top of page
  • صورة الكاتب

جرة ذهب - الحلقة الخامسة والأربعون

غابت الشمس وارتحل القمر ولم يترك إلا خيطا رفيعا، وقد اعتدنا عدم الخروج لدفن الذهب في الليالي المُظلمة فاعتقدت أن هذا اليوم سيمر بلا حفر ودفن، ولم تمض ساعة حتى أرسل جودت في طلبي، وكالعادة أسرعتُ برفقة طبيلة لتحميل جرار الذهب، وحين وصلت أبلغني جودت أن أقوم بتحميل جرة واحدة صغيرة فقط على حمار، وأن يعقوب هو مرافقنا اليوم.

فعلت ما طلب وانطلقت إلى الكعب لأساله عمَّن سيرافقنا لأخبرهم مثل كل مرة، ولكنه أخبرني بعدم مرافقة أحد سوى يعقوب، وفهمتُ أن طبيلة أيضا لن يرافقنا، وهنا تسرب الكثير من الشك إلى قلبي.

انطلقنا نحن الثلاثة وتجاوزنا حدود المخيم، وكان بانتظارنا اثنان من الزنوج وازدادت مخاوفي حينما لاحظت الانسجام الغريب بين الكعب ويعقوب، وتساءلت هل اكتشفا أكاذيبي ومحاولاتي المتكررة للإيقاع بينهما فعزما على ذبحي؟ لا أعتقد أنهما تواجها، ربما لم يكتشفا شيئا، وأن الكعب اللعين أراد أن يمارس طقوس الـ"قاقا باقا" على جثتي، ويمسح أعضاءه بدمي، وفي كلتا الحالين سأموت هذه الليلة المشؤمة.

أراقب يعقوب والكعب بطرف عيني وهما يبتسمان، وأصرخ في أعماقي "ويلي الوحوش تبتسم" وكان محرم عليها مُسبقًا، كل شيء يشير بأن هذا يومي الأخير وكل خطوة تأخذني إلى النهاية المحتومة، لا لا لا هي ليست مصادفات، اللعنة! سأموت اليوم! سأُذبح! كيف سيكون شعوري عندما يحز الكعب عنقي، هل سأتألم كثيرا؟ وبعد موتي ماذا سيحدث هل سأذهب إلى جهنم بجرائمي أم إلى الجنة بمغفرة ربي؟ إن الله رحيم، لقد كانت معظم جرائمي في خيالي فقط، والله لا يحاسبنا على ما في دواخلنا، إنما على ما نرتكبه، يا رب يا رحيم ارحمني برحمتك، وإن قدَّرت موتي هذه الليلة فخفِّف عني العذاب.

نذرت أني سأمنح ثلث الذهب الذي سأسرقه لاحقا للفقراء والمحتاجين إن قدَّر الله نجاتي، وأقسمت أني سأتزوج ولن أرتكب الفاحشة حتى في خيالي، وسأبني مسجدا وأداوم على الصلاة، ومدرسة لتعليم الفقراء، ومستشفى لعلاجهم ولن أتقاضى ثمنًا، كانت صفقات عقدتها مع نفسي بما سأقوم به إن نجوتُ من الذبح.

وهنا تساءلت أليس من الحكمة أن أحاول الفرار بدلاً من الاستسلام للموت، ولكن نجاتي مستحيلة في وجود أربعة من الوحوش حولي، يعقوب، الكعب، واثنان من الزنوج، وأنا الذي أُشْبِه الفأر كيف سأنجو في هذه البراري! رافقني الموت واشتممتُ رائحته، سرنا لساعات وساعات، وكان يعقوب والكعب في غاية الانسجام يتنقلان من مكان إلى آخر ويتجادلان، ومِمَّا سَمِعتُه وأنا مُرتعب قول يعقوب:

- يجب أن تختار مواقع أقرب إلى درعا.

الكعب:

- الباشا طلب أن نحافظ على مسافات بين كل موقع وآخر وألا نتبع خطًا منتظمًا يمكن تتبعها يوما.

فأشار يعقوب تجاه جبل قائلاً:

- صواب، ولكن يجب أن تختار مواقع تصلح لتكون تحصينات عسكرية تحسبًا لنشوب الحرب، ومن منظور عسكري أرى أن الأقرب إلى سوريا سيكون أكثر أمنا.

- شرق النهر كله سيكون آمنًا، اطمئن.

- لقد علَّمنا الباشا أن الحرب خدعة، ويجب أن نتوقع خيانة الإنكليز.

- شرق النهر آمن، ونحن نهدر الوقت في توزيع الذهب على مئات المواقع.

- أدعِّم رأيك ولكن تنفيذه يحتاج إلى موافقة الباشا وحتى حضوره سنلتزم بأوامر جودت في دفن كميات صغيرة من الذهب، واحرص على أن يكون الدفن في مواقع تصلح لتكون تحصينات عسكرية.

حديث الاثنين دلَّ على أنهما عادا على وفاق، وسأدفع أنا ثمن هذا الانسجام، كانت الجولة استكشافية، راقبا فيها الكثير من المواقع، وأحيانا كان يتركاني بصحبة الغرابين ويصعدا تلة، وكنت أراهما بالرغم من اختفاء القمر يشيران إلى كل اتجاه، لم ندفن الجرة وعدنا في طريقنا واقتربنا من مغارة بوابتها تشبه علامة الاستفهام، أشار إليها الكعب وابتسم يعقوب، وأيقنت أن ذبحي سيكون في هذه المغارة، وسيكون الاحتفال بدمي عند بابها، وما كان هناك شيء أفعله سوى الخنوع للموت المؤكد، وتحسس عنقي بين الحين والآخر، بدأت الحفر بناء على أوامرهما، وحينما رأيت بطرف عيني الغرابين المسلحين لم يبتعدا وبقيا ملاصقين ليعقوب كان ذلك مؤشرًا لانعدام نية دفن الذهب، وهنا ما عاد لدي شك بأنه سيتم ذبحي وأكل قلبي وكبدي.

بدأت أحفر واقرأ القرآن وأدعو الله واستغفره، وسالت دموعي وفقدت الإحساس بكل شيء، وربما فقدت عقلي، وأخذت أضحك وأنشد "كز عزيز كز" احفر قبرا يناسب مكانتك الباشوية! وحين لمحت الكعب يدخل المغارة صرخت بأعلى صوتي:

- أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.

وأكرر الشهادتين، أمسك الكعب بكتفي وبلت في بنطالي، وأخذ يسألني:

- ماذا بك، ماذا بك؟!

وأنا لا أتوقف عن ترديد الشهادتين بأعلى صوتي، وحينما نظر إلى حيث حفرت قال:

- لماذا وسَّعت الحفرة أيها الأحمق؟ لقد طلبت منك أن تحفر لدفن جرة واحدة لا لدفن حمار!

وعادت الطمأنينة إلى قلبي مجددا، وأسرعت لحمل الجرة ودفنها، وبالرغم من صغرها إلا أنها كانت أثقل من أن أحملها، وفعل الكعب ذلك ودفنها وطلب أن أهيل التراب وأبتعد.

عادت إليَّ روحي بعدما حلقت في عالم الأرواح، فلم تكن هناك نية لذبحي، ولكن خيالي برع في إرعابي، وعزمت أن أوفي نذري عندما أسرق الذهب، سأمنح ربعه للفقراء، وسأبني مستشفى ولن أتقاضى من المرضى إلا رسوم قليلة، خلع الكعب عباءته وذبح الحمار على باب المغارة، ورقص ونهق الـ"قاقا باقا"، ونال إعجاب يعقوب وانتهينا ولم يتبقَ إلا أن نعود أدراجنا إلى المخيم.

كانت المفاجأة بأن طلب يعقوب من الكعب العودة وحده، وأنه بحاجة إلى أن يصحبني معه لمكان ما حتى أترجم له من العربية إلى التركية، وأخبرتني عيناه أنه ينوي بي شرا، وهز الكعب الحقير رأسه غير مبالٍ وكأنه على علم مسبق بما سيحدث، وكدت أصيح فيه: "لا تتركني معهم أنا عبد "القاقا باقا"! أنا خادمك أيها اللعين!" وعاد شبح الموت يحلق فوق رأسي من جديد.

جلس يعقوب فوق صخرة وبدأ يشعل السيجارة تلو الأخرى، ويرمقني بنظرات فيها الكثير من الكراهية والبغض وبعد مرور ما يقارب العشر دقائق أشار إلي بيده وقال:

- هيا يا عزيز.

وقفت مستعدًا للرحيل، ولكنه فاجأني بأن طلب مني أن أدخل المغارة، وحينها ما عاد لدي شك في النهاية اللعينة، ولو نذرت كل ما سأسرقه من ذهب لن أنجو، دخلت المغارة وهو خلفي وزادني دهشة حينما طلب مني خلع كل ملابسي، فخلعتها باستثناء الملابس الداخلية، وأشار بإصبعه:

- هيا اخلع كل شيء.

فعلت ووقفت أمامه عاريا كما ولدتني أمي، وتساءلت إن كان ينوي قتلي لمَّا عرّاني؟! وهل يعقل أنه ينتوي بي شيئا آخر؟ وذهب خيالي بعيدا بعيدا، وحين أخذ يتفحص جسدي الهزيل بعينيه الجليدية وطلب أن أستدير أيقنت أني في ورطة لن يحسدني عليها إلا الملط المُخنث...أدرت وجهي إلى الحائط وانهمرت الدموع من عينيّ، وحلَّق خيالي بلا حدود، وأقسمت إن نجوت من الموت سأحرص ألا يعرف أحد ما حدث في هذه المغارة، دقائق مرت ولم يحدث شيء، وركبتاي لا تقويان على حملي، وهنا نطق الحقير وسأل ما لم أتوقعه:

- من أنت يا عزيز ولصالح من تعمل؟

لم أجد داعيا للاستغباء ولا للذكاء فأجبته:

- أنا عزيز وأعمل خادما لروهان بيك.

رفع صوته وصرخ :

- من ساعدكم في الانضمام إلى القافلة، ومنذ متى تعرفون بأمرها؟

حاولت توضيح الحقيقة، ولكنه كان يقاطعني ويعيد الأسئلة نفسها، ويتوقع مني أن أعطيه جوابا مختلفا، ومن أسئلته أدركت أنه يشك بأني جاسوس لأحد الباشوات المعادين لهم، ولم يخطر ببالي إلا ما قاله روهان يوما "حينما يعتقد الحمار أنه بلبل لن يميز بين التغريد والنهيق" ويبدو أن هذا الحمار قد فاض صبره بعد أن فشل بنزع اعتراف بأني جاسوس، وانهال عليَّ بالسوط، ومن شدة الألم صرخت وبكيت ورجوته أن يخبرني بما يريدني الاعتراف به، فقال:

- لا داعي لاعترافك أنا أعرف كل شيء، أعرف من أرسلكم ومن خطط لكم وما هي مهمتكم بالضبط، والآن أخبرني من تعاون معكم لأجعل موتك سريعا.

هذا المعتوه لم يتوقف عن ضربي وركلي واستدعى الزنجي ليساعده ولو تركني ألفظ أنفاسي قليلا لنسجت له قصة جعلت فيها من أمي وأبي أخطر الجواسيس إن كان هذا سيوقفه عن جَلدي، أخبرته عن المعسكر وعن حيان ورشيد، وجعلت من روهان جاسوسًا عظيمًا، وأني مساعد الجاسوس وحين أصر أن يعرف لصالح من نعمل زل لساني وأخبرته أننا نعمل لصالح عبدالحميد مباشرة، هذا المعتوه انتشى لهذه الاعترافات، ولم ينتبه بأن عبدالحميد قد تم عزله منذ سنوات، وربما لا يعرف حتى...

لعنة الله عليك يا سانتور! لم تضمِّنُ قواعدَ الغباء كيفيةَ التعامل مع مَنْ هو مثل يعقوب، صبَّ أسئلته حول حيان ولم أخفِ عنه شيئًا، هذا اللعين ثمل لنصره بعدما أجبرني على الاعتراف وأراد المزيد فأخرج من جيبه مفكرةً وقلمًا وقال:

- هيا أخبرني مَنْ يتعاون معكم أيضا.

أخبرته بأنه لا يوجد أحد آخر لأخبر عنه، وهنا استشاط غضبا وعاد يجلدني بالسوط، وليت الأمور توقفت عند الجلد بل أشار إلى الزنجي وطلب منه أن يتعرى، وهددني بأني إن لم أخبره بكل شيء سيجعله يعتدي علي وبعد ذلك يقتلني.

الزنجي الذي تعرى أمامي كان خير علاج لتأتأتي وخوفي، حينها علمت أن احتمال نجاتي من الموت معدومة، وما عاد يهمني موتي بقدر أن أموت بعيدا عما سيفعله هذا الزنجي الضخم بي، فصرخت بأعلى صوتي:

- سأعترف سأعترف، سأخبرك بكل شيء.

وبدأت أعدد الأسماء؛ سعدون، خلدون، سلامة، حسن، مراد، الحج حسين، وكان يدوِّن كل ما أقوله، والطريقة التي أمسك بها القلم دلت على أنه يشقُّ عليه جمع الأحرف، وحين سألني عن الخيمة التي يسكنها رشيد، أيقنت أن هذا الحمار غير ملم بتفاصيل ما حدث معنا، وتأكدت بأنه لم يفطن بأن معظم من ذكرتُ أسماءهم قد ماتوا، وبالرغم من الألم الفظيع الذي أشعر به كان لابد أن أسخر منه؛ أخبرته أنه يسكن خيمة طبيلة، وأردتُ إخباره أن الرجل العملاق هو أيضا جاسوس كبير، ولكن يبدو أنه أُرهق واكتفى بما حصل عليه من اعترافات، وستكون كافية ليتباهى بها عند حضور الباشا الكبير.

أدار رأسه للزنجي وراودني شعور بأنه سيطلب منه قتلي ودفني، وهنا كان لابد أن أدافع عن نفسي وأجرب طريقة قد تكون فيها نجاتي، فأدرتُ وجهي بعيدا عنهم وأخذت أتحدث بأعلى صوتي وأردِّد:

- أخبروه أنتم أنا لن أخبره لا دخل لي.

نظر إليَّ يعقوب وقال:

- مع من تتحدث؟!

- أتحدث مع جن سيدي الشيخ طبرق.

فتراجع عدة خطوات إلى الخلف وسأل:

- أين هم؟

فأشرتُ بيدي إلى كل مكان لإيهامه بأنهم ملأوا علينا المغارة، وسأل الحمار:

- ماذا يريدون منك أن تخبرني؟

- قالوا إنك يجب أن تأخذ عزيز إلى جودت أفندي ليسمع اعترافاته بنفسه.

خرج يعقوب خارج المغارة ربما ليبتعد عن الجان قليلا...وربما ليفكر بما طلبوه منه، ودعوت الله أن يطيع العفاريت ويصحبني إلى جودت أفندي لأنجو من الموت.

بوابة المغارة غطتها سحابة من دخان السجائر، وحين رأيت العتمة تتراجع أمام نور الشمس أيقنت بنفاد حظي؛ فالبشر يكونون أكثر شجاعة نهارًا، ولغة جسد يعقوب لا تشير إلى موافقته على طلب العفاريت، وهنا حدثت المعجزة؛ وقف يعقوب فجأة وفي الوقت نفسه اقترب منه ظل حجب النور عن المغارة وأظلمها، وانشرح قلبي وشعرت بالقليل من الطمأنينة حين رأيت أن الذي يقف مع يعقوب هو أخي وشريكي وصديقي ملاك الرحمة الوسيم.

استمر الحديث بينهما لأكثر من نصف ساعة، لم أسمع حوارهما، ولم أر إلا حركات أيديهما وهز رأسيهما، ثم دخل الملاك المغارة وقال:

- ارتد ملابسك يا عزيز وهيا بنا.

ارتديت ملابس وخرجت أسير خلفهم ذليلا، الكعب أنقذ حياتي ولن أنسَ له ذلك أبدا، لم أجد جوابا يشفي غليلي، كيف حضر وماذا دار بينه وبين يعقوب ليعفو عني، وهل هو شريك فيما حدث لي؟! والشيء الوحيد الذي كنت موقنا منه أن نظرات الكعب لي كان فيها بعض الشفقة، وأنه استاء جدا عندما رأى آثار السوط على جسدي، ومازال يعقوب يرمقني بنظرات تحمل الكثير من الكراهية والشك، ولعله لا يريد أن يقتنع بأني مجرد أبله، حتى لا يرى بنفسه الأبله الذي أراد أن يجعل من أحمق جاسوسا.

قاربتْ الساعة العاشرة صباحا عند وصولنا حدود المخيم واقتراب أحد افراد القوات الخاصة وتمتم ليعقوب بعدة كلمات وأشار لنا اللعين أن نتبعه، مررنا خلف الصخور بمحاذاة المخيم ولم أر جندًا عند حدوده، لقد أبعدوهم وحلَّ محلَّهم بضعةُ رجالٍ من الفرق الخاصة، وأشك في أنهم قادرين على مراقبة مساحة المخيم الشاسعة، وسرنا لما يقارب العشر دقائق وبدأنا نرى كمائن الجنود والمتاريس التي أقاموها للتصدي لأي هجوم مباغت، والمسافة التي تفصلهم عن الصخور المحاذية للمخيم تزيد عن الألف متر، وعدد من نراهم لا يزيد عن العشرين...توجهنا بعيدا وبين الجبال كانت هناك خيمة كبيرة حولها أغربة مسلحون.

دخلنا مع يعقوب، ورأينا عربيًا في الأربعين من عمره مقيد اليدين، تعرض لضرب مبرح، والدماء التي سالت وجفت على لحيته وشاربه أخفت ملامحه، استقبله يعقوب بركلة على وجهه ثم داس رأسه، وقال لطبرق: اسأله من أرسله ليتسلل إلى المخيم، وأخذ الكعب يستجوبه بالعربية والرجل ينفي تسلله، واستشاط يعقوب غضبا وأخذ يضربه بوحشية لا مثيل لها، وهنا نطق العربي وقال:

- جئت لأحضر طعاما لابني.

وعلى الفور أدركت أن هذا الرجل هو والد الولد الذي أخرجناه من البئر، وأصابني الارتباك، ولاحظ يعقوب ذلك وسألني:

- هل تعرف هذا العربي يا عزيز؟

فقلت:

- لا لا أقسم بالله لا أعرفه، ولم أره في حياتي قط.

وأعاد السؤال:

- عزيز هل تعرف هذا العربي؟

فأجبته:

- لا أعرفه وأظن أني أعرف ابنه يا سيدي.

لم يصبر حتى أشرح وعاد وأمسك بعنقي وبطحني على الأرض وأخذ يصرخ:

- هيا اعترف ما علاقتك بهم ومن أين تعرف ابنه؟

ارتبك الكعب وشعر بأني أخفي أسرارا، وربما في النهاية سيتبين أني جاسوس كبير، فقلت:

- دعني أشرح لك يا سيدي؛ ابنه ولد صغير عمره سبع سنوات وجدناه بين الصخور وهو الآن يعيش معنا في المخيم.

رويت له القصة كاملةً، وأقسمت له الأيمان وتبين أن الكعب أيضا متفاجئ من وجود الولد داخل المخيم، وهنا أخذ يعقوب يصك على أسنانه ويتمتم:

- جودت...جودت...شكيب...كاظم ...عليكم اللعنة! مغفلون.

غمغم وهمهم بكلمات غير مفهومة، فحواهها أنه يلومهم على جهلهم بما يدور حولهم، ووجهه كلامه إلى الكعب وقال:

- وأنت يا شيخ طبرق ألا تعرف ما يدور حولك؟

كانت نبرة صوته تحمل استهزاء بالكعب، وأشار بيده وقال:

- هيا اذهبا وأحضرا لي الولد بسرعة.

كانت المرة الأولى التي أراه فيها يأمر طبرق وكأنه خادم لا شيخ وملك عفاريت، رافقنا غراب مسلح وعدنا إلى المخيم، وفي الطريق زاد وجه الكعب اسودادًا وسألني باستياء:

- لماذا لم تخبرني بأمر الولد؟ لماذا؟

- اعتقدت أنك تعرف يا سيدي.

- اللعنة عليك! لا تعتقد...لا تعتقد! أخبرني فقط بكل شيء.

- نيروز قالت إنها أخبرتك.

- اذهبْ وخذْ الولد وسلِّمه ليعقوب.

- لن يعطوني إياه تعال معي لتقنعنهم.

ذهبنا معًا للبحث عن الولد، ومن خيمة لخيمة أخبرنا الجميع بأنه مع نيروز، وصلنا خيمة الكعب وكان الولد نائما في أحضانها، وكأنه صغيرها، وقد شعر بالأمان بعودته إلى أحضان أمه، أفاقت ولم يكن من اليسر إقناعها بأن أم الولد في انتظاره، ارتعب الولد مني وتعلق بها ورفض الذهاب معي، واضطر ثلاثتنا إلى التوجه معًا حتى حدود المخيم، وهناك أمسكتُ بيده وأخذ يبكي وأمسك الكعب بيد نيروز ليبعدها عنه، وبكت هي الأخرى، وجررت الولد وكان بانتظاري غراب مسلح أخذه مني وأمرني بالعودة إلى المخيم.

شعرت بمراره لأخذي هذا البريء إلى موته المحتم، ولكن ماذا يمكن أن أفعل غير ذلك، هل سأحارب هؤلاء القتلة لإنقاذه! والده الذي حبسه مسؤول عن مصيره، وفي طريق عودتي تساءلت هل هذا الرجل والده حقًا؟ وإن كان كذلك لماذا حبسه في هذا المكان؟! لا أجد منطقا لذلك، ربما اختطفه لغاية ما، وكان هذا أحد الأسرار التي لم أجد لها جوابًا.

عدتُ إلى الخيمة وناديت سالم ليساعدني على خلع ملابسي وتنظيف الجروح التي أحدثها السوط على ظهري، وارتعب مما رأى من آثار، استلقيت على بطني لعلي أتمكن من النوم، وغفلت عن وصية سالم بأن يبلع لسانه، وقبل أن تغفو عيني اقتحم حيان الخيمة وسألني عما حدث، فأخبرته بكل شيء وحذرته من معرفة يعقوب بأنه ملازم فار من الجيش، ولم أستطع إخباره بأني من وشى به، وتأثرت حقًا عندما أقسم حيان بأن يعقوب سيدفع ثمن ما فعله بي، وأقسمت سرًا أن أتوقف عن كرهه إن ابتعد عن نعناعة.

تركني ونمت ولم أستيقظ إلا بعد غروب الشمس، وعلمت أن جودت قد أرسل في طلبي أكثر من مرة، فذهبت ووبخني على إهمالي، وكنت أهز كتفي بسبب لسعات السوط التي مازالت تحرق جلدي فسألني:

- ماذا بك؟

فأخبرته بأني ظهري ارتطم بالأرض لزلة قدمي، وعلى الفور وقف وكشف عن ظهري، ودمدم قائلا:

- ماذا فعل بك طبرق ابن الحرام؟

أخبرته بأن الشيخ طبرق بريء مما حدث معي، وأن يعقوب اعتقد أني جاسوس وهو من فعلها، استشاط جودت غضبا وأخذ يشتم، ثم خرج وتركني وعاد مع يعقوب وأشار بيده إلي وقال له:

- هل هذا جاسوس؟!

فرد عليه:

- حركاته، تلصصه على الجميع تثير الشبهات.

رد عليه جودت ساخرا:

- وهل أخبرتك عفاريت شيخك بهذا أم اكتشفته بدهائك العسكري؟

وسبحان الله! تلاشى الغضب فجأة وتبادلا الابتسامات في هدوء العشَّاق، ثم أمرني جودت بالذهاب...محقان هما؛ ومن سيأبه لخادم حقير! عدت لخيمتي وشعرت بألم فظيع لم أشعر به من قبل، يبدو أن الخوف قد ساعدني سابقًا على التغلب عليه، وانقضى الأحد ولم نخرج لدفن الذهب، ليس تضامنا لما حدث معي ولكن لاختفاء القمر.

شاع خبر ما حدث معي بين أفراد عشيرة المخيم، ووجدت الكثير من التعاطف، وجاءني أبو إيليا يحمل مرهمًا وساعدني على دهن آثار السوط على ظهري، وكأنه دهان سحري؛ فما هي إلا دقائق معدودة حتى ذهب الألم عني، شكرته كثيرا وأخبرته أني مدين له بالكثير، فقال:

- لا تشكرني، واشكر من أعدَّ لك هذا العلاج، فأنا لم أفعل شيئًا سوى أني جلبته لك.

بالغتُ في إلحاحي كي يخبرني بمَنْ أدين له بالفضل، ولكنه أبى بِناءً على طلب مَنْ أرسله، وهنا تساءلت:

- مَنْ يجيد إعداد مثل هذا العلاج في مخيمنا؟ ولماذا حرص ألا أعرف حتى لا أشكره ولولاه لالتهبت جروحي؟!

<<<<<<<<<<<<نهاية الحلقة 45>>>>>>>>



٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page