top of page
  • صورة الكاتب

جرة ذهب - الحلقة الثالثة والخمسون


كان سالم المستفيد الوحيد بعد جمال الدين من مغادرة الفتى الذي حرص والده على إعطائه الناي الخاص به كعربون وفاء لمساعدته واعتنائه بابنه، وأخيرًا حصل على ما هو أغلى من الذهب الذي دفنه، ولم يتوقف عن النفخ وعزف الألحان الحزينة والمفرحة...هذا السالم الأبله يفاجئني دوما.

وضعفت الشمس أمام وحدة الغيوم الرقيقة، وآثرتْ أن تحتجب عنا خلف الجبال، وخلبت معها ناظري جودت أفندي فراقب غروبها وربما كتب قصيدة ما في دفتر أشعاره ويومياته، وليتني لم أكن سانتورا لأخبره بأن مقاهي باريس التي تغنَّى بها لن تجعل منه شاعرًا! لو قرأتُ له بعض ما كتبه روهان بيك في باريس ونبيذها لثمل على إيقاع كلماته ومزق أوراقه واحتسى قهوته في صمت.

أخذنا أهبة الاستعداد لرحلة الدفن المعتادة، وحملنا ما استطعنا من ذهب، وانطلقنا، وترك جودت غرابيه الأسودين ليحرسا الخيمة في غيابه...اصطحابي طبيلة يرهقني بطعامه وشرابه وقضاء حاجته فرغبت في اصطحاب سالم ليكون لي عونًا وتسلية، ولكن المثقف رفض طلبي، وأبو إيليا الذي كنت استأنس بوجوده كان من نصيب فاطمة في هذه الليلة.

وصلنا حدود المخيم ورافقنا كاظم للمرة الأولى، ويبدو أن جودت رغب في اصطحابه لغاية ما في رأسه المرتاب من كل شيء...لا يمتلك سانتور حرية التعبير، ولكني قلتُ سرًا:

- رحمة الله عليك يا كاظم، ستكون ضمن قائمة الذين تشرفوا برؤية قبور الذهب، وسيدفعك وسواس الثراء لتحلم بجرة أو اثنتين، ورجال الباشا كرماء؛ لن يبخلوا عليك بقبر يليق بمكانتك ورتبتك العسكرية.

وجاء دور الكعب ليمارس لُعبةَ الاستفزاز باختيار الطرق الوعرة وتكبد عناء السير لساعات طويلة، وهذه المرة لم يتذمر جودت بل جاراه في لعبته وسار خلفه كالولد المطيع، ولعل اصطحابه كاظم قد منحه القوة والشعور بالأمان!

وصلنا موقع الدفن الأول وانطلق عبدا السخرة؛ أنا وطبيلة، ومن بقي غيرنا ليحفر ويدفن! وقام الكعب بطقوس الـ"قاقا باقا" أمام صمت جودت وذهول كاظم الذي يشاهد المسرحية الهزلية للمرة الأولى...البريق الذي أطل من عينيه، ومسحة الخوف التي برزت مع تجاعيد جبينه يدلان على أنه من أهل الخرافات، ومن موقع إلى آخر قمنا بدفن كل الجرار، ونقش جودت نفسه الرموز هذه المرة، وكان يكتفي بنقش سهم أو صليب أو تقاطع وعدة نقاط لا تشير إلى شيء يُفهم، رحمة الله على إيليا الصغير كان مبدعا في نقشه، كان يأسر أسماعنا قبل أعيننا مع إيقاع تنميقه، كما كان يطربنا ويهيج أحزاننا مع ألحان نايه، لعله بألحانه الشجية كان ينوح علينا قبل أن يزفّنا هولاء الوحوش فرادى إلى الذبح!

عدنا إلى المخيم وكانت شمس الاثنين قد أشرقت، وأيقظت سالمًا وكلفته بمهامي وذهبت للنوم، ولم أستيقظ إلا على صوت رصاص على مقربة من خيمتي، فغمرت رأسي في لحافي والتزمت فراشي، لقد تعلمت جيدا عندما يتحدث الرصاص يتوجب عليَّ أنا عزيز أفندي أن أنحني في صمت وأغلق عيني ولا أفتحهما حتى يأتي من يقتلني أو يطمئنني بأن كل شيء على ما يرام؛ كنتُ نعامةً حقًا ولم أتقمص دورها حتى جاءني سالم وأخبرني أن جودت هو من أطلق النار فسألته:

- ومَنْ قتل البطل الناعم؟

فقال:

- (والله ما بعرف طخ في خيمته وما شفت).

خرجت من الخيمة بطلاً بعدما اطمئن قلبي، وظننتُ أن أحدهم دخل خيمة الذهب سارقًا وقتله الأفندي، وتأملت خيرا وخاب أملي حين رأيت جمال الدين يعتلي عرشي ويحتسي القهوة، ولمَّا لمحني قال ساخرًا:

- مولانا السلطان عزيز أفاق من نومه.

فجاريته قائلاً:

- نعم مولاك أفاق من نومه وسيهبك علبة سجائر إن انحنيت له.

ضحك جمال، وقال:

- سمعا وطاعة لمولانا، ولكن هذه المرة أحضر لي علبتين ولا داعي لأن أهدم مملكتك لأجد المكان الذي تخبئها فيه.

استفزني تهديده وبعفوية قلت له:

- أنا ملتزم بما اتفقنا عليه، ولكن أقسم بالله العلي العظيم إن حاولت أن تستولي على سجائري سأقتلك ولا يهمني إن قتلتني بعدها.

فضحك بأعلى صوته، وقال:

- لا لن أجرد مولانا من سلاحه الذي يُخضع به رقاب العباد، سأكتفي بما تجود عليّ به، ولكن كن كريما معي يا مولانا.

عاد الهدوء إلى نفسي وبالرغم من حقارة هذا التركي إلا أنه كان خفيف الظل أحيانا، يجيد معاملتي عندما أكون غاضبا...سألته عن سر الرصاص فأخبرني أن المخيم انقلب رأسا على عقب بعد سماع دوي الرصاص، وفي النهاية تبين أن جودت أطلق النار في خيمته، ربما كان يتدرب!

ولمَّا طلب مني جمال أن أخبره بأحداث الأمس، قدمت له تقريرا مفصلا عن مواقع دفن الجرار كما اتفقنا مُسبقًا، ولو كتب الله له النجاة وذهب للبحث عنها فلن يجد سوى الصخور وبعض الحجارة، لست أحمقا لأعرض ذهبي للخطر، وعندما أخبرته بأن كاظم رافقنا وشاهد مواقع دفن الذهب، علق قائلا:

- رحمة الله عليك يا كاظم فمن يقترب من الذهب سيدفن بجواره.

لم يرق لي قوله الذي يشير إلى نهايتي فألقيت له ما أراد، وتجاوزت الغرابين ودخلت خيمة جودت، وكان جالسًا على أحد المقاعد مُلقيًا رأسه على الطاولة، يبدو أنه غفى ومازال ممسكا مسدسه، وخرجت مسرعا فلا أريده أن يصحو فجأة ويطلق النار بلا وعي، هذا الرجل ما عاد إلى طبيعته بعد مقتل يعقوب، لم يكن هناك داعٍ لأطعم الغرابين فقد كلفت سالمًا أن يترك الطعام بعيدا عنهما ويشير بيده ويفر هاربًا، ونسيتُ أن أوصيه أن يبصق فيه، وسأفعل لاحقا.

مرت ساعات مملة قبل أن يرسل جودت في طلبي، فأعددت كل ما يحتاجه وحينما بدأت تنظيف خيمته شاهدتُ ثقوبا والكثير من الغبار المتطاير فأدركتُ أنه أطلق النار على فراشه القطني المريح، ربما شبح ما تجاوز الحارسين واستراح على فراشه الناعم مما دفعه لإطلاق النار عليه وقتله، ولعل هذا الجودت المكتئب عزم على قتل نفسه، وعندما أفاق من نومه وقف وتخيل أنه مازال نائمًا وأطلق النار على ظله! أشك في أنه استخدم سلاحًا من قبل، وكل ما أدركه الآن أنه يتوجب عليَّ أن أكون أكثر حذرًا عند اقترابي منه حتى يتعافى من صدمة موت يعقوب لعنهما الله جملةً واحدة.

ومع هبوب نسائم العصر ظهر عديد ورجاله فجأة، هذا الرجل يظهر ويختفي كالأشباح ولا يمكن التنبؤ بطريق حلوله أو رحيله، ورجاله غريبو الأطوار، ولكنهم بارعون، يصدعون بما يؤمرون، متناغمون في أدائهم وتحركاتهم، والأشد غرابةً منهم هذا العديد؛ عند اقترابه من خيمة جودت يتصلب الغرابان، وكأنهما أمام قائد يعرفانه جيدا ويهابانه بالرغم من أنه يفيض بالحب والتواضع والحنان، ولا تفوح منه رائحة شر؛ تراه يشبه عبد القادر في تواضعه، وسالمًا في بساطته، وأبي إيليا في هدوئه، وأحمد الكبير في ابتسامته، ونيروز في طيبة نفسها، وفاطمة في انزوائها عن الجميع؛ إن له وجوه عدة، لستُ أدري إلى أية شخصية ينتمي، وأتمنى ألا أرى فيه يومًا قسوة يعقوب، أو طغيان شكيب.

استقبلني بحفاوة، ولم أشعر أنه فعل ذلك نفاقا، أعددت لهم القهوة واحتسوها، وكانوا بمزاج رائع، وأراد جودت أن يضفي البهجة على الجلسة فطلب مني أن أذكر لعديد سبب إخفائي الطعام عن الشيخ طبرق، فقلت له:

- يأكل بعيرًا في إفطاره، وخروفًا في عشائه، ولا يأكل عندما يكون نائما.

وضحكا معًا وقال لي جودت:

- اذهب وأخبر فاطمة هانم أن جودت وضيفه عديد يرغبان في زيارتها.

تركتهما ولم أرد إخباره بأني لا أجرؤ على الاقتراب من خيمتها اللعينة لأنها تحب أن تتعرى داخلها، وإن تجرأت واقتربت لن أرى إلا زنجيها اللعين، وخطر ببالي أن أحمل علمًا أبيضًا قبل الاقتراب من حدودها لأمنع حارسها الزنجي من ضربي مثلما فعل مُسبقًا، ولكني آثرتُ ألا أقترب، ومن بعيد أخذت أنادي بأعلى صوتي:

- يا فاطمة، يا فاطمة.

ونجحت الخطة وخرجت من خيمتها، وحين رأتني شبكت أصابعها، وصرخت:

- يا ماااااالت، يا كيمو، ابعدوا مجنون جودت من هنا قبل أن أقتله.

وتجاهلتني لعنة الله عليها وأمسك الملط بيدي وقال:

- تعال معي عزيز، كم أخبرتك ألا تقترب من فاطمة! فلا شيء يستفزها أكثر منك في المخيم بأسره.

وسألته:

- ولماذا أستفزها أنا؟ ماذا فعلت؟!

ابتسم وقال:

- الكل أخبرها أنك لا تتوقف عن التلصص، وبسببك (كيماني) لا ينام الليل.

- ومن هذا الـ (كيماني)؟

- حارسها الأسمر.

تبرمتُ وقلت له:

- لا أتلصص على أحد يا سيد مالت، أخبر السيد (كيماني)، وأخبرها أني جئت الساعة لأنقل لها رسالة مهمة من الباشوات، وسأكلفك بها؛ اذهب إليها وأخبرها أن جودت وضيفه يرغبان في زيارتها، ثم عد لي بالجواب.

ضحك الملط، وقال:

- اذهب وأخبرهما أن فاطمة لا تستقبل أحدًا في خيمتها.

استدرتُ وقبل أن أبتعد استوقفني وتراجع عمَّا قاله:

- عزيز أخبرهما فقط بأنها سترسل مَنْ يبلغهما حينما تستعد لاستقبالهما.

عدتُ إليهما بالجواب، ولم يمرْ الكثير من الوقت حتى اضطررت إلى الاختباء خلف الخيمة؛ حتى لا تراني فاطمة وهي قادمة، يبدو أنها لا تحب أن يدخل خيمتها غير عشاقها؛ جمال باشا وحيان لهذا حضرت بنفسها.

لم تلق التحية، وقالت:

- جودت إن أمسكت بخادمك المجنون بالقرب من خيمتي سأقتله وها أنا أحذرك للمرة الأخيرة.

تفجَّر بركان من القهقهة داخل الخيمة حتى أنَّها ضحكتْ، ولم يلتفت جودت إلى تحذيرها وقال:

- هذا الأخ عديد يا فاطمة.

ردَّت:

- أهلاً عديد.

دقائق من النفاق المُمِل حتى قالَ جودت:

- لقد قرَّرنا أن يقومَ عديد بنقل الجزء الأكبر مِمَّا تحملينه إلى الأماكن المتفق عليها.

ضحكتْ بأعلى صوتها:

- ومن أنتم لتقرروا؟!

ومن الشق الذي أراقب منه ما يدور في الخيمة لاحظت أن عديد تعمد ألاَّ تلتقي عيناه بعينيها، وكان ذكيًا ولبقًا بانسحابه حين أدركَ أنَّ شِجارًا سيقعُ بينهما، وبمنتهى التهذيب وقفَ وقَال:

- إذا سمحتما لي، يجب أن أطمئن على الرجال وسأعود إليكم سريعًا.

خرج وتركهما لشجارهما، وأنا أبعدتُ عيني عن شقِّ المراقبة حتى لا يراني عند خروجه، وعدتُ مُجددًا لألصق أذني وعيني، ولم يفتني إلا القليل...فاطمة كانت حازمة في موقفها عازمة على ألا تفعل إلا ما تراه مناسبا، وأخبرته بأنها تستقل بقيادة قافلتها، وأن لها اليد العليا فيما يخص قراراتها، وحذرته من محاولة التدخل في شئونها فهدَّد بأن يرسل إلى الباشا يعلمه بأنها ترفض التعاون معه، فقالت ساخرة:

- افعل ما يحلو لك جودي.

لا يبدو أن اسم جودي يروق، فقال وقد بدا منه الغضب:

- إذًا حان الوقت لنحسم الكثير من الأمور.

- احسم كما تشاء يا جودي.

فقال:

- وأولها أمر الملازم الفار الذي تعترضين على نقله لمعسكر شكيب.

- افعل ما يحلو لك جودي.

أسعفني الحظ بالابتعاد قبل خروجها...تركتْه وانصرفتْ والغضبُ يفورُ من عينيها، ولم أحب الدُّخولَ على جودت وهو غاضب، فذهبتُ إلى حيث خيَّم عديد ورجاله، وزودتُهم بما يحتاجونه وقضيتُ معهم أكثر من ساعة استمتعت فيها بصحبته وظرافته، تحدث بلهجةٍ عربيةٍ وترك التركيةَ التي لا يتلفظ بها سوي في خيمة جودت، وعندما هممتُ بالإنصراف طلب أن أعود إليه بعد ساعة وألا أصحب طبيلة، وعند عودتي دعاني لأشاركه وجبةَ سمك مشوي شهي، وأفرحني بلطف حديثه، ومما قال:

- لم أرغب في حضور طبيلة؛ لأن سمك البحر كله لن يشبعه.

وبعد العصر حضر شكيب وأعددت قهوته دون طلبها حتى لا تكون سببًا في ذهابي، فهو يوم الإثارة والثرثرة.

انحنيت لأقدم قهوة شكيب في أدب الخدم فأمسك بأذني مداعبا، وقال:

- هيا أخبرني: مَنْ تحبه أكثر؛ أنا أم جودت؟

وبسنتورية متقنة أجبته:

- أنا أحب جودت ولا أحبك لأنك لم تحضر لي البدلة العسكرية والبندقية التي وعدتني بها.

فضحك وقال:

- حينما يعتمد مولاك السلطان قرار تعيينك ملازما في الجيش سأحضرها لك، والآن واظب التدرب على أداء التحية العسكرية كما علمتك.

أديتُ له التحيةَ في زي سانتور وتركته يضحك على بلاهتي ولم يكن من الخطر التنصت عليهما، ولو لم أترك الخيمة ما كانا ليكترثا لوجودي، وأغلب حوارهما تعلَّق بفاطمة والحاجة لإنهاء المهمة بأسرع وقت، وتطرق جودت بحديثه إلى حيان وعلاقته المشبوهة بها، فضحك شكيب وقال:

- رحمة الله على يعقوب، كان يساوره الشك في كل شخص لا يعرفه، ولطالما يتهم الضباط بالخيانة لأتفه الأسباب، وأنت أخبرتني بنفسك أن عزيز هذا لم يسلم منه واتهمه بالتجسس.

- إذًا أخبرني عن الفائدة من رجل لا شيء يفعله سوى أنه مكبَّل بسلسلة حديدة يحجلُ بها في المخيم؟ ولماذا لا تسمح بنقله إلى معسكرك حتى ننتهي من مهمتنا؟!

- لم أظفر معها بشيء في آخر حديثٍ بشأن هذا الملازم الفار.

- وماذا حدث؟

- أخبرتها بلهجة العسكر أن ضابط الجيش يحمل أسرارًا لا محالة، ولابد من خضوع هذا الملازم لمحاكمة عسكرية لمعرفة أسباب فراره ومعاقبته، وطالبتُها بنقله بِناءً على طلب يعقوب فادَّعت أنه أهانها، وأقسمت بأن تبقيه مقيدا لحين انتهاء المهمة، وأصرَّت على عدم تركه انتقامًا لكرامتها وبرًا بقسمها.

جودت ساخرا:

- وهل تجد منطقًا في هذا؟

- المنطق الوحيد ألا تثير خلافا معها في الوقت الحالي، وألا تشغل عقل الباشا وقلبه في هذه المرحلة الحرجة من حياتنا جميعا، فالحديث يدور حول استلامه قيادة بلاد الشام كاملة، وإن حدث سنحتاج عدة أسابيع لتنظيف المعسكرات والقضاء على مَنْ يتعقبنا، وحينها لن يعود هناك داعٍ للخوف والاختباء...اترك الباشا يكتشف حقيقتها بنفسه.

- خيانة هذه المرأة لن تتوقف عند علاقتها بحيان، قلبي يحدثني أنها ستخوننا جميعا، ماذا تعتقد في امرأة تجرأت على خيانة الباشا؟ هل ستبقي على أحد؟!

- سأجد طريقةً تخلصك منه دون إثارة أي خلاف معها، ولكي يطمئن قلبك فاعلم أن أحد عيوني بين خدمها، وعند انتهاء المهمة سآخذه بنفسي إلى الباشا ليخبره بكل شيء، ونتجنب حرج الخوض في هذا الحديث المشين.

لقد شفَّ حوارهما عن عدم امتلاكهما سلطةً تنفيذيةً تبيح لهما التصرف في الكثير من الأمور إلا بأمر مباشر من الباشا، وأن فاطمة مثل الشيخ طبرق تملك حصانة كاملة، ولا يمكن اتخاذ أي إجراء ضدهما دون الرجوع إلى الباشا.

وقبل الغروب اقترب من خيمة جودت بعض خدم فاطمة وعلى رأسهم الملط يجرون خلفهم سبعة بغال محملة، وبعد عودة الخدم فارغي اليدين ابتهج جودت كثيرا لخضوع فاطمة وتراجعها عن إصرارها وموافقتها على اقتسام كنوزها مع عديد الذي حضر واستلم البغال بنفسه، ثم عاد بها إلى خيمته، وهنا تأكدت أن هذا الرجل على قدر عالٍ من الثقة عند لجودت وجمال باشا.

ودعنا شمسُ الاثنين وانطلقنا، ورافقنا أبو إيليا هذه المرة، يبدو أن فاطمة لا تنوي الرحيل لدفن ما تحمله، أو أنها استغنت عنه، ومثل كل مرة بقي الغراب الأسود بعيدا، ولم يغب عنا سواده لاكتمال القمر، حفرتُ مع طبيلة، ونقش أبو إيليا، ومارس الكعب طقوسه، ولم يسخر منه جودت، وهذا لا يعني أنه صار مؤمنًا بهذا الهراء، وإنما التزم بأوامر الكبير عند زيارته؛ فما خفي عليَّ أن عيناه كانتا تفيضا بالكثير من التقزز.

انتصف الليل واقتربنا من فجر الثلاثاء مع وصولنا المخيم، وانقضى اليوم ولم يخطر ببالي أن جنون الثلاثاء تنحى بضع ساعات وكمن في الأربعاء، وكالعادة ملأت الجرار، ومع غروب الشمس حملها طبيلة ورافقنا أبو إيليا وانطلقنا، وعند حدود المخيم انضم إلينا غراب قبيح، ومثل غيره لم يسمح له بالاقتراب من مواقع الدفن.

حفرنا ودفنا الجرة الأولى بجوار مجموعة من الصخور تشبه مجتمعةً رأس خنزير، ثم بلغنا أماكن عدة تفصلنا عن مخيمنا مسيرة ثلاث ساعات، ودفنا بعض الجرار، ثم تابعنا المسير إلى منطقة لا يخفي أنها من مواقع الأثر التاريخية، ولمَّا تلكأ الكعب في عبورها سأله جودت عن نيته في اتخاذها موقعًا لدفن الذهب، ولمَّا أفصح الكعب عن نيته اعترض جودت بقوة لأن المواقع الأثرية تجذب الكثير من الفضوليين.

القمر مكتمل يمكِّن ضعيفَ البصر من رؤية عملة فضية بين كومة من الأحجار، ولكن سرعان ما تتحرك غيوم داكنة لتحجبه، فيستحيل رؤية الأحجار؛ عتمة وضياء؛ لعبة صبيانية مارستها الغيوم مع القمر وأرهقت أعيننا التي لا تكاد تتكيف مع الظلام حتى تتنحى الغيوم ويغمرنا البدر بضيائه، وأمام جنون الظلمة والنور عزم جودت أن نكتفي بما دفناه من جرار ونعود إلى مخيمنا، ولكن الكعب أصر أن ندفن الجرة المتبقية معنا.

جاراه جودت على أن يكون الدفن بعيدا عن المنطقة الأثرية، وأفسحت الغيوم لبعض ضوء القمر حتى لا نتعثر، وعدنا نلهث خلف الكعب عبر طرق ضيقة تحيط بها الصخور حتى بلغنا منطقة تكثر فيها المغاور والجحور، وهناك اقترح الكعب أن ندفن آخر جرة فيها، وقبل أن يبدي جودت رأيه أشار إلى صخرتين وطلب مني الولوج بينهما وبدء الحفر، لم أشعر بالراحة لضيق المكان، أما جودت فلم يرق له الموقع، ولعله لم يرد الاعتراض ثانيةً! فانصرف باحثًا عن صخرة بعيدة تصلح لنقش الرموز، ولم يجد إلا صخرة قريبة فأمر أبا إيليا نقش الرموز فوقها.

لم يحفر طبيلة لضيق المكان، وبدأ يصدر الصوت المعهود:

- اووووووه ووووووووووه.

لم ألتفت إليه، ولكني أدركت أنه يضغط على بطنه، وكانت هذه طريقته لإخباري بأنه في أَمَسِّ الحاجة للتغوط، فأشرت إليه أن يتوارى خلف الصخور، ولمَّا بلغت من الحفر مراد الكعب دفع لي الجرة، وجاهدتُ نفسي في جرها إلى الحفرة، وبدأت أطمرها بالتراب، واقترب جودت وبدا عليه الكثير من التوتر، وكأنه أراد إخبار الكعب بأنه لا داعي لإهدار الوقت في هرائه وسخفه.

حجبت الغيوم القمر ووجه جودت، أمَّا وجه السخام الأسود فلا حاجة لتحجبه الغيوم ما دام البدر قد عجز عن إضاءته!

وفي لحظات مواراةِ الغيوم وجه البدر تبادر إلى مسامعي أصوات غريبة اعتقدتها في بادئ الأمر ضحكات طبيلة، ولكن حينما شابهت الأصوات نهيق الكعب، و"هوووع" الضبع الذي سمعته برفقة المرحوم سلامة، وصرخة مدوية لأبي إيليا من خلف الصخور، كلُّ هذه الأصوات وما صاحبها من ذكريات فزع دفعتني لأتراجع وأحشر جسدي بين الصخرتين، صراخ...رصاص...بكاء ولهاث، ارتجفت، تجمَّدت، أصاب الشلل أعضائي، وفاحت رائحة الدماء، وبِلتُ في ثيابي، لا أعرفُ كم لبثتُ بين الصخرتين؛ دقيقة، ساعة، يوم، ربما الدهر كله حتى سمعت:

- اخرج، اخرج.

هذا ما كان يأمرني به الكعب، ورفضت الخروج، صرخ شتم لعن هدَّد، ولم يزيدني إلا التصاقًا بالصخور، مدَّ يده مُحاوِلاً سحبي ولكن ضيق المكان لم يسمح لجسده الضخم بالوصول إليَّ، اختفى وعاد واختفى، ولمَّا أشرقت الشمس كان أكثر هدوءا، وطمأنني بزوال الخطر فزحفت من بين الصخرتين، وغرقتُ في بركة من دماء، وتصنمتُ جاثيًا أحملق في لونها.....

<<<<<نهاية الحلقة 53 >>>>>


٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page