top of page
  • صورة الكاتب

جرة ذهب - الحلقة التاسعة والأربعون

غربت شمس الخميس، وبعد مقتل يعقوب ومحاولة هروب نعمة الفاشلة أصبح الكل يشكل خطرا على حياة جودت أفندي وأسراره، وبعدما تم استبعادي من قائمة المشتبه فيهم صرتُ –حقًا- عبدًا من عبيد السخرة؛ لقد أوصى جودتْ حرسه الجُدُد بإطلاق النار على كل من يقترب من خيمته دون إنذار مما تسبب في إصابة أحد خدم فاطمة، ومن سيجرؤ ليساعدني في شيء إن تعلق الأمر بالاقتراب من خيمة جودت.

هؤلاء الأغربة لا عقل في رؤوسهم وقد تم تصميمهم لتنفيذ الأوامر بحذافيرها، وليس من المستبعد قتلهم أي شخص مرَّ -بلا قصد- قريبًا من خيمة جودت، أرهقني ملء الجرار بالذهب وتحميلها على البغال ولم يرافقنا سوى طبيلة، حتى الأبلهين سالم وأحمد شيخة لم يعد يسمح لهما بمرافقتنا، ومهمة الحفر والدفن وقعت كلها فوق رأسي، ثلاثة أيام لم أذق فيها طعم الراحة ولا النوم، اختفى عرشي وطقوسي اليومية لم يعد لها وجود، وخيم المؤن أصبحت في متناول الجميع، ولولا حرصي على إخفاء السجائر لفقدت كل نفوذي وما عاد لي وزن بين هؤلاء الأوباش؛ جمال الدين يقضي معظم وقته في مطاردة نعناعتي والتحرش بها كلما واتته الفرصة، بينما هي تقضي معظم وقتها في مطاردة حيان، والله -وحده- أعلم بما حدث بينهما في غيابي وعلى حين غفلة من شريكي الكعب، وأنا أصبحتُ ضائعًا بين حاجتي للنوم ومتابعة أبناء مملكتي وإرضاء الناعم الذي سكنته روح يعقوب، وما عدتُ قادرًا على إضحاكه، وكل تصرفاته تدل على أنه قد مسَّه الجنون...غامتْ السماء، واختنق القمر، ولم تسمح له الغيوم بأن يطل علينا، وأظلمت في وجه جودت ولم نخرج للدفن فكانت فرصة للراحة والنوم.

استيقظت مع إشراقة شمس الأحد، وكنت أعلم أن سالمًا استغل غيابي في الأيام الثلاث الماضية ولم يعد يقيم لي وزنًا، وأقنع نفسه بأنه السيد الجديد وأخذ يوزع الطعام أمام عجزي عن أداء مهامي وما كان بيدي شيء لأفعله سوى التزام الصمت...واليوم قررت أن أستعيد السيطرة على خيام المؤن من جديد، خرجت من خيمتي وصعقت من الوقاحة التي بلغها سالم؛ لقد أخرج الصندوق ونصب العرش وجلس عليه كما اعتدت أن أفعل، فاختبأت خلف الخيمة أراقبه يرتشف القهوة ويخاطب أحمد شيخة مقلدا صوتي ولساني في نطق العربية وقال له:

- ما رأيك في شاربي يا أحمد؟

رد أحمد بلهجته:

- ( أعطيني سجاير بقولك عظيم عظيم)

قال سالم:

- لا يوجد هنا سجائر سأعطيك طعاما.

رد أحمد:

- (أنا شبعان ما بدي أكل أعطيني سجاير مثل عزيز بقولك انو شاربك عظيم عظيم)

اعتدل سالم على العرش وقال له:

- خذ ملابسي واغسلها جيدا وسأكافئك.

فرد عليه

- (انت ما معك سجاير ما بدي العب معك)

فقال سالم:

- اذهب يا ولد ونادي نيروز لتحتسي معي الشاي.

وعندها لم أصبر لأسمع رد أحمد، فاقتربت منه ودفعته عن العرش وجلست مكانه وقلت له:

- أيها الحقير جلست على عرشي وسرقت خزائني ووصلت بك الحقارة أن تلسِّن على نيروز! أقسم إن لم تنحنِ أمامي الآن وتقبل يدي لأبلغنَّ الشيخ طبرق ليذبحك كما ذبح الحمار، ويراقص عفاريته فوق دمائك.

انحنى وقبل يدي ورجاني ألا أبلغ الكعب بما سمعت، شعرت بالقوة والفخر ففي مملكتي لا أحد يخيف الجميع كما يفعل شريكي المسخ، ابتهج قلبي بعدما استعدت عرشي الوهمي وقلت لسالم:

- اذهب وأعد قهوتي وعفاريت صديقي الشيخ طبرق ستراقبك حتى لا تبصق فيها.

أسرع سالم لخدمتي كما اعتاد وهنا نطق أحمد شيخة وقال:

- (شاربك عظيم عظيم يا عزيز بيك).

كنت -فيما مضى- أحب تقمص شخصية روهان وأدعي بأن لي شاربه العظيم، ولكني الآن يملأني الحزن والكدر، وأشرت إلى شيخة ألا يكرر هذا مرة أخرى فسألني:

- (طيب شو بدك نلعب اليوم يا عزيز بيك؟)

ابتسمت لمَّا قال ولعل هذا الولد الذي فُطر على الكذب قد وجد وصفًا مناسبًا لطقوسي اليومية، أستمتع بهذه العبة ويستفيد من يشاركني فيها، وغيابي ثلاث أيام عن ممارستها أفقدني البراعة، وحقيقة لم تعد لدي الرغبة في لعب دور جودت أفندي الجبان ولا روهان ولا أحد الباشوات، سألته عن الأخبار وانطلق لسانه بسرد الأكاذيب فأخرسته قبل أن ينهي كذبته الأولى وأعطيته ملابسي ليغسلها، وعاد سالم وناولني قهوتي، وتلفتُّ يمنة ويسرة، وهززتُ رأسي وتمتمتُ متظاهرا بأني أتحدث مع عفريت لا يراه غيري فسألني سالم:

- (مع مين بتحكي يا عزيز).

- أتحدث مع عفاريت الـ"قاقا باقا.

- (ما بصقت في القهوة لا تعب حالك وتسالهم يلا اعطيني سجاير زي احمد).

- أنا لا أكافئ الخائن على خيانته بل أقطع رأسه.

- (أعطيني سجاير وبعدين اقطع راسي).

لم أرغب في خوض جدال مع هذا الأبله، أعطيته السجائر وحاول أن يقنعني بأن أمنحه المزيد ليوزع على البقية، وما كنت بهذا الغباء لأمنحه ما يساعد على تعزيز مكانته، فالسجائر التي أخفيتها أغلى من الذهب، وقبل انصرافه أخبرته أن يبلغ الجميع "من يريد السجائر فليأتِ وينحنِ أمام العرش"، ولم يختفِ ظله حتى جاء جمال الدين ساخرًا قائلا:

- أين السجائر يا مولانا السلطان عزيز؟

وما كنت لأجرؤ على ممارسة طقوسي على أمثال جمال الدين وأعطيته ما أراد وعاتبني على إخفاء السجائر عنه طوال الأيام الماضية، احتسى قهوتي التي أعدها سالم وأشعل سيجارة وقال:

- أقسم بالله العلي العظيم أني لم أعد قادرا على فهم شخصيتك، هل أنت أبله حقًا أم تدعي البله؟! ما وصلتُ إليه من مكانة يدل على ذكاء عظيم، وما تمارسه يوميا لا يصدر إلا عن الحمقى! لا يمر يوم إلا وأسمع عشر قصص عن بلاهتك، أيعقل أنك تظاهرت بالبلاهة حتى أصابتك؟!

ثم قهقه بأعلى صوته وتابع:

- مصيبةٌ لو اكتشفتُ أنني الأبله الذي خطَّطَ مع أبله!

سرَّني ما أوهم به نفسه، وانتابني شك عابر في كوني أحمقًا لا يعي حمقه، ثم اعتدلت في جلستي على العرش وقلت له:

- أنا سليل باشوات وأستاذ كبير ولا يهمني رأي البلهاء يا سيد جمال الدين.

- لا يهم أيّنا الأبله، والآن هل فكرت في طريقة لبدء سرقة الذهب؟

أقول ضاحكًا:

- ومن يجرؤ على الاقتراب من خيمة جودت هذه الأيام!

- لا يُسمح لأحد غيرك.

- لخيبة الأمل لم أُترك في الخيمة دون مراقبة، ومما وصل إلى مسامعي أن المزيد من الحرس سيصلون قريبا لذا أنصحك أن تجد طريقة للهرب وتعود لاحقا لإخراج كنوز فاطمة ولابد أنك تعرف مواقع دفنها، لقد سمعت أن فيها عشرات التماثيل الذهبية.

فضحك وقال:

- فاطمة ليست في غباء جودت يا عزيز، ولا يعرف أين دفنت كنوزها إلا خمسة، يعقوب ومالت المخنث، وثلاثة من العبيد، وبالرغم من كونهم خُرسًا عزلتهم عن الجميع، وأبو إيليا الذي رافقها دوما ونقش لها العلامات أشك في اقترابه من موقع دفن واحد.

ما قاله جمال تناقض مع ما سمعته من جوهر ومن بعض خدمها وقلت له:

- ولكني سمعت أنه لم يبق أحد باستثناء حيان إلا شارك في الحفر والدفن.

فضحك وقال:

- نعم شاركنا عشرات المرات في الدفن، ولكني أشك أننا دفنا شيئا ذا قيمة، وربما فعلت هذا للتمويه عن الكنوز الحقيقية التي أخفتها مع مالت.

- ولماذا لم تتسلل إلى كنوزها وتسرق شيئا قبل الدفن؟

فاختصر جوابه:

- فاطمة قادرة على اشتمام رائحة ما يدور في رأس أحدنا، ويعقوب لا يفكر مرتين في إطلاق الرصاص على رأس أحد.

- ومع هذا لم يجرؤ على قتل حيان.

- لم يُرِد أن يغضب فاطمة ولكنه أقسم أن يقتله، لهذا أنا على يقين بأن صديقك حيان قاتل يعقوب وليس أحمد العربي، وسأكتم هذا السر مادمت آمل في تعاونه معي.

أتاني سالم مهرولا وأبلغني أن جودت أرسل في طلبي فأسرعت إليه واستقبلني غاضبًا وسألني:

- لماذا تأخرت وقد أرسلت في طلبك منذ وقت؟

لم أجد ما أقوله إلا أني كنت مشغولاً في إعداد الطعام للشيخ طبرق والآخرين، وثار غضبه وأخذ يشتم الكعب وقال:

- لا تحضر طعام أحد إن لم آمرك، دعهم يعدون طعامهم بأنفسهم، أنت هنا لخدمتي فقط، هل فهمت؟

- نعم سيدي أنا خادمك فقط.

وقلت سرًا:

- سأبول على قبرك قريبا بعدما يقتلك صديقي طبرق.

جلس على مقعده، يلهو بمسدسه كما اعتاد يعقوب -عتَّم الله قبره- أن يفعل وهنا أيقنت أنه مازال يعاني صدمة موته...وقفتُ في انتظار أوامره ولم يطلب شيئًا، ولمَّا انتبه لانتظاري أمرني بتنظيف الخيمة ولم يكن أمامي إلا التظاهر بذلك؛ فقد نظفتها بالأمس ما يزيد عن خمس مرات...عاد وطلب مني الجلوس على أحد المقاعد، ولم أجد مقعدا صالحا؛ فهو لم يترك شيئا في خيمته لم يخربه غضبا لمقتل قريبه في يوم الثلاثاء السعيد...جررت أحد الصناديق الفارغة وجعلت منه مقعدا وجلستُ أمامه.

اتكأ على الطاولة وطلب أن أحدثه عن شقيقي العسكري الذي قتله المصريون، وسألني:

- هل قتل أخوك أحدًا في هذه الحرب؟

لقد سيطر القتل على تفكيره، وكان خجولاً في سؤاله عن المشاعر التي تتملك القاتل، ولكن انعدام قيمتي أزاح عنه الخجل قليلاً، ومثل هذا الحديث لا مُزاح فيه، وما كنت لأجعل من ذكرى شقيقي موضعًا للسخرية، ولهذا وصفتُ له مشاعري وكأنها على لسان أخي، وجعلت من الموت أمرا ممتعا حتى اندفع في غباء شديد، ودلت عيناه على جِديته في سؤاله:

- كيف كان شعور المقتول حين قتله؟

أقسم أن سالمًا كان ليخجل من طرح مثل هذا السؤال الساذج...تحيرتُ في إجابته؛ فلم يقتلني أحدهم لأصف له الشعور وقلت له في غباء يفوق غبائه:

- شعر بالسعادة يا سيدي.

فابتسم وقال:

- لماذا يكون سعيدًا؟

فقلت:

- لأنه سيذهب إلى الجنة يا سيدي.

وجوابي كان كافيا ليعيده إلى طبيعته التي افتقدها، وضحك بأعلى صوته وقال:

- أنت جنتي يا عزيز.

صرفني وقبل خروجي استوقفني وقال:

- ما اسم العربي الذي قتله شكيب؟

- أحمد الشايب

فقال:

- هل هو متزوج ولديه أطفال؟

أدركت أنه يشعر بوخز ضميره، وأجبته:

- لديه عشرة أطفال، أصغرهم في الرابعة من عمره يا سيدي.

وحقيقة كان لديه ثلاثة شباب، وأصغرهم كان في الثالثة والعشرين.

تركته وانصرفت وحرصت على أن أعطي الغرابين الواقفين على باب خيمته بعض ما حملته في جيبي من التمر وكانت هذه إحدى الطرق التي انتهجتها في ترويضهما، ولمَّا بلغتُ عرشي وجدت الكعب في انتظاري وأخذ يوبخني لأنني لم أعد طعامه، لم أكذب وأخبرته أن جودت منعني من خدمته فقال مُتحديًا:

- اذهب واذبح بعيرًا، وأعد طعامي الآن.

فقلت:

- أمرك سيدي.

لم يعد برفقتنا ذابحو البعران، فاستعنت بجمال الدين، وأعددتُ الطعام وحرصتُ على إطعام الذئبين الحارسين جودت أفندي والذهب، كانت لدي خطة لهذا اليوم ولكن حينما رأيت شكيب يمتطي حصانه وإلى جانبه ثلاثة من الجنود يتجولون في المخيم وينتقلون من خيمة إلى أخرى دعوتُ الله ألا يُعدم أحدًا آخر باستثناء جمال الدين.

كان أزرق العينين يقترب من كل خيمة ولم يغادر صهوة حصانه ومرافقيه يُخرجون مَنْ فيها ولم يقترب من خيام فاطمة وطلب من مالت أن يستدعي الجميع، ولم تمر دقائق حتى جُمع أغلب من في المخيم في خيمة واحدة، ولمَّا انضممت إليهم وبصحبتي طبيلة أمرني أن أدخل رجلي الضخم وألقي نظرة داخل الخيمة وأتمم على حضور الجميع، وألقيت نظرة سريعة وأخبرته أن الجميع موجود باستثناء مالت، والشيخ طبرق، ونيروز، والزنجي حارس فاطمة، فطلب مني الذهاب إلى الكعب وإخباره بضرورة انضمام فتاته إلى الجميع داخل الخيمة، وأسرعت إلى الكعب وكان لابد أن أصيغ ما طلبه مني بطريقة تناسب أذنه القذرة فقلت له:

اليوزباشي شكيب يأمرك أن ترسل نيروز لتنضم للخدم والعبيد.

وسرني أن رده كان يليق بملك الـ"قاقا باقا" وقال:

- اذهب وأخبره أن يذهب إلى الجحيم.

عدت لأنقل الرسالة لشكيب ولكني وجدت من الحكمة ألا أستفزه حتى لا يقتل الكعب وهذا لن يصب في مصلحتي حاليا وأخبرته بأن نيروز مريضة ولن تتمكن من الحضور، فطلب مني أن أسرع إلى خيمة جودت دون توضيح الأسباب.

وكان جودت في أبهى صوره وطلب مني ترتيب الخيمة وساعدني بنفسه للمرة الأولى، وكان واضحا أنه يستعد لاستقبال ضيوف على قدر كبير من الأهمية ولم يخفى عليَّ أن جمال باشا الذي بُشرنا بقدومه منذ أكثر من أسبوع سيكون على رأسهم، أعددنا مائدة تليق بباشوات واكتشفت أن هذا الجودت يخفي في صناديقه التي لم أتمكن من فتحها حلويات من النوع الفاخر، تين مجفف ومكسرات، وفاكهة طازجة لا أعرف كيف وصلته حديثا، لم تتوفر مقاعد تليق بمؤخرات ضيوف الغفلة وجعلنا من الصناديق مقاعد فاخرة بعد أن كسوناها بما توفر من السجاد وألحفة فاخرة.

فتح أحد الصناديق وأخرج منه زجاجة نبيذ أبيض فرنسي، وتمنيت لو كان البيك موجودًا لأسرق واحدة من أجله، قاومت إغرائي سابقا ولم أحمل قطعة ذهب ولكني لم أتوقف عن التفكير في السطو على هذه الحلويات التي تذوقتها عيناي وغافلته وأخفيت القليل منها في جيبي.

لم ننتهِ من إعداد المائدة حتى فاجأنا أحدهم بوقوفه على باب الخيمة حاجبًا ضوء الشمس، كان رجلاً متوسط الطول ملتحٍ، وقفته وشاربه وحذائه وبدلته اجتمعوا ليدلوا على كونه باشا، انطلق جودت ناحيته وعانقه، الاستقبال كان عائلي حار يخلو من الرسميات، وجلس الباشا ولم يعرني انتباهًا وخاطب جودت:

- (كيف انت جودي البقية بحياتك حبيبي).

وطلب مني جودي الخروج من الخيمة وأوصاني أن أصلب نفسي على بابها وألا أتحرك إلا بإذنه، صلبتُ نفسي وأرخيتُ أذني وأرهفتُ سمعي، وكان بالقرب مني عسكري صلب نفسه ولم يتحرك أيضًا، ولم أر أي أثر للغرابين، وكأنه تم إبعادهما ليفسحا المجال لحرس الباشا.

نصف ساعة مرت ولم يهل أحد، وناداني جودي وطلب على عجل دعوة الشيخ طبرق والعودة لأتصنم مكاني، وذهبت مسرعا واستخف الكعب بدعوته وسخر قائلاً:

- وماذا يريد الكلباشا هذه المرة؟

وشوقي بألا يفوتني شيء من الحديث الذي يدور بين جودت والباشا كانت أقوى من رغبتي في زرع البغضاء، فأخبرته أن هناك رجل يحمل أوصاف الباشوات ويريد مقابلتك، فسبقني هرولة وركضت خلفه، ولكن العسكري اعترض طريقه وصوب سلاحه ليمنعه من التقدم، وامتعض ملك الـ"قاقا باقا" لهذا الاعتراض المهين، وهنا رقص شاربي الهزيل الذي يُسمح له بالمرور إلى مجلس فيه جمال باشا شخصيا، ودخلت الخيمة لآخذ للكعب إذنا بالمرور، خرج جودت وأمر الحارس بالسماح له ولم يسدل شادر الخيمة وربما فعل ذلك حتى لا تزعج رائحة الكعب الكريهة أنف الباشا، وشعرت بالقرف حقًا حينما انحنى الكعب وقبل يد الباشا وأخذ يدعو له بطول العمر ويخاطبه بألقاب التمجيد، هذا الحقير تحول في لحظات من ملك إلى عبد وعفَّر أنف الـ"قاقا باقا" التي بدأتُ أستغلها لإخافة سالم وأحمد شيخة، ويبدو أن ما فعله قد سرَّ جودت كثيرا وعلق بكلمات لم أسمعها، مما دفع الباشا ليطلب منه الخروج من الخيمة لحين انتهاء اجتماعه مع الكعب.

تهامس الباشا والكعب لعدة دقائق ولم أستطع إرخاء أذني بجوار جودت، وقبل خروج الكعب فرض العناق على الباشا، وبدا عليه أنه لم يكن راغبًا فيه، وقبل انصرافه وصلت إلى أذني:

- أتقن عملك وستجد ما وعدتك به في انتظارك.

عاد جودت إلى الداخل ولم أسمع سوى بضع كلمات وكان منها:

- لا تسخر من أحد في حضرتي، وهذا الرجل أعرفه قبل أن ينبت الشعر على وجهك فحذار أن تسخر منه مرة أخرى.

صمت جودت، أو ربما لم أقدر على سماع شيء، وما قاله الباشا كان كافيا لأعرف أن الكعب من مشعوذيه، وكما قال روهان بيك "لكل طربوش مشعوذ يرضعه الخرافات من ثديه الثالث".

خرج الباشا وتوجه إلى خيام فاطمة التي تعطرت ألف مرة لحين وصوله، وعدت داخل الخيمة وكنت أعتقد أن جودت سيكون متكدر الحال ولكنه كان في غاية السرور حتى أنه مازحني وسأل:

- هل سرقت شيئًا في غيابي من الخيمة يا عزيز؟

وأجبته على الفور:

- نعم سرقت ثلاث حبات تين مجفف.

وأخرجتها أمام عينيه، فضحك بملء شدقيه وقال:

- ألا تجيد الكذب يا عزيز؟

أجبته:

- نعم يا سيدي أنا أجيد الكذب وكل شيء.

وضحك وقال:

- أعد ترتيب كل شيء كما كان، وكُلْ ما شئت.

وتعمدت أن أبدأ بملء جيوبي أمامه حتى فاضت بما حشوتها وقال:

- يا عزيز قلت لك كُل ما تريد، ولم أقل املأ جيوبك.

فأجبته:

- نعم يا سيدي سآكلها وحدي، ولن أطعم احدا.

خرج وتركني، وانتهيت من الترتيب والتلصص على بعض الخرائط والأوراق التي كان يحملها الباشا الكبير وتركها لجودت، وكانت في أغلبها خرائط عسكرية لم أفهم منها شيئا، انتهيت وخرجت، ومازال الجنود يحرسون الخيمة التي حُجز فيها الجميع، ولا يبدو أن جمعهم كان لغاية أخرى غير الحفاظ على سلامة الباشا وسرية زيارته.

اقترب مني الملط الذي يبدو أنه فوق الشبهات ليتم حجزه مع الآخرين وهزَّ رأسه قائلاً:

- لقد استقبلت الباشا قبلي يا عزيز.

أخرجت حبة شوكولاتة ومررتها له خفية إلا أنه قال:

- لدينا منها الكثير، والوليمة التي أعددناها أكبر من وليمتك.

وضحك مثل عاهرة قائلا:

- بعد قليل ستشتعل النار في خيمة فاطمة ولو كان بالإمكان لأخذتك معي لتراقب وتدفئ جسدك بالقرب من نار لقاء الكبار.

تركني، ولم أجد أحدا لأتحدث معه فذهبت إلى الكعب النذل المتسول، وسألته وكأني لم أر كيف انحنى يلثم يد الباشا:

- من هذا الرجل الذي لم ينحن أمامك يا سيدي؟

- فقال: هذا الخليفة القادم يا عزيز.

حاولت أن أتغابى مرة أخرى ولكنه قاطعني، وسألني عن أي شيء سمعته يستحق أن أبلغه به، فكرت قليلا ووجدتها فرصة مناسبة لبث الخوف في قلب المسخ فقلت:

- لقد سمعتهم يتحدثون عن شخص مجنون تفوح منه رائحة كريهة ولم أفهم ماذا يقصدان.

وقفت موهما إياه بأني أستعد للرحيل، وقلت:

- هل تريد أن أعد لك شيئا يا سيدي قبل ذهابي؟

فأمسك بيدي وقال:

- اجلس يا عزيز وأخبرني بما سمعته حرفًا حرفًا.

فقلت له:

- لقد سمعت جودت يسأل الباشا ماذا ستفعل مع هذا المجنون؟ ورد عليه الباشا: قريبا سيتبخر ولن يعود له وجود، اصبر وراقبه جيدا.

امتعض الكعب وللمرة الأولى أرى أن وجهه الأسود ظهر فيه مثل هذا الاحمرار وقال:

- وماذا سمعت أيضا؟

فقلت:

- لقد سمعت الباشا يقول إن أحد ضباط السرخفية يعيش معكم وسيتولى بنفسه مهمة تبخيره عندما يحين وقته، وسأله جودت: من يكون؟ هل هو عربي؟ فقال الباشا: لا هو تركي يتظاهر بأنه عربي.

وهنا سأل الكعب:

- هل سمعت اسم هذا التركي؟

<<<<<<<نهاية الحلقة 49>>>>>>>>>>>>>


٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page