انفض عني الجميع بعدما أفسدوا صباحي، وعزمتُ على تنفيذ عمل بطولي خططتُ له منذ أكثر من أسبوع، استدعيتُ سالمًا واتفقنا على سرقة خروف لأذبحه في عيد الأضحى، واختبأ سالم خلف الشجرة ليراقب خيمة الكعب وإعطائي إشارة عند خروجه، وأنا تسللتُ إلى الدواب وسرقتُ خروفًا، وانطلقنا معًا لإخفائه في خيمة سالم، وأثناء تسللنا بين الخيام لمحني جودت أفندي عند خروجه لقضاء حاجته وقبض علينا بالجرم المشهود، وقال:
- ماذا تفعل يا عزيز؟
أحرجني السؤال والصدق فيه نجاتي، وخسارتي للخروف معًا فأجبته:
- أُخفي الخروف عن الشيخ طبرق.
- ولماذا تخفيه عنه يا عزيز؟
- حتى لا يأكله يا سيدي، فكل الخراف التي يأتي بها السيد كاظم يأكلها الشيخ ولا يطعم أحدًا، وأنت لا تأكل لحم الإبل لهذا أردتُ أن أخبِّئه وأذبحه من أجلك.
ضحك جودت وقال:
- اخفِه جيدا واحرص ألا يجوع طبرق حتى لا يأكلك.
ذهب وتركنا وصار الخروف ملكًا له ولن أتمكن من ذبحه وشوائه، وعرضت على سالم أن نخفي خروفًا آخر ولكنه رفض خشية أن يكتشف الشيخ فعلته.
مرَّ اليوم واجتمع جودت ويعقوب لعدة ساعات وبالرغم من الخدمة الممتازة التي قدمتها إلا أني لم أحظَ بابتسامة حتى لو كانت مصطنعة من هذا الخنزير يعقوب.
قبل غروب الخميس أرسل جودت في طلبي، ذهبتُ إليه وكان برفقة أبي إيليا يفصل له الحديث عن الخطوات التي يجب اتباعها في رسم الخرائط، وبعدما صرفه قال لي: إنه سيتخلف عن مرافقة الكعب معنا هذا اليوم لأنه في انتظار ضيف، وطلب مني أن أعتني بالأمهق الكبير وألا أتركه وحده عند نقش الرموز حتى لا يتكرر ما حدث مع ابنه...لم يكمل جملته ولم أتظاهر أو أتغابى وبعفوية جحظت عيناي وانفتح فمي ونطق لساني:
- وماذا أفعل سيدي إن قرر الشيخ طبرق إرساله إلى الجنة؟
قال في غضب:
- حينها سأرسله إلى جهنم.
كتمتُ ضحكي وأسررتُ سخريتي من أجل هذا الناعم الذي أرهقه السير خلف الكعب لمسافات طويلة، ويبدو أنه استمع لنصائح يعقوب واختبأ في الخيمة خوفًا من تعريض نفسه للخطر، كيف سيجرؤ على مواجهة سفاح الـ"قاقا باقا" ذابح الحمير والبشر، هذا ما اعتقدته قبل اكتشاف مكره حينما طلب مني ملء ثلاث جرار صغيرة ذهبا، وبعدما انتهيت طلب مني تركها مكانها وهو يعي جيدًا أني لن أتمكن من حملها بمفردي، وأمرني بإحضار ثلاث جرار أخرى وملؤها ترابا، وانتهيتُ من ملء الجرار كما طلبَ منِّي، ثم تسللتُ لألقي نظرة سريعة على يومياته المشفرة التي كتب فيها:
- (قال أحدهم يومًا لا تثق بأصدقاء الطفولة أبدًا؛ لأن الطفل صديق جيد تلعب معه نهارًا، وتنسجا قصصًا حول ما يخفيه عالم الليل من وحوش، والأيام تدفعكما لاكتشاف الظلام، وحينها تبدأ الأسرار، وها أنا أتساءل أي أسرار يخفيها صديق طفولتي يعقوب! هل حوّله الظلام إلى أحد تلك الوحوش التي نسجها خيالنا وأسكنتْ الرعب في قلوبنا صغارًا؟! أم أن الجيش صاحب هذا التغير؟! وأتساءل لو تركت كتابي والتحقت بالجيش هل كنت سأكون مثله؟! أم أن لُعبة الحرب والموت نتعلمها في طفولتنا؟ هل يصنع جيشنا وحوشًا لا تعرف إلا لغة الموت وسفك الدماء؟! هل يعي أحدهم أن هذه الوحوش عندما تتذوق طعم الدماء يجنُ جنونُها، ويصعب السيطرة عليها.
لدينا من الجهل ما يكفي ويفيض وسنورث أحفادنا منه الكثير ولدينا قادة حرصوا على أن يطوروا الجهل لنتمكن من زراعته ليحصده من يأتي بعدنا، ولكن هل هناك في هذا العالم دماء تكفي لتروي زروعنا من الجهل؟ مَنْ صنع منك وحشًا يا صديق طفولتي؟).
لم أجد فيما كتبه جودت أفندي شيئًا يستحق الاهتمام، وبعد عودته طلب مني إحضار الماء، ولاحظت أنه استبدل مكان جرار الذهب جرار التراب، ابتسم وأشار بيده إلى الجرار المملوءة بالتراب وقال:
- انظر إلى الجرار الثلاثة وأخبرني ماذا ترى.
- جرار يا سيدي.
- وماذا فيها يا عزيز؟
- فيها ذهب يا سيدي.
عاد وكرر سؤله عدة مرات وأجيبه "ذهب ذهب"، هذا الحمار الأحمق يمارس معي لُعبة الإيحاء فشعرتُ بالاستياء كثيرا لأنه بالغ في استغبائي، إنَّ نجاح خطتي السانتورية خيرُ دليل على دهائي، ولكن يبدو أننا في أعماقنا لا نحب أن نبدو بُلهاء ولو كان هذا هدفنا.
لا يروق لي هذا التغير في نظرته لي، فعندما دفنا الذهب في خيمته طلب مني ألا أخبر أحدًا بالأمر، واليوم يجد أني على درجة من البلاهة تمنعه أن يأتمنني على حفظ سر، ووجد أن الإيحاء هو أضمن وسيلة مع أبله مثلي، لا بأس يا باشوات اسخروا كما تشاؤون! لن يضرني إن كنت سانتورًا وبفضل الذهب الذي سأستولي عليه سأعيش ملكًا أبد الدهر.
صرفني لأعود لاحقا مع طبيلة لتحميل الجرار مع وقت الرحيل، وتساءلت هل سيدرك هذا العبقري أن وزن جرة واحدة مملوءة بالذهب يعادل خمسة جرار مملوءة بالتراب! وأن أي أحمق سيكتشف ذلك، حينما خرجت ذهب إلى خيمة يعقوب وسرني ذلك كثيرا ولحقت به، وكنتُ وقحًا في اقتحامي الخيمة وسألته إن كان بحاجة لأعد له شيئا، امتعض يعقوب لقلة حيائي وأشار إليَّ أن أقترب منه وابتسم جودت وقال:
- اهرب يا عزيز بسرعة ولا تقتحم خيمة أحدهم دون إذن.
هربت بسرعة، لم يكن اقتحامي لخيمة يعقوب عفويًا، وإنما لتأكيد بلاهتي، وأيضا للتأكد من وجود يعقوب، حتى أتمكن من نسج أكذوبة للكعب إن اكتشف أن الجرار ملآنة بالتراب، سأدّعي أنها فكرة يعقوب، والمسخ الملعون قد يسألني عما كان يرتديه من ملابس أو أية تفاصيل صغيرة تكون سببًا لكشف خداعي.
انطلقنا مع الغروب لدفن التراب في التراب، وربع القمر كان يجاهد في إنارة طريقنا، مررنا بأراضٍ منبسطة، واقتربنا من صخورٍ ملساء، سلكنا ممرًا ضيقًا بين الصخور أفضى بنا إلى مرتفع يمكِّننا من رؤية النهر لو أن القمر كان بدرًا، كان الكعب سعيدا لعدم مرافقة جودت، وكان بودي أن أمسح السعادة عن وجهه بحذائي وأخبره بأن ما يحمله لا يتعدى جرارًا مملوءة بالتراب، ولكني صبرت لأختبر فطنته.
اقتربنا من صخرة عملاقة، كانت يتيمة، وكأن الأرض أنبتتها ولم تنبت غيرها، أو أنها تركت أقرانها وسقطت من مكان ما، طاف حولها الكعب، وأمرنا أن نبدأ الحفر، وعلى الفور أصدرت أوامري لسالم وأحمد شيخة ليحفرا وأشرت إلى صخرة قريبة ليتوجه إليها أبو إيليا وينقش الرموز، ولكنه تجاهلني وبحث عن غيرها، وامتعض الكعب لإصداري الأوامر بدلاً منه وقال:
- (انقلع واحفر معهم).
هذا البغيض لن يحترمني يوما، حفرنا ودفنا الجرة الأولى ولم يلحظ أحد شيئا، واختصر الكعب طقوسه ولم يبذل جهدًا، وهنا تساءلت هل اكتشف سر التراب أم أنه لم يجد مدعاةً لإرهاق نفسه بالهراء في غياب الكبار؟ وانتقلنا إلى مكان آخر ودفنا ولا أعتقد أحدهم لاحظ أنه يواري التراب بالتراب، أمَّا الكعب فلم يبدر عنه شيئًا يدل على أنه اكتشف خدعة جودت وأنا التزمت الصمت.
هذا المشعوذ الهرائي عكف على دفن الجرار طوال الوقت ولم يفحصها، ربما سأجد فرصة وأقنعه بأن الذهب تحول ترابًا كي أبول عليه وعلى الـ"قاقا باقا"، وتساءلت سرا: ألا يجدر بهذا الغارق في كذبه أن يكتشف أن جودت سخر منه وأرسله لدفن التراب؟!
لم يستطع أحدنا -خلاف طبيلة- حمل جرة ذهب وحده، وعندما حمل أحمد شيخة الجرة الثالثة وحده شككتُ أن المسخ سيكتشف الأمر، لستُ أدري كيف لم يلحظ ذلك! وهذا الأمر ليس بحاجة لهراء الجان.
أبو إيليا اقترب من شيخة ومد يده ليساعده، ولم يخف عليَّ أنه فعل ذلك ليتفحص الجرة، فالحفر والدفن ليس من اختصاصه، أنجزنا مهمتنا مبكرًا وعدنا الى الطريق، وطلب الكعب من الأغربة أن يرافقوا البقية إلى حدود المخيم واصطحبني معه في جولة سيرا على الأقدام ولم يفعلها من قبل، تجاوزنا تلالاً وجبالاً وعبرنا قرى عربية، وأشرقت الشمس ولم ينبس بحرف واحد، وفي طريق العودة انفكت عقدة لسانه وأخذ يسألني عن الأخبار، ووجدتها فرصة لأختلق الكثير من الأكاذيب، أحرضه من خلالها على يعقوب ولم أبح له بسر التراب.
وعندما توسطتْ الشمس كبد السماء وصلنا المخيم ولم أفهم السر وراء هذه الجولة أكان يتفحص الطرق، أم مواقع للدفن، أم أمر آخر أجهله؟
في الظهيرة وقبل دخول الخيمة لأنال قسطا من الراحة توافد الجميع لاستقبالي والاطمئنان على عودتي سالما، وكان النعاس أقوى من الاستمتاع بهذا النفاق فاختصرت عليهم الطريق وأخبرتهم بنفاد السجائر، وبعد استيقاظي سأذهب إلى جودت أفندي وأعود لهم بها، هؤلاء الأوباش نهبوا خيم المؤن فب غيبتي هذا الصباح، ولو تركت السجائر في متناول أيديهم لاستولوا عليها، وما بذل أحدهم بعدها جهدا لإلقاء التحية، ثلاث ساعات كانت نصيبي من النوم، وخرجت بعدها لأبذل العطايا للمنافقين، وسالم كان أول الوافدين تسبقه ابتسامته البلهاء وقال لي:
- شفت الولد عزيز.
في بادئ الأمر اعتقدت أنه يقصد أحمد شيخة ولم يخطر ببالي أنه قصد ولد نيروز الباكي الذي لم تترك أحدا إلا وأخبرته عنه، وحينما سألته عن بقية الشعب قال:
- (راحوا يشوفوا الولد مع نيروز).
امتعضت كثيرا لهذه الوقاحة، فمواقع الصخور محظورة ولا يجوز الاقتراب منها، وحينما أخبرني بأن جمال الدين وحيان ورباب ضمن مرافقي نيروز هرولت مسرعا تجاههم، وهو من خلفي وما هي إلا دقائق حتى أدركتهم، هؤلاء الأوباش تجاوزوا حدود الحذر واقتربوا من الصخور غير آبهين بالعواقب، ولا بالموت المسلح القابع في الاتجاه الآخر، انسل حيان بين الصخور وعاد بعد فشله في الوصول إلى مصدر الصوت، وفشل الأمر مع جمال الدين كذلك، وحين تفحصا أكد الاثنان شقوق الصخر جزما بوجود شق بين الصخور ينتهي إلى بئر حيث ينبعث صوت الولد، ولبلوغه يتوجب أن يزحف شخص ضئيل الحجم بين صخرتين حتى وصول البئر.
وثلاثة تنطبق عليهم الأوصاف التي تسمح أحجامهم بالدخول؛ أنا وشيخة وسالم، كان لابد من الاختفاء سريعًا قبل توريطي في هذ الأمر، تطوع سالم قبل استدارتي، هذا الأبله الذي طالما ردد (ثلثين المراجل الشرود) قرر أن يكون بطلا وبناء عليه قررت البقاء واستعراض شجاعتي.
أسرع شيخة وأحضر حبلاً وطوَّق به وسط سالم، وضحكنا جميعا فلم يكن هناك حاجة لذلك، بدأ سالم الزحف ومن أعلى الصخور تمدد جمال الدين ليرشده إلى فتحة البئر، وسالم يردد بأعلى صوته :
- ( وينها وينها اه شفتها).
مد له جمال الحبل من الأعلى وربط فيه مصباحًا، وعندما سمع سالم صوت الولد يبكي دبّ الرعب في قلبه وخرج يصرخ ويهذي:
- ( والله هذا صوت ولد جني، أنا بطلت انزل).
ومع انسحابه وتنازله عن لعب دور البطل الشجاع وجدت نفسي محاطا بنظرات الجميع التي أخبرتني "أنت قصير، رفيع، ضئيل ونكرة، هيا ازحف بين الصخر ومُت ولن نبكي عليك أيها التركي اللعين!"
الكل يترقب أن أعلن تطوعي وما كنت لأفعلها لولا أن اقتربت مني نيروز ولامست ذراعي ورمتني بنظرة ناعسة وقالت في دلال:
- عزيز...عزيز ساعد الولد يا عزيز.
قلتُ سرًا:
- يا عيون عزيز، يا روح عزيز، وماذا سأربح حينما ألقي بنفسي إلى التهلكة؟ هل ستحزني وترمي نفسك بأحضان حيان لتبكي علي قليلا! وإن خرجت سالما ستقولين لي: غلبتك معي عزيز؟! سانتور أدمى رأسه متظاهرا بالبلاهة لينصِّبوه ملكًا وما كان ليفعلها لو طلبوا منه أن يزحف بين الصخور حيث تنتظره الأفاعي.
صمت وتظاهرت بأن ساقي تؤلمني، ولعنة الله على رباب المصرية اندفعت إلى الشق ولم تستأذن أحدًا، والحقير حيَّان أمسك ذراعها وجذبها للخلف وكأنه قال بتلك الحركة: ألم يبقَ رجالا لتفعلها النساء! لقد كان مُحقًا؛ لم يبقَ رجالا بحجم النساء غير عزيز أفندي، وجدت نفسي في موقف لا أُحسد عليه فتوكلت على الله وانطلقت إلى التهلكة.
ولجت بين الصخور وأرشدني جمال الدين من الأعلى ومدَّ لي الحبل، وأشار إلى الفتحة التي سأنزلق عبرَها، وحين وصلتُها مددتُ رأسي فنظرتُ داخل بئر عميق من صنع الطبيعة، لم أسمع بكاءً ولا أنينًا، وتساءلتْ إن كان حفيف الهواء يمر بين الشقوق ليصلنا نحيبًا، فلا يُعقل أن أفكر في خرافاتِ الجان، ربطت وسطي بالحبل وعلقت المصباح في رقبتي وبدأت أنزلق إلى عنق البئر، لم يكن بذلك العمق الذي اعتقدته في بادئ الأمر، وحين وطأتْ قدماي الأرض كنت أرى موضع قدمي فقط، أمَّا باقي زوايا الشق الصخري فكانت مظلمة، ناديتُ على جمال لأستأنس بصوته، وأنا على يقين بأنه لن يتمكن من المرور بين الصخور ليساعدني إن احتجت لذلك، فقال:
- لا تخف أنا موجود.
أشعلتُ المصباح وسمعت الأنين الذي سمعتُه أولَ مرة، وأرخيت أذني لأتأكد من أني لستُ واهمًا فسمعتُ صوت حشرجة وحين دققت النظر رأيت طيفًا أسودًا مغطىً بطبقة من الطين فصرخت بأعلى صوتي ليسحبني جمال قبل أن يفترسني الوحش، ساقي ترتجف باحثةً عن الحواف لأتسلقها، وزلت قدماي وسقطتْ، والحبل المشدود تركني مُعلقًا في الهواء، ولم يستطع جمال أن ينتشلني إلى الأعلى، ولستُ قادرًا على الوصول إلى الأسفل، وتحولتُ إلى جدي جاهز للسلخ وفي انتظار هجوم الوحش ليمزقني، ولعنتُ نيروز ونفسي ألف مرة.
واجتاحني الخوف الذي قد يصنع المعجزات أحيانًا، وصرختُ على جمال ليرخي الحبل حتى أتمكن من إعادة ربطه بما يسمح لي بالتسلق، وعادتْ قدماي لترتعشان على أرض البئر لأجد نفسي في مواجهة الوحش فانزويت والتقطتُ الأحجار التي وقعتْ عليها يداي، وألقيتُها ناحيته في هياج فشرع في البكاء، وهدأتْ نفسي، ودققتُ النظر فوجدتُ أن طوله لا يزيد عن المتر والعشرين سنتيمترا، ولا يبدو أن وزنه أكثر من عشرين كيلو جرامًا، حجمه الضئيل شدَّ من عزيمتي لشعوري بأني قادر على حمله وبطحه إن استدعتْ الضرورة.
أطوف بنور المِصباح في زوايا البئر حتى رأيتُه قد تكوَّر في زاويةِ الشَّق الصَّخري الذي صنعه الماء عبر آلاف السنين، وقد غطته الدماء وبعث بكاؤه بداخلي الطمأنينة، وكان لابد من الحَذَر والتأكد من عدم وجود آخر قد يباغتني على حين غرة، أطوف بناظري داخل البئر فوجدتُ العديد من قرب الماء وكسرات الخبز، وأكياس من التمر والتين المجفف، وعدة أرغفة من الخبز، وفضلات بشر منتشرة في كل مكان.
زال خوفي واقتربت من ولد صغير ربما لم يتجاوز السابعة من عمره، ينبئ طول شعره وأظافره والقذارة التي غطته بأنه يسكن هذا الشق منذ عام أو أكثر، وأن أحدًا ما قد أخفاه لسبب ما، وأنه كان حريصًا على أن يوفر له الطعام، وينبئ الخبز الطري بأنه زاره منذ ثلاثة إلى أربعة أيام أو أكثر، وربما رطوبة الشق حافظت على بقاء الخبز طريا، حاولتُ الاقتراب منه، ولكنه زاد تكورًا وبكاءً خوفًا مني؛ يلحُّ عليه النَّزفُ من رأسه إثْر ما رميته به من الأحجار...شعرتُ بتأنيب الضمير، وبذلت كل جهدي لحمله وإخراجه من البئر، وما كان هناك داعٍ لأربط نفسي بحبل فحواف الصخور تسمح لي بتسلقها في سهولة، وربما الرعب أعماني عن التركيز قليلا.
وحملت الولد وخرجت إليهم بطلا منقذا، سالم وأحمد شيخة ابتعدا معتقدين أني أحمل عفريتا صغيرا، أما رباب فأسرعتْ إليه وعملتْ على إيقاف النزيف، وأنا اختلقتُ لهم قصة ثعبان ضخم اضطررت لمحاربته لإنقاذ الصغير، وأن الجرح الذي أصابه كان بسبب ارتطام رأسه بحافة الشق.
أعلم ألا أحد منهم صدق روايتي باستثناء نيروز التي تصدق كل شيء، ولكن لن يقدر أحد على إثبات خلاف ذلك إلا إن تكلم الحقير الصغير وأخبرهم بأني ضربته بالحجر على رأسه، وأنه يسكن هذا المكان منذ زمن ولم ير فيه ثعبانًا قط.
انتهت الحفلة وأخذت رباب ونيروز الولد للاعتناء به، وجمال الدين استغل الفوضى ليتسلق الصخور ويتأكد من المسافة التي تفصل القوات الخاصة عن الصخور، وأنا عدت لأغتسل وأتخلص ممَّا علق بي من روائح كريهة، وأتباهى بشجاعتي في خوض الأهوال لإنقاذ الولد المسكين، ودعوت الله أن يُخرسه إلى الأبد حتى لا يفضحني.
غَرَبت شمس الجمعة وأطل القمر هلالاً، ومازال ولد المغارة يشغل بال أهل المخيم، ولم يتبق أحد إلا وذهب لمشاهدته، ليتأكد أنه بشرا وليس جنِّيًا، انتظرت حتى يرسل جودتْ في طلبي لتحميل جرار الذهب ولكنه لم يفعل، خرجتْ قافلة فاطمة ومعها يعقوب، ولسبب أجهله لم يُطلبْ منَّا الاستعداد، انتظرتُ لساعات وتأكدتُ أن هذه الليلة ستخلو من الذهب ولا حاجة لأشغل فكري بالبحث عن الأسباب، هي فرصة للتلصص وجمع الأخبار.
وقبل انطلاقي لمحتُ أبا إيليا يتسلل بطريقة تثير الشبهات، فضحكت وقلت:
- حتى أنت يا أمهق!
كان يتسلل مثل القطط فتساءلت هل يخطط لسرقة شيء؟ وهل سيبلغ من الحماقة ليتسلل إلى خيمة جودت وهو بداخلها؟! وجدتُ في مراقبته أمرًا مسليًا وسيشغل وقتي أكثر من صحبة حيان وسالم، لم أبرح مكاني حتى ذهب تجاه الدواب واختفى عن الأنظار، وعلى الفور ذهبت إلى خيمة الفتى إيليا لأتأكد من وجوده، فلن يهرب أبوه ويتركه خلفه، لقد صنع حمَّالة بطريقة عبقرية تسمح بربط ابنه على ظهر فرس أو بغل، وهذا ينبئ عن نيته في الهرب من أجل ولده، ولابد أنه قد تسلل ليختار الدابة المناسبة، لن يهمني إن هرب أبو إيليا، ولكن لو شفي إيليا وعاد له النطق فهو يعرف مكان دفن كلِّ جرار الذهب وربما سيدمر أحلامي، وما كنت لأسمح بذلك بعد كل ما قدمته من تضحيات، لذا لابد من منع هذا الهروب مهما كلفني الأمر.
خرجتُ من الخيمة واختبأت في انتظار عودته وبعد دخوله الخيمة انتظرت حتى انتهى من نقل ابنه فوق الحمالة، واقتحمت الخيمة، فتظاهر بانشغاله، وكنتُ صريحًا في حديثي معه:
- اجلس عمي أبو إيليا ولا تتهور، الهروب من هذا المخيم أمر مُحال وستتسبب بمقتلك ومقتل ابنك.
في البداية تظاهر بأنه لم يفهم ما قصدته، ولكنه انهار وأخذ يبكي وقال:
- إنه يموت أمام ناظري وأعجز عن مساعدته.
فقلتُ كي أطمئنه:
- لن يموت، لقد تعرض لصدمة خوف وسيشفى منها يوما.
لم يكن صعبًا أن أزرع في قلبه الخوف، ولا أن أنسج له القصص عن آلاف الجنود والغربان الذين يحرسون المخيم على مدار الساعة، ولم يطمئن قلبي إلا بعد أن سمح لي بأخذ الحمَّالة التي صنعها لأبعدها وأحطمها حتى لا تثير الشبهات حوله، وسيحتاج لأيام لصنع واحدة أخرى إن عزم الهرب، وعزمتُ أن أراقبه جيدًا منذ هذه اللحظة.
أشرقتْ شمس السبت وخرجت لعلي أبدأ هذا الصباح بوجه حبيبتي، توجهت إلى خيمتها، ولم أجد أي أثر لها ولا للكعب وعلى الفور أسرعتُ إلى خيمة حيان لأطمئن أنها لا تنام في أحضانه، فأنا لا أثق في زير النساء هذا وحينما اكتشفت أنها بصحبة رباب والولد الغامض ارتاح قلبي، ووددتُ الذهاب إلى خيمة رباب للاطمئنان على الولد ولكني خفت أن يتذكر وجهي ويصرخ قائلاً:
- هذا الذي حطَّم رأسي بالحجارة.
كما أن خيمتها قرب فاطمة وقد حذرتنا جميعا من تجاوز الخط الوهمي الفاصل، وبالرغم من أن الجميع تجاوزه إلا أني أحب الالتزام بالقوانين، وبخاصة في ساعات النهار.
أشغلت نفسي في القيام بواجباتي اليومية المعتادة وطقوس الصباح مع سالم وأحمد شيخة، وكالعادة جاء جمال الدين بلا دعوة، وجديد هذا اليوم أن أحمد الكبير الشايب قد وافق أن يلبي الدعوة وينضم إلينا، وكنت كلما أدعوه كان يرد علي قائلاً:
- ( والله فالك مو زين يا خال).
في أول مرة سمعتها لم أفهم معناها، ثم أدركتُ بعد ذلك أنه قصد أن مجالستي لن تجلب له سوى الشؤم، وفور جلوسه مازحه جمال الدين البارع في لهجة أهل البلاد قائلاً:
- ( النار كلت ثوبك يا ابو اسماعيل).
- فرد عليه أحمد.
- (ثوبك بالي ما يشبع نار يا جمال).
- فقال جمال:
- (ثوبي ثوب شيوخ يا لخوو).
فرد أحمد أبو إسماعيل:
- (الخرَيّ خرَيّ مَكسِي ولّا عرَيّ يا ابن عمي).
لم أعِ دلالة الكلمات الأخيرة، ومن ملامح وجه جمال علمت أنها ستتسبب في شجار بينهما ولا حاجة لأجلب (فال مو زين) فقاطعتهما حتى لا يصير حديثهما شجارًا، وأطل من بعيد "فال مو زين"؛ يعقوب يقوم بجولة بين الخيام ولم يفعلها من قبل، نادى عليَّ وطلب أن أرافقه وأخذ يسألني عن كل خيمة يمر أمامها وعمَّنْ يسكنها، ولم يرق له حين اكتشف أن لكل فرد خيمته الخاصة، وودتُ أن أخبره بأن هذا الأمر لم يرق لي كذلك، وكان لابد من جمع العرب في خيمة واحدة، فلا يجوز أن يتشبهوا بنا نحن الأتراك، ولكن عدد الخيام كبير ومعظمها فارغ، ولا منطق في حشرهم في خيمة واحدة، أو تركهم ينامون في العراء، نتجول من زاوية إلى أخرى، لم يدخل خيمة وعاد إلى خيم المؤن ودخلها، وأخذ يتفحص كل الزوايا ويهز رأسه، لا أدري عمَّا يبحث أو ماذا توقع أن يكتشف، نظراته لم تحمل خيرًا، وحقًا (فاله مو زين).
شعرتُ أن هذه الزيارة لا هدف لها سواي، لا أعرف ماذا وصل مسامعه عني، كنت أسير بجواره وأستعرض ذاكرتي، تُرى ماذا وصل إلى مسامعه؟ أين أخطأت؟ سلامة، رشيد وعبد القادر لا وجود لهم ليفضحوا أمري، وجمال الدين يأمل أن أساعده في سرقة الذهب، وكشفي لن يعود عليه بالنفع، لم يتبق إلا أن يكون أحد خدم فاطمة قد رآني أبصق في طعامه وأخبره، ولو كان الأمر كذلك، فهل سيقوم بهذه الجولة بحثًا عن بصاق؟! من المؤكد أنه كان سيصلبني بعد سماعه الخبر، ومثل كل مرة أنا بارع جدا في إرعاب نفسي وإن لم يكن هناك سبب فخيالي يخلق الأسباب.
انتهت الجولة وقبل رحيله ربت على كتفي وابتسم، وكأنه يسعى ليطمئنني، وطلب مني إعداد قهوته، إنها مجرد جولة عابرة، وابتسامته دلت على ذلك، ولكن عقلي اللعين وجد في ابتسامته أمرا مريبا.
أعددت قهوته وأخذتها إلى خيمته، قدمتها له باحترام شديد، ثم طلب مني الجلوس، جلست ودعوت الله أن يكون -هو الآخر- بحاجة إلى مهرج، ولابد أن صديقه جودت قد حدثه كم أنا مسلٍ! أشعل سيجارة وارتشف القهوة ولم ينطق بكلمة لدقائق وأنا كنتُ منكس الرأس حتى لا تتلاقى أعيننا، ولكني كنتُ ألاحظ أصابع يده اليسرى تحمل السيجارة وتتراقص في توتر فأقلقني هذا كثيرا، وعندما أراد أن يكسر الصمت قال:
- عزيز أتريد واحدة؟
رفعت رأسي وقبل ردي ألقى عليّ بسيجارة فالتقطتها وتعمدت أن أضعها في جيبي، وفاجأني بسرعة سؤاله:
- أين يعمل والدك الآن؟
فأجبته:
- يعمل في بيت طلعت باشا.
- ولماذا لم تعمل معه؟
وهنا حاولت أن أستغبي قليلا فقلت:
لأني عالم آثار يا سيدي، وعملي يختلف عنه.
لم يبتسم بل سأل على عجل:
- أين تعلمت استخدام السلاح؟
سرعة سؤاله وغرابته فاجأتني ولم أجد له الجواب الغبي المناسب، فأجبته بصدق:
- لم أمسك سلاحا قط يا سيدي.
- كم عمرك؟
- 23 عاما سيدي.
- ولماذا لم تخدم بالجيش؟
- لم يقبلوني سيدي.
- لو كنت مجبرًا على قتل أحد الاتراك فمَنْ تختار لتقتل؟
- لن أقتل أحدا.
- أنت مجبر، من ستقتل؟
- سأقتل مَنْ يحب العرب.
وهنا ابتسم وأعاد الطمأنينة إلى نفسي، فسألني:
- ولماذا؟
فأجبته:
- لأن العرب قتلوا شقيقي.
فقال:
- اذهب يا عزيز.
وقفت وقبل خروجي تعمد أن يرفع صوته ونطق بكلمة لم أتبينها، فالتفت وسألته:
- هل تريد شيئا سيدي.
فقال:
- اذهب يا عزيز.
خرجت وابتعدت ولم أجد تفسيرًا لهذه الجلسة الغريبة، ماذا أراد أن يختبر؟ ولماذا؟ وكيف؟ وما علاقة أسئلته بكل هذا؟! كان بإمكانه أن يسألني أسئلة أخرى حول الذهب، ولكن ما علاقة والدي الطباخ؟ وما علاقة السلاح وقتل الأتراك؟ ما دخلي بكل هذا؟! اللعنة عليه، أيعقل أنه أحمق لهذه الدرجة؟ أو أنه لا يجيد الحديث، لا مقارنة بينه وبين جودت المثقف الذكي، حتى أسلوبه في حواره كان همجيا، نعم من يؤمن بخرافات طبرق لابد أن يكون غبيا، ساعات من التوتر قضيتها في محاولة تحليل ما حدث وغربت شمس السبت.
<<<<<<<<<<نهاية الحلقة 44>>>>>>>>>>>>>
Comentarios