top of page

جرة ذهب - الحلقة الخمسون

صورة الكاتب: undefined

- لقد سمعت الباشا يقول إن أحد ضباط السرخفية يعيش معكم وسيتولى بنفسه مهمة تبخيره عندما يحين وقته، وسأله جودت: من يكون؟ هل هو عربي؟ فقال الباشا: لا هو تركي يتظاهر بأنه عربي.

وهنا سأل الكعب:

- هل سمعت اسم هذا التركي ؟

- لم أسمع جيدا الاسم كان مثل كمال...جفال...جلال...لم أنتبه يا سيدي عليَّ أن أحاول التذكر، هذا الأحمق ملك الجان لم يُخفِ ارتعابه، تجمد عقله عن التفكير ورغم كل الإشارات التي وفرتها له ليستدل على هوية الشخص إلا أنه لم يفهم ما رمزتُ إليه، ولم يتبقَ إلا أن أرفع صوتي وأصرخ:

- هو جمال الدين اذهب واقتله وأرحني منه أيها الأبله.

وهيهات أن يصل لهذه النتيجة بمفرده، وما كنت لأسهب حتى لا يكتشف كذبي، استأذنته في الرحيل ولكنه أصر على بقائي فضحكت سرًا وقلت: أيعقل أن الكعب أيضا بحاجة لحمايتي؟! لم يتوقف الكعب عن استعراض كل فرد يسكن المخيم لعله يعرف التركي المتخفي وبعد جهد جهيد حصر الأمر في اثنين حيان وجمال الدين، ولم يكن بوسعي أن أتذاكى أكثر وأخبره أن حيان لم يتظاهر يوما بأنه عربي، وخرجت وتركته لعله يصل إلى هذه النتيجة لاحقا!

بعدما أصابني الملل وجلست ساعة في انتظار مغادرة الباشا والإفراج عن البقية لأجد من أتسلى معه ويشاركني غروب الشمس الذي حان موعده أتاني جودت وأشار أن أتبعه إلى خيمته، تبعته وكان يحمل حقيبة بنية كتلك التي أعدت لتناسب سروج الخيل، طلب مني أن أحضر الأكواب بسرعة وفعلت، وأخذ أحدها وملأها بالعصمليات بعد عده كل قطعة، وعند انتهائه طلب أن أملأ الأكواب التي جعل منها ميزانا ليوفر على نفسه عناء العد.

ملأت الأكواب وأفرغتها في الحقيبة بما يساوي ثلاثة آلاف عصملية، وطلب مني حمل الحقيبة واللحاق به، سرنا ما يقارب المئتي مترًا، وابتعدنا عن المخيم ما يزيد عن المئة وخمسين، ووجدنا الباشا الكبير على حصانه وبجواره حارسه العسكري فقط، وألقى جودت الحقيبة أمامه على الحصان، ومدَّ الباشا يده ومسد على شعره، ورأيت على مرمى البصر عددًا كبيرًا من الجنود في انتظاره، واسترعى انتباهي أنه لم يَسمحْ لموكبه بالاقتراب من المخيم...عدنا أدراجنا وصرفني جودت وغادرنا شكيب ومن معه بعد ساعة وعادت الحياة إلى المخيم وعلمت أننا الليلة لن نخرج لدفن الذهب.

أشرقت شمس الاثنين ونلت من النوم ما يكفي ويزيد، أنهيت أعمالي وتربعت على العرش ومارست طقوسي، ولمحت شريكي الكعب قادمًا، سأكون سعيدا لو رأيته يلتفت خلفه خوفا من القاتل المجهول الذي أوهمته بوجوده، لم أقف احتراما له مثل كل مرة، كان يحمل صرة ملابس في يساره وعلَّق بيمناه شيئًا مجهولاً، ولمَّا وقف أمامي لم أزحزح مؤخرتي عن العرش، وقلت له:

- اجلس يا شيخ طبرق وسآمر لك بإعداد الشاي.

فرد علي بنهيق:

- قم يا حيوان وخذ هذا الكبد واطهه واغسل هذه الملابس بسرعة.

استدار وعاد من حيث أتى...اللعنة على هذا المسخ لا يتوقف عن معاملتي كعبد، وأقسمت لأتبول على يدي وأجعله يقبلها كما قبل يد جمال الباشا، هذا اللعين منذ أيام لم يقززني بالقلوب والأكباد الغريبة المجهولة الهوية، وها هو اليوم يعود ويحمل كبدا سيدفعني للتقيؤ قبل طهوه.

أسعدني وصول كاظم الدليل ليقوم بجولته المعتادة لتفحص المخيم والتأكد من وجود الجميع لأكون على يقين بأن فطور الكعب لهذا اليوم لا علاقة له بسكان المخيم، وناديت على سالم ليأتي بأحمد وأعطيته الملابس ليغسلها، وعندما تفحصها ليحدد عدد السجائر التي يجب أن يتقاضاها أجرًا اشمأز أولا ثُمَّ ضاعف السعر بحجة أنه سيعاني رائحتها، ووافقت على ما طلب شريطة أن يشعل النار أولا لأبدأ بالطهو، وعاد واشترط أن أطعمه مما سأطهو فأخبرته أنه طعام الشيخ طبرق فاشمأز وتنازل عن طلبه، وقرفص ليشعل النار، ويبدو أن جيبه كان مثقوبا لتسقط منه أمامي قطعة ذهبية، وقف على قدميه وتتابعت سقوط القطع حتى وصل عددها إلى عشر قطع، مدَّ يده والتقطها ولم يبد عليه الارتباك والخوف، وحقيقةً لم يرتبك سواي؛ فهذا الكم من الذهب قد يزجني في ورطة، وأنا الوحيد الذي اقترب من الذهب، وقد يتسبب في عودة شكيب وفرض قواعد أخرى إن لم يعدم أحدًا.

لم أجد في امتلاك أحمد للذهب أمرا غريبا فربما أخفى مما جمعه عند السيل حيثما انتحر البغل، أو التقط ما تناثر في طريقنا من الأغوار، ولكن المصيبة لو تسلل لخيمة جودت وسرق، سألته عن كيفية حصوله على الذهب، وأخبرني أن أمه أعطته إياه ليشتري لها بعض الأغراض عند عودته، هذا الأحمق يسخر مني وكأني أجهل قيمة هذه القطع، فبإمكانه شراء أم وأب وعم بقيمتها، تجاهلته قليلا ثم سألته ثانية:

- من أين لك هذا الذهب يا أحمد؟

فأخبرني أن عمه أعطاه إياه ليشتري ملابس من حلب...تركته برهة وسألته مجددا فأجاب بأن خالته أعطته الليرات...أدرك أنى لو أعدت السؤال ألف مرة سأحصل على الكثير من القصص ولن أصل إلى نتيجة، وحماقته تدل على أنه عاجلا سيكون أول المذبوحين ولا رغبة لي في إثارة الشكوك بالرغم من حاجتي في التأكد من أنه لم يتسلل إلى خيمة جودت، وفي تلك الأثناء اقتربت نعاعتي وأخذت تمسد على شعره وقالت:

- كيف أنت يا حمودي؟

رد عليها:

- مليح خالتي نيروز.

أذناي التقطت استخدامه تسمية خالتي في رده، وظننتُ في علاقتها بما يحمله من ذهب، وعشرات الأفكار راودتني وخوفي عليها دفعني لسؤالها:

- هل تعرفين يا نيروز أن أحمد يحمل في جيبه الكثير من الذهب؟

وأجابت على الفور بلا تريث:

- حمودي مسكين وأنا أعطيته الذهب ليشتري طعامًا لأمه وإخوته الصغار.

صعقني ردها، وكنتُ في حيرة بين الضحك والبكاء! عشر ليرات ذهبية من أجل الطعام، وكم ستعطيه من أجل الملابس؛ جرة أم أكثر! وتساءلت من أين أحضرت هذه المجنونة الذهب الذي قد يتسبب في إعدامها وإعدام قلبي معها! هي لم تقترب من الذهب، ولابد أن حبيبها طبرق سرق من الذهب بطريقة أو بأخرى، وطالما أن نيروز حصلت على بعض الذهب فلابد أن طبرق قد احتفظ ببعضه في خيمته، وربما هذا هو السر الذي اعتقد أني رأيته، وهو ليس غبيًا ليسمح لها بالتصرف في ذهب مسروق، ولن يتوانى شكيب عن إعدام الكعب إن اكتشف الذهب مع أحمد وقادهم إلى مصدره، وحينئذٍ سيفرح قلب جودت وقلبي أيضًا، ولكني في أمس الحاجة إلى أن يخلصني الكعب من جمال الدين أولا، كما أخشى أن يصيب نيروز شرًا بعد موت الكعب، فلن يتركها شكيب على قيد الحياة...وجدت نفسي أمام أمر معقد؛ يتوجب على أن أحمي من يستعبدني ليل نهار ليحمي حبيبتي، ويخلصني من أعدائي، وكيف لي ذلك وأنا في ورطة بين أحمق يحمل الذهب في جيبه وبَلْهاء لا تعي أنها حفرت قبرًا لها ولعشيقها المسخ!

عشرات الاحتمالات وجميعها تقود إلى النتيجة ذاتها عاجلا أم آجلا، سيكتشف الأمر وسيُنزع قلبي إن أصابها مكروه، لقد صار أحمد شيخة مصدرًا للتهديد، ولابد أن أجد طريقة للخلاص منه، انتهيت من إعداد الكبد المجهول وحملتْ نيروز القلاية بما فيها، ولم تنس أن تقول:

- (غلبتك معنا عزيز).

انشغالي بالتفكير فوَّت الفرصة لألمس يدها أو أي جزء من جسدها لاستمتع بذلك الشعور الذي يسري في عظامي ليصل إلى قلبي وينعش روحي.

بحثتُ عن جمال الدين وحيث توقعت وجدته، يجلس تحت شجرة ويتلصص على رباب، ولا أشك في أنه قد عراها في خياله المريض، وما كان يهمني مادام سيكون بعيدا عن نعناعتي، جلست بجواره ورحَّب بي -كما اعتاد- بطريقته الساخرة قائلا:

- مولانا السلطان عزيز شرفنا بزيارة!

وقلت سرًا:

- لن أيأس حتى أقنع الكعب بقتلك أيها الحقير وعندها سأبول على قبرك.

لا وقت لدي، ولا مجال للمراوغة فقلت له مباشرة:

- أريد منك يا جمال أن تخلصنا من أحمد شيخة في أسرع وقت.

اللعين استفزني حينما ضحك وقال ساخرا:

- لماذا تريد الخلاص منه، ألم ينحن أمام عرشك اليوم وهل تريد مني أن آمر السياف بقطع رأسه يا مولانا!

لم يجرؤ أحد على السخرية مني مثلما يفعل هذا الوغد وكان لابد أن أستثمر ما عرفتُه مُسبقًا وأكشف بعض الأوراق ليعلم أنى قادر على تهديد وجوده، فقلت له:

- ستقطع رأسه وإن لم تفعل سيتسبب هذا العربي في تفتيش المخيم، وربما سيقلب شكيب -هذه المرة- كل حجر ليرى ما تحته وعندها قد يكتشف الذهب الذي سرقتَه من خيمة جودت وخبأتَه خلف خيمة أبي إيليا قبل خمسة عشر يوما.

فاجأته وفاجأت نفسي بالجرأة التي تملكتني لأهدده بهذه الطريقة، فغر فاهه واحتاج لوقت ليجاوز الصدمة، وقال وهو يخبئ خوفه:

- ولماذا تعتقد أني سرقت ذهبًا؟ ألم نتفق أنك ستسرق لي الذهب؟

لأمنعه من المراوغة قلت له:

- لقد سرقتَ الذهب قبل يومٍ واحدٍ من حديثك مَعِي، سرقتُك كانت يوم أحد وحديثك معي كان يوم الاثنين، لنتوقف عن المراوغة وتذكر أنك مدين لي لأني أخفيت آثارك وإلا لتمَّ إعدامك أمام الجميع.

صمت لثوانٍ وسأل:

- وهل سرقت أنت أيضا؟

فأجبته:

- لا حاجةَ لي في سرقة شيء لن أتمكن من إنفاقه يومًا، والذهب لا يهمني في شيء.

فقال بصوت خوفه:

- لقد فاجأتني يا عزيز، وكيف يمكنني الوثوق بك وأنت تملك كل هذا القدر من الدهاء والمكر، أليس من حقي أن أشك في أنك أيضا أحد رجال السرخفية؟

ابتسمتُ وأعجبتني ابتسامتي الواثقة أمام هذا الجرذ المرتعب، وحقيقةً كنت أكثر منه رعبًا، واصطنعت نبرة صوت واثقه وقلت له:

- خلصنا من أحمد شيخة وأعدك بأني لم أرَ ولم أسمع شيئا.

ردَّدتُ ما قاله حيان:

"في هذا المخيم كلنا خراف نسير إلى الذبح ولا أحد يأبه بما نفكر أو نخطط مادمنا داخل الحظيرة"

وسأل:

- ولِمَ أغضبك أحمد لترغب في قتله؟

فأخبرته أن هذا الأبله يحمل في جيبه ذهبًا ولسانه لا يتوقف عن الثرثرة ويقضي أغلب وقته مع عبيد فاطمة وخدمها، ولابد أن أحدهم سيخبرها وهي ستخبر جودت.

تركته في حيرة وانصرفت وبالرغم من أني استمتعت كثيرا بالشخصية الحازمة التي ارتديتها إلا أنها لم تخفِ قصر قامتي وخوفي، ثم لُمت نفسي على كشف أوراقي بهذه الطريقة، والعبث مع أمثال جمال الدين لا تُحمد عُقباه.

لم تمض عدة ساعات وناداني وصافحني وشدَّ على كفي حتى لامستني قطع الذهب، وسألته:

- هل هي عشر قطع؟

ضحك ورمقني بنظرة خبيثة وقال:

- هي تسعة فقط، تعلَّم العد جيدا.

وسحب يده ومعها الذهب الذي أخفاه سريعا في جيبه وقال:

- سأحرص أنا عليه هذه المرة، وأنت حذِّر حبيبتك عشيقة السعدان كي تكون أكثر حرصا عندما توزع الذهب.

ظللتُ صامتًا فسألني:

- كم أخفى الشيخ طبرق من الذهب في خيمته؟

فاجأني الحقير واستعاد المبادرة، أعلم جيدا أنه ليس غبيا ويجيد المراقبة والتحليل والاستنتاج ولم يجد صعوبة في الكشف عن مصدر الذهب، تظاهرت باللامبالاة وأجبته:

- أخذك للقطع من أحمد لا ينهي المشكلة ومن مصلحتنا جميعا أن نتعاون حتى لا نثير جلبة.

رد علي ساخرا:

- دعك من هذا العربي فأنا خبير بمن هم على شاكلته وقتله حاليا لن ينفعنا في شيء، والآن عليك بإيجاد طريقة للحصول على كمية أكبر من الذهب.

على الرغم ممَّا حدث إلا أن اللعين يشعر بأنه مازال قادرًا على التحكم بي، لم أعلق على قوله، وتركته وشعرتُ بالقليل من الراحة لأنه لم يطاوعني في قتل أحمد، ولكني لم أشعر بتلك الراحة عندما جنَّ الليل، وانتابني قلق شديد.

إن محاولتي لإخفاء حقيقة تسبب في كشف الكثير من الأسرار وعلى رأسها سر الكعب وما يخفيه، ولا أشك في أن هذا اللعين سيجد طريقة ليستغل ما عرفه وإن شعر الكعب أنى قد استغفلته كل هذا الوقت لن يتردد في ذبحي.

وصل شكيب اللعين بعد غروب الشمس، فما يكاد يختفي ظله حتى يظهر من جديد ولا ينقص إلا أن يحتل إحدى الخيام ويتربع فوق صدورنا، ولم أتوقف عن خدمته وخدمة رجاله لساعات، قهوة، طعام وماء، ويبدو أن الأحزان قد تلاشت وعاد الضحك والهرج وكأن يعقوبا ما كان له وجود.

استرقت سمع الكثير مما دار بينهم من حديث، ولم أكن الوحيد الذي أرخى أذنيه هذه المرة؛ فقد زحف الملط اللعين على بطنه والتصق خلف الخيمة وبالرغم من أنى كشفت وجوده منذ اللحظة الأولى إلا أني تغافلتُ عنه، وأيقنت أن فاطمة قد أرسلته ليتجسس على رفاقها، لا أحد يكترث بما تفعله الخراف أمثالنا ولكن الذئاب حريصة على مراقبة بعضها البعض، ومما دار بينهم من حديث لن يسر سيدة الملط؛ حيث قال جودت:

- ستثبت الأيام للباشا أن فاطمة ليست أهلاً لكل هذه الثقة التي منحها إياها.

رد عليه شكيب:

- الآن ليس مناسبًا لإثارة أي خلاف معها، اصبر حتى ننهي هذه المهمة وعندها لكل حادث حديث.

علق جودت:

- ستثبتُ الأيام صحة كل ما قاله يعقوب.

- ولماذا لم تخبر الباشا؟

- لقد كان في عجلة من أمره ولم يمنحني فرصة الحديث، وثار غضبه لمجرد محاولتي شرح خزعبلات الشيخ، فكيف لو ذكرت اسم حبيبته فاطمة!

- مرَّ الكثير ولم يبقَ إلا القليل فلا داعي لتتوتر وتوتر الأجواء.

وتابع ساخرا:

- والآن أخبرني أين ستقضي عطلة عيد الأضحى؟

فرد عليه:

- سأذهب إلى فرنسا بصحبة الشيخ طبرق.

وضحك الاثنان، ثم سأل شكيب إن كان ينقصه شيء ليرسله مع كاظم، فقال جودت:

- إن أمكنك أن توفر السجائر والقليل من الحلويات من أجل العيد.

مر أكثر من دقيقة من الصمت قبل أن ينطق شكيب ويقول:

- أصدقني القول، ما الذي تتوقع حدوثه بعد الانتهاء من مهمتنا؟

في حزن يقول جودت:

- رحمة الله على يعقوب، ولا أعتقد أن الباشا يوافقه الرأي.

- عزيزي جودت نحن عسكريون ونؤمن أن لكل حرب ثمن، ويعقوب كان مجرد منفذ لأوامر الباشا.

- أعلم ذلك ولكني سأتحدث معه، وسأحاول أن أعدله عن قراره.

ولما خارت همتي عن إرخاء أذني أكثر من ذلك ابتعدت بعدما فهمت أن شكيب يحرص على صيام يوم عرفة خلاف جودت الذي لا يؤمن بشيء، ولم أكن بحاجة لأجتهد حتى أفهم أن الحديث كان بشأن إعدام الجميع، وأنها أوامر الباشا نفسه، وسرني أن جودت يعارض ذلك.

الأحداث تتابع مُتسارعة حتى أنها فاضت من عيني، وليس لدي من أثق به أكثر من حيان لأفرغ له بعض حمولتي، ذهبت إليه وكان نائمًا فأيقظته وخرج لقضاء حاجته واستلقيت على فراشه قليلا في انتظار عودته، ويبدو أن النعاس قد غلبني وحينما فتحتُ عيني كانت الشمس قد أشرقت ووجدت أن حيان تركني نائما وألقى عليَّ لحافه الذي تفوح منه رائحة العرق وعدة روائح كريهة أخرى.

طلعتْ شمس الثلاثاء، ولم أتشاءم مثل كل مرة؛ فالثلاثاء الماضي مات يعقوب، وكان أسعد أيام حياتي، والذي سبقه وجدت كنزا بالرغم من احتمالية خسارتي جرة ذهب، واليوم ربما يقتل أحدهم جمال الدين أو شكيب، وهكذا سيتحول الثلاثاء إلى يوم سعد أبدي؛ قال أحد الباشوات في حضور روهان:

- "إن أيام النحس بعد زمن تتحول إلى أيام حظ، وما علينا إلا أن نعرف متى يكون التحول".

وعلق روهان:

- "الحظ والنحس مسميان نَصِف فيهما النجاح والفشل ولن تنفع كل تعويذات العالم لتجعل من رجلٍ سلطانًا مادامت أمه لم تضاجع آل عثمان...الحظ لن يأخذ فاشلاً إلى القمة، والنحس لن يهوي بناجح إلى الهاوية، والقرارات التي نتخذها في حياتنا تأخذنا إلى نجاح أو فشل."

وبالرغم من إيماني الأعمى بكل ما يقوله روهان إلا أنى أؤمن أن يوم الثلاثاء هذا لا علاقة له بقرار أتخذه، وها هو يتحول إلى يوم سعد، وأمي تزوجت طباخًا وأنجبتني لأكون أغنى أغنياء العالم، قراراتي ستساعدني على سرقة الذهب لأحقق هذا الهدف...بدأت بإنجاز مهامي وسألت نفسي ماذا سيحمل لي هذا اليوم من مفاجآت! لم يعد الوقت يمر سريعًا بل تثاقل ووجدت نفسي مجبرا على مراقبة نيروز التي يجب أن أجد طريقة ما تمنعها من توزيع ذهب كعب الحذاء على الخدم والحمالين.

أعددت الشاي وعدت إلى حيان لنحتسيه سويًا فلم أجده، وذهبتُ للبحث عنه فلمحته شرق المخيم بالقرب من الأشجار قد اختلى بنيروز في حالةٍ من الانسجام، واختبأت خلف شجرة وراقبتهما وأقسمت اليمين إذا لمسها لأخبرن الكعب حتى لو أدى ذلك إلى قتلهما معا، ومرتْ عشر دقائق من المراقبة ولم يحدث شيء وحينما انضمت لهما رباب اطمأن قلبي، وباغتني سالم من الخلف ليخبرني بالذهاب إلى جودت أفندي، ولم يكن بالأمر المهم، هذا الناعم يشعر بالوحدة دائما ولا يجد غيري ليستأنس به وعاجلا سيصيبني بالملل، قضيتُ في خيمته أكثر من ثلاث ساعات متواصلة بين تنظيف وحديث ممل جدا، وحقيقةً زادت الأمور عن حدها وما عدت قادرًا على احتمال الهوس الذي أصابه بعد موت الخنزير.

ومن خيمته بدأت أسمع صوت غريب لم أسمعه من قبل:

- هوهو هوهو هي هي هي هي يا يا ايا وا وا وا.

هذا صوت طبيلة هل جُن هو الآخر فوق جنونه! واستأذنت جودت وأسرعت لأطمئن عليه، اتبعت الصوت ووصلت إلى حيث يجتمع الماء المتدفق من النبعة عبر الصخور قبل أن يشق طريقه إلى نهر الأردن، ويبدو أني لست الوحيد الذي شده الصوت، اقتربتُ وكان طبيلة يجلس عاريا لا يرتدي إلا ما ستر عورته ومن حوله الحسناوتان نيروز ورباب، واحدة تفركه بالصابون والأخرى تصب الماء على رأسه وهو يردد:

هو هو هو هي هي هي يا يا يا.

كانت هذه طريقته في الضحك ليعلن عن سعادته، تجمع أغلب أهل المخيم يراقبون المحظوظ السعيد وهو يحصل على حمامه الأول بعد موت سلامة، كم حسدته وتمنيت أن أكون مكانه في تلك اللحظات! وما كنت لأمانع أن أردد "هو هي ها" مثله، انتشر رذاذ الماء الذي يحمل معه السعادة، أصابنا وضحكنا جميعا وشاركنا الحسناواتين بمتعة غسل العملاق، هذا الطبيلة استطاع بضحكه العجيب أن ينشر الفرحة والسعادة وينسي الجميع الموت المتربص بهم وأشك في أن ينسى أحدنا تلك اللحظات التي تساوي أكثر من جرة ذهب.

تساءلت كيف استطاعت هذه المصرية اللعينة أن تقنع الفيل بالاستحمام ولم ينجح أحدنا بفعلها، وتذكرت ما قاله عبد القادر يوما: "إن الحيوانات تشتم رائحة الحب وتطيع من يحبها...كنت في غاية السرور ومع هذا لم يرق لي أن تسيطر المصرية على فيلي فأنا من اعتني به وأطعمه وانتظرت اللحظات القادمة حيث سأشمت بها وبخاصة أن معظم ملابس العملاق قد تمزقت وقلت سرًا:

- والآن أيتها البارعة هل ستتركينه عاريا بعد هذا الحمام المنعش؟!

وما كانت لتتركني لأشمت؛ فهذه المصرية أعدت كل شيء سلفا، يبدو أنها خاطت له ملابسًا تلائم حجمه، لا أدري كيف فعلتها هل جمعت عدة بدلات عسكرية وقامت بتوسيعها، أشهد أنها كانت ساحرة بارعة، طلبت منا أن نساعده في ارتدائها، كنا نساعد طبيلة في ارتداء ملابسه ومن بعيد أشار أحد خدم فاطمة إليها فركضتْ إلى خيمتها.

لم تمضِ عشرُ دقائق حتى عادتْ وبدا على ملامحها الارتياح، وأخذت تراقب طبيلة وتدور حوله وتغمز بعينيها:

- (ما شاء الله عريس بجد!)

أخرجت من جيبها ربطة عنق ولفتها حول رقبته الغليظة فتدلَّتْ فوق صدره الضخم، وضحك الجميع وشعرت بأنها تعمدت أن تفعل ذلك سخريةً مني، فلا يرتدي ربطة عنق غيري، وهكذا سأتميز أنا وطبيلة بربطة العنق، لعنة الله عليها! أفسدتْ سعادتي في يوم الثلاثاء هذا.

غربت الشمس وأضاء نصف القمر المخيم، وودعت الثلاثاء دون حدث يُذكر، ونمتُ مطمئن النفس، ثم كان صباح الأربعاء 28 من تشرين الأول الموافق 8 من ذي الحجة عام 1332هـ، ومرَّ اليومُ هادئًا لا جديد فيه حتى غربت الشمس، وقبل انتصاف الليل تعاون الجميع في إعداد الطعام وإشعال نار تجمع حولها أغلب سكان المخيم، وتناولوا الطعام وعقدوا نية صوم يوم عرفة، وهي المرة الأولى التي يجتمع فيها كل هذا العدد حول النار، ليلة باردة ولم تدفئنا النار بقدر شعورنا بالسعادة، لم أنتوي الصوم ولكني انضممت لهم مثل غيري، وانضمَّت نيروز وتضاحكت كثيرا، والتهم طبيلة من الطعام ما يكفي عشرة، وأثق بأنه الوحيد الذي سيصوم حتى يفيق من نومه، وانفض الجمع.

طلعت شمس يوم جميل، بدأته بتحضير طعام الكعب ولم أبصق فيه، حملته وفي طريقي إليه أقسمت لو أخبرني بأنه صائم لأبصقنَّ في وجهه مباشرة، وكفاني الله شر القتال؛ فقد التقفه والتهمه وشاركته نيروز، وتركتهما لأعد قهوة جودت أفندي مثل كل يوم فهذا الناعم صاحب شخصية ثابتة لن يزوره الإيمان فجأة ليصوم يوم عرفة.

هدوء يوم عرفة أصابني بالملل فلا يوجد شيء لأفعله، ويبدو أن الصائمين قد عزموا منذ الأمس على إطالة فترة نومهم لتجاوز ساعات الصوم، أيقظت طبيلة من نومه وحشوت معدته بالطعام وأكلت معه وأكملنا معًا صيام هذا اليوم وعند الغروب كان الجو باردا فأشعلنا نارًا، وتعاون الجميع في إعداد وليمة الإفطار.

انقضت ساعات الليل واجتمع في الأرض عيدان؛ يوم الجمعة، ويوم عيد الأضحى، وكانت صلاة فجر الجمعة والعيد وأمّ المصلين جمالُ الدين، بارك الله فيه، نعم التقي الورع هذا اللعين! وعلت أصوات التكبير والتهليل، ومع ارتفاع الشمس قدر رمح عاد جمال الدين ليؤم المصلين في صلاة العيد، وأمر الكعب بنحر جملين إحياءً للسنة في يوم النحر، واجتمع حشد كبير ليشهد النحر، ثم غمرتنا السعادة حول وليمة واحدة، ولم يفكر أحد في صلاة جمعة أو ظهر، وجلس طبيلة الوسيم النظيف المعطر صاحب البدلة العسكرية، وساهم الكل في إطعامه، وكان يوما لن أنساه ما حييت، وجاءت المفاجأة من فاطمة هذه المرة، فقد أرسلت مع الملط الكثير من الحلويات، "وكل عام وأنتم بخير أيها الأحبة انعموا بهذا العيد جيدًا قبل أن يتم ذبحكم جميعا! لا يجوز لأحد أن ينسى هذه اللفتة الجميلة، ما ألطفهم وأروعهم هؤلاء الكبار يدللون الخراف قبل ذبحها! مما دفعني لأفكر أن أقترح على جودت توزيع عدد من جرار الذهب على سكان المخيم ليفرح قلبهم قليلا ويدفعهم للاسترخاء قبل أن ينحرهم الكعب ويرقص الـ"قاقا باقا"، ثم يعود ويجمعها بعد ذبحهم، ماذا سيخسر إن تركهم يفرحون قليلا!

<<<<<< نهاية الحلقة 50>>>>>>



Comments


© 2023 by JarretDahab

bottom of page