشه، وقد امتقع لونه، ولم يتبق في جسده قطرة دمٍ لينزفها، لم أقو على النظر إلى ذراعه المهشمة وساقه التي فقد جزءًا منها ولم أعرف ما أفعله سوى أن أغطي ساقه بسذاجة، أما طبيلة فجلس بجانبي وأخذنا ننظر معًا إلى جودت.
أتمتم بقولي:
- لا أتخيل المخيم بعد موت جودت.
وفور نطقي أسرعت إلى حيث يخفي أوراقه ويومياته عند خروجه ليلا لأخفيها قبل أن تقع في يد أحدهم بعد موته الذي لا يبدو أنه سيتأخر، وخرجت لأبحث عن مساعدة، وتفاجأت بأن الغرابين يقفان كصنمين، همهما تنفيذ الأوامر ولا يعيان ما أصاب سيدهما، لم أجد أمامي سوى حيان، فجئت به لعله يساعد في إسعاف ما تبقى من جودت! وعند اقترابه أشهر الغرابان سلاحهما في وجهه فاضطر للتراجع، هذان البغلان يعتقدان أن تنفيذ الأوامر أهم من حياة مَنْ أصدر الأوامر! ولا أدري إن انتبها إلى أنه شبه ميت.
أرسل حيان في طلب رباب، ولكنه لم يسمح لها بالاقتراب من الخيمة أيضًا، وماذا أفعل وأنا الوحيد الذي يسمح له بالدخول؟! وطبيلة وجد في التهام الطعام ما يشغله.
لا وقت للسانتوريات، وكان لابد أن أفعل شيئًا لإنقاذه، فهممتُ بحمله ونقله بعيدا عن خيمته التي يسد بابها الغرابان، ولكني عدلت عن ذلك وخرجت باحثًا عن حل، وهنا وصلت فاطمة، لم تنطق، بل لم ترمش، وأحنى الغربان رأسيهما وتنحيا جانبا، ودخلت معها رباب، وحين رأته برقت عيناها، وخُيِّل لي أنها ستبدأ في الرقص من الفرحة التي لاحت في عينيها ولم تفلح في إخفائها.
تركتنا فاطمة وعلى الفور طلبت مني رباب أن أخرِج طبيلة الذي تمدد وتربع فاحتل نصف الخيمة، وجاءها أحد الخدم بصندوق يخصها، وأحضرت لها ماءً، وأشعلتُ نارًا في صفيحة بناءً على طلبها، وأخرجت من صندوقها الكثير من السكاكين، ووضعتها في النار حتى احمرتْ، وقالت:
- ثبت ذراعه إن تحرك!
فاجأتني ببراعتها، لم يرمش لها جفن، نظفت جروحه بالسكين وقطعت من لحمه، وأنا قاومت بقائي معها كثيرًا ثم أسرعتُ لأتقيأ من هول ما رأيت، واستجمعت شجاعتي وعدت لأشاهدها تقطع لحمه كجزار، ثم أخرجت زجاجة سكبتها فوق جروحه، وأشعلت النار فيها، لم أر في حياتي أحدًا يشعل النار في جسد أحدهم لعلاجه، وبعد ذلك صبت فوق الجروح زجاجة عرق كاملة، وتفننت في حرقه وتعذيبه، هذه المصرية يجب تكون محققًا مع الجواسيس!
خرجتْ ثم عادتْ بعد دقائق تحمل معها قارورة غريبٌ شكلها، كريهةٌ رائحتها، سكبت منها على جروحه وأخذت تخيطها وكأنها تحيك معطفًا من جلد، لا أدري كيف يمكن معالجة مثل هذه الجراح، وبقائه على قيد الحياة!
عادت فاطمة ثانية وسألتها:
- هل هناك أمل؟
فهزت رباب رأسها ورفعت عينيها وقالت:
- الأمل في الله.
ومن لغة جسدها فهمت أنه في طريقه لمقابلة ابن خالته يعقوب، لن يسرني ذلك وليتني أستطيع استبداله بشكيب أو جمال الدين أو كل أهل المخيم عدا نعناعة! تركناه لينام والله –وحده- يعلم إن كان سيفيق مجددا، ذهبت إلى فرسه نجمة واعتنيت بها ولم أخبرها بأن صاحبها يشرف على الموت، وقد لا يستطيع وداعها، وأني سأرثها وسأعتني بها، وشكرت جودت من أعماقي لأنه كان حريصا عليها ولم يصحبها في رحلاته الليلية خشية أن تتعثر أو ربما لا يروق له أن تكون برفقه المسخ.
تركت نجمة وعدت إلى أوغاد المخيم ووجدت أن لا احد منهم قلقًا على جودت، والجميع يسأل عن أبي إيليا، كنت على قناعة بأن الكعب قد قتله ولم أشهد ذلك بعيني، ولكن عند قوله: "افترسه الضبع" علمت أنه الضبع الذي افترسه ولا أحد غيره...أخبرتهم أن الضباع افترسته وأشغلتهم بالمئة ضبع التي هاجمتنا وبنجاة طبيلة من الموت، وأرادوا معرفة قصة نجاته، فأخبرتهم بأني انهلت ضربًا بالأحجار على رءوس الضباع حتى تمكن من الهرب، وذيَّلتُ روايتي المزيفة بقولي:
- "واسألوا طبيلة عن شجاعتي".
وما كان أحد ليبذل جهدا ويسأله وهو خير من كتم الأسرار. ذهبت لأطمئن على نعناعة وسألني الكعب بفتور:
- هل مات الكلباشا أم لا يزال حيًا؟
فقلتُ
- لا أدري، لقد تركته نائما.
فأشار بيده القذرة، وقال:
- اذهب وأعد لي الطعام.
بصقت على وجهه في خيالي وتركته، حتى سمعتُ أصواتًا غريبة:
- (هو هو هو هي هي ها ها).
كان طبيلة يطارد فراشه أو ربما نحلة، ويركض كمن ثمل ضاحكًا:
- (ها ها ها هو هو هو هي هي هي).
يلهث ويضحك بصوت عال تارة، وبصوت منخفض تارةً أخرى، وجذب أغلب ساكني المخيم، وبدأ في العزف على قيثارته الفريدة:
- (ها ها والبقيه ههههه هاء هاء).
امتلأ المخيم ضحكًا، ينتقل كالعدوى حتى أصاب الجميعَ هوسُ الضحك، ضحكت وتساءلت ماذا شرب طبيلة ليثمل؟! وقف، وبهتت ضحكاته، وتمايل حتى سقط على الأرض وأثار الغبار، ولم يكن الوقت مناسبًا لإثارة الضحك؛ فقد لحق أبو إيليا بولده المسكين، وجودت في طريقه إلى الموت، وبالرغم من أجواء الحزن التي خيَّمت علينا إلا أن العملاق استطاع نشر السعادة بين سكان المخيم للمرة الثانية، ثم نام ولم يزعجه أحد، وحينما يجوع سيفيق باحثا عن طعام.
في ساعات الظهيرة حضر كاظم وتبعه خيالٌ يقتحم المخيم مُسابقًا الريح، وأثار خلفه زوبعة من الغبار، وترجَّل عن حصانه كالمجنون واتجه إلى خيمة الميت الحي، كان هذا شكيب، ويبدو أن الحمام الزاجل ينتقل من مكان إلى آخر حاملا أخبار ما أصاب الأفندي، وحينما رأى الحال التي عليها جودت أصابه التوتر وأصدر الأوامر لكاظم ليستعد لنقله، فسأله:
- إلى أين؟
لم تكن لديه خطة واضحة أو فكرة عمَّا سيفعله:
- سننقله إلى أي طبيب، إلى القدس، إلى الشام، إلى إسطنبول!
ارتبك كاظم، ولغة جسده دلت على أنه لا يدري ما يتوجب عليه، وهنا تدخلت رباب التي كانت تصب في حلق جودت سائلاً مجهولاً للجميع، وقالت:
- ستنقله الى قبره فقط، لن يحتمل ساعة سفر واحدة وربما أقل من ذلك، والآن اخرجا من الخيمة حتى أتمكن من تأدية واجبي إلا إذا كنتم تفضلان الوقوف فوق رأسي.
خرج كاظم بِناءً على طلبها وولج شكيب داخل خيمة الصناديق الملاصقة لخيمة جودت، وجلس يراقب ما تقوم به، وأنا ابتعدت لأني أكثرهم خبرة بعواقب العبث مع هذه المصرية.
أعددت قهوة شكيب بِناءً على طلبه وأشعل سيجارة وتطاير دخانها حتى وصل رباب، ولمَّا هبَّت معترضة تراجع إلى الخيمة الثالثة الملاصقة ليبقى قريبًا من جودت، وجلس على أحد صناديق الذهب وطلب أن أرفع شادر الخيمة قليلا ليتطاير الدخَان بعيدًا، وبقي شكيب يراقب من بعيد وكأنه يريد أن يودع روح صديقه حينما تصعد إلى بارئها.
لم يكن ليسرني موته، فإن قدر الله ذلك سأصير فريسة لكلاب القافلة، بقيت بجواره وحزنت على حاله وبكيت صدقًا لا ادعاءً، ربما بكيت على نفسي مما سيحدث لي بعده، وحقيقةً لم يسيء لي جودت أبدا، ولم يكن مجرما، وشكيب المجرم القاتل السفاح تأثر ببكائي، ولم يتمالك نفسه، وشرع يبكي أيضًا، وتساءلت:
- هل القتلة يبكون مثلنا، هل لديهم مشاعر وأحاسيس؟!
انتهت رباب من تفحص الأفندي، وقبل خروجها دخل كاظم وتحدث معها لدقائق واندفع شكيب نحوهما، وهنا رفع كاظم عينيه عاليًا وخرج وانزوى مع شكيب لما يقارب النصف ساعة وعلى إثرها ناداني كاظم وطلب إحضار ما يلزم للحفر وشخصا لمساعدتي.
لم أرغب في إزعاج طبيلة وتركته مستمتعا بنومه، وناديت سالمًا وأعددتُ ما طلب مني، وبالرغم ممَّا راودني من إحساس حول ما نقدم على فعله إلا أني تساءلت عن احتمال دفن الذهب، ولم يكن لكاظم علاقة بالدفن، كما أننا في ساعات الظهيرة، وذاكرتي الملعونة أخبرتني أننا لم نقم بدفن الذهب نهارا إلا مرة واحدة، ولا حاجة لذاكرة خارقة لتذكر ذلك النهار، فما حدث بين الكعب ونيروز يومها في البيت المهجور مازلت أنام كل ليلة على أنغامه.
وجاء الجواب حينما طلب منا كاظم أن نتبعه ولم نحمل جرارا، خرجنا من حدود المخيم وأخذتنا الطريق إلى التلة التي دفنَّا في بطنها يعقوب، وتساءلت:
- هل ينتوي أن ينبش قبر يعقوب بالرغم من شعوري منذ اللحظة الأولى أنه ينوي حفر قبر جودت أفندي وهو مازال على قيد الحياة!
بجوار قبر يعقوب بدأنا الحفر واشتد بي الغضب واشمأزت نفسي مما نقوم به، حلَّت الكآبة على وجهي، صككت أسناني، وجعٌ في قلبي، خناجرٌ تمزق أحشائي، وتساءلت: لماذا يعرقلني الحظ دومًا؟ حفر قبر جودت بيدي في هذا المكان يثير جنوني، أنا لا أكرهه وأقسم لأضعن الورود على قبره وأتصدق ببعض قطع الذهب من أجله، لماذا يجب أن يُدفنُ بجوار يعقوب؟ وكيف سأخرج من هذه الورطة؟ لقد أقسمت أن أنفق جرة ذهب كاملة لأحضر رعاع البشر من كل مكان ليتبولوا على قبر يعقوب، والآن ماذا أفعل؟ لن أسمح لأحد أن يبول بجوار قبر جودت رحمة الله عليه، لابد أن أجد حلا ربما سأستثمر ربع جرة ذهب لنقل قبر جودت لاحقا، وهكذا سأتمكن من الوفاء بقسمي وهذه الفكرة حملت لي الراحة والهدوء.
ابتعد عنا كاظم لتفقد المنطقة وتركنا تحت مراقبة الغراب اللعين ووجدتها فرصة لأبصق على قبر يعقوب النذل الحقير الخنزير، واستهجن سالم فعلتي قائلاً:
- (حرام عليك يا زلمه خاف الله).
وهنا عرضت عليه سيجارة مقابل كل بصقة يبصقها على قبر يعقوب فتحول فم سالم الذي فرَّق لتوه بين الحرام والحلال إلى مدفع يرش البصاق:
- (تفو تفو تفو تفو عشره تفو تفو تفو عشرون تفو تفو، ثلاثون).
وهيهات لي أن أتمكن من إيقاف سالم وإن استمر على هذه الحال لن تكفي سجائر إسطنبول للوفاء بأجره وحينما تمكنت من إيقافه طالبني بـ 700 سيجارة، هذا اللعين وكأنه يعلم أن ذاكرتي تعاني من خلل في حفظ الأرقام، وبعد جدل وخلاف حول مواصفات البصاق وأن معظم بصاقه كان رعدا بلا مطر، اتفقنا على تسوية يحصل بموجبها على ثلاث علب من السجائر فقط، وهذا سيكون كافيا له ليومين سيتمرد خلالهما حتى يعود في حاجة إلى التدخين.
عاد كاظم وانتهينا من الحفر ولم يبقَ إلا أن يموت جودت -رحمة الله عليه سلفا- وندفنه، وأملت ألا يموت سريعا حتى لا أنشغل في دفنه، وأتفرغ لنعناعتي.
وصلنا قبل غروب الشمس ودخلت خلف كاظم ووجدنا شكيب متكدر الحال غارقا في أحزانه، كان يجلس بجوار جودت يمسح العرق عن جبينه بحنان أمٍّ تسهر على طفلها المريض، وتتمنى من الله أن تعاوده روح الحياة.
تركنا كاظم ودخلت مع شكيب الخيمة الثانية ومنها إلى الثالثة؛ ليشعل سيجارة ولا يزعج الميت الحي، وكان فيها أربعة صناديق ملآنة بالذهب، وخمسه فارغة لم يسنح لي الوقت بنقلها خارج الخيمة، وتسع جرار كنت قد ملأتها ذهبًا وختمتها كما علمني المرحوم...جلس شكيب على أحد الصناديق ومد يده بعفوية وفتح الصندوق الذي يجاوره، وحينما رأى الذهب سألني سؤالا يناقض مكانته ورتبته العسكرية وعلاقته بجودت والباشا:
- ما هذا يا عزيز؟
- ذهب ياسيدي.
فاغرًا فاهه:
- كل هذا ذهب يا عزيز!
ونظر إلى الصناديق وتابع سؤالي:
- وماذا في الصناديق الأخرى؟
- أربعة مملوءة بالذهب والبقية فرغت بعد نقل ذهبها إلى الجرار مع موعد الدفن.
وكأن جوابي صعقه أو اعتقد أنه لا يجوز أن يصدق أبلها مثلي، فسأل:
- كلها كانت ملآنة بالذهب؟!
- كلها يا سيدي.
تجاهل جوابي ومد يده إلى صندوق آخر وفتحه فلمعت عيناه ولم يخفَ عليّ ذهوله برؤية الذهب، وأيقنت أنها المرة الأولى التي يرى فيها هذه الكم من الذهب في صندوق واحد، لم أر ذلك البريق في عيني جودت أبدا، وحتى السفاح الملعون يعقوب لم أشعر أنه اكترث بالذهب يوما...بدأ شكيب يلامس الذهب بكفيه، واسترجعت ذلك اليوم الذي أغرقت فيه كفي بالذهب، وعلمت أنه قد وقع في أسره، وأخذ ينتقل من صندوق إلى آخر مذهولا لا يصدق ما يراه، وكلما فتح صندوقًا ازداد بريق عينيه، وأردت ملاعبته قليلاً فأخبرته أن عشرات الصناديق المكدسة في الخيمة الثانية كان ملآنة بالذهب قبل دفنه، فاندفع كالمجنون يحملق في الصناديق وسألني:
- عزيز...هل كل هذه الصناديق كانت ملآنة بالذهب؟ ألم يكن فيها شيء آخر؟
فأجبته:
- نعم يا سيدي وأنا كنت أملأ الجرار بنفسي، وكذا في خيمة المؤن الكثير من الصناديق الفارغة.
تابعت بخباثة وبلاهة:
- ولكن اقطع لسانك يا سيدي ولا تتحدث في هذا مع أحد.
نسي ما حدث لجودت وضحك على بلاهتي ومازحني قائلا:
- سأقطع لسانك ولن أخبر أحدًا.
فأجابه سانتور:
- نعم اقطع لساني ولا تتكلم حتى لا يغضب جودت.
فضحك مجددا وقال:
- اذهب وأعد قهوتي.
أعددت قهوته بعدما صار الشك يقينًا؛ لم يستوعب عقله أن أربعة صناديق كانت ملآنة بالذهب، وكاد يفقد عقله عندما أخبرته أن عشرات الصناديق الأخرى كانت كذلك قبل إفراغها، أيعقل أنه كان جاهلاً بما في الصناديق التي حملتها الجمال؟! هل أخبروه أنها تحوي شيئا آخر؟! احتسى القهوة ولم يتوقف عن محاورتي، ومن أسئلته المتكررة بدا وكأنه كان يظن أن معظم الحمولة تماثيل وآثار، وأن كمية الذهب لا تتعدى الصندوق أو الصندوقين، ويبدو أني بتهوري قد دعوت لصا جديدا لينضم إلى بقية اللصوص المترصدة لسرقة ذهبي، فهذا اللعين يملك السلطة وبإمكانه أن يسرق الكمية التي يريدها بلا حسيب ولا رقيب، وقتها أدركت السبب الذي اختار من أجله جمال باشا جودت لهذه المهمة بالرغم من أنه ليس كُفْئًا لها، نعم جودت لا يسحره الذهب اللعين.
<<<<<نهاية الحلقة 54>>>>>>
Komentáře