top of page
  • صورة الكاتب

جرة ذهب - الحلقة الثالثة والأربعون

ودَّعتُّ الثلاثاء 13 تشرين الاول فَرِحا؛ فقد انتهى بغير نوائب، وحدثني حيَّان فيما أردت، وغرقتُ في أحلام الغجرية، وصحوتُ من نومي لأستقبل الأربعاء والشروق الساحر، وما زلتُ عاجزًا عن وصف هذه الرُّقعة من العالم، لها شمس خاصة، تدفئ أرواحنا قبل أجسادنا، ليتني أستطيع تسلق الجبال المحيطة لأراقب الشمس تستيقظ صباحا وتغرق روحي بخيوطها الذهبية! لو كنت قادرًا على شراء هذه الشمس لبذلتُ ثمنَها الكثير من الذهب الذي سأحصل عليه لاحقًا، وحبستها في قصري صباحا، حتى لا يستمتع بها غيري، وعند الظهيرة كنت لأطلق سراحها لتحرق الجميع، كم أعشقها وأعشق معها نعناعة! أعددت إفطارها وذهبت إلى خيمتها لإيقاظها آملاً ألا يكون الكعب قد عاد من رحلاته الليلية الغامضة في صيد القلوب والأكباد والله وحده يعلم إن كانت لبشر أم لحيوانات.

كان نائمًا على غير عادته ولم تكن في أحضانه، وأخذتُ أبحث عنها في أطراف المخيَّم، هذه البلهاء بحاجة لأن يتم تقييدها حتى لا تقترب من حدود المخيم المحظورة، رأيتها قادمة من بين الصخور، أشرتُ لها بيدي فجاءت، وأخذتها لتناول الإفطار، كانت على غير عادتها شاردة الذهن مشغولة البال، لم تتناول شيئًا، فسألتها عمَّا يشغلها فأجابت:

- الولد يا عزيز الولد.

وفور سماعي ما قالتْ نظرتُ إلى بطنها باشمئزاز، ولم يخطرْ ببالي إلا أن طبرق اللعين قد زرع في رحمها ولدا، وخيالي أخذني إلى أبعد من ذلك ورأيت طبروقا صغيرا يرتدي عباءة ويسير خلفها...سألتها عن قصدها، فقالت:

- سمعت طفلاً يبكي بين الصخور.

تنفستُ الصعداء واختفى المسخ الصغير من خيالي، ليست حُبلى ولكنها تحلم فقلت لها:

- خيرًا؛ بكاء الطفل في المنام إشارة لخبر سار.

فقالت:

- لا ليس حلمًا، لقد سمعته بالأمس واليوم بالقرب من الصخور.

أشفق عليها لغرقها في أوهام الخرافات الطبرقية والعفاريت الذين اختلقهم طبرق للسيطرة عليها، وليس غريبًا أن تسمع طفلاً يبكي وتشاهد أمه ترقص، هذا اللعين قد أغرق حياتها بكل أصناف الجن من الأحمر إلى الأرجواني! والحكمة السانتورية تقتضي أن أنتشي من الخرافات لا أنفيها، فقلت لها:

- ربما هو أحد أبناء الأمير طبرق.

وقالت:

- لا... الأمير ليس لديه أولاد من الجان، ولم يتزوج من بنات جنسه.

قلت لها لأخفف عنها:

ربما ابن أخته، أخوه، عمه، عفريت صغير من قبيلته يلعب مع أبناء عمومته، لا تفكري كثيرا في هذا الأمر يا نيروز.

وسرًا قلت: ليس من الغريب أن يختبئ الكعب خلف الصخور ويبكي كالأطفال ليقنعها بالمزيد من هرائه، لم يكتف بادعائه أنه أمير وسيم ابن ملك.

قالت:

- تعال معي لتسمع بنفسك الولد يبكي.

وما كنت لأتردد في مرافقتها والاختلاء بها ولن أمانع أن أبكي أيضا لعلها تضع رأسي على صدرها لتخفف عني وتواسيني، أسير خلفها نحو الصخور البعيدة وولدي يبكي من الفرحة، ولكن الخوف اعتراني وبخاصة أننا بدأنا الاقتراب من الإشارات التي حذرنا الدليل من تجاوزها، وحاولت أن أقنعها بالعودة وأنه من الواجب أن نخبر الشيخ طبرق بابتعادنا.

ردت:

- لا تهتم سأخبره أننا ذهبنا لنتأكد من الولد الباكي.

سألتها:

- وهل يعلم الشيخ شيئًا عن قصة الولد؟

ردَّت:

- نعم لقد أخبرتُه وقال إنه من أولاد الجان وسيغادر المنطقة، وحذَّرني من تجاوز الصخور تفاديًا لأشرار الجان.

فقلت:

- نعم نعم هناك الكثير من الجان الأشرار.

كيف أقنع هذه البلهاء التي لا تعي أن خلف الصخور يكمن العشرات من رجال يعقوب المسلحين، وسيطلقون النار على مَنْ يتجاوز حدودَ المخيم دون تصريح؟

اقتربنا من الصخور ولم تفصلنا عنها إلا ثلاثة امتار وهي المسافة التي أخبرنا الدليل أنها منطقة الخطر وتجاوزها يدخلنا منطقه الموت، دق قلبي بعنف عندما ركضتْ تجاه فتحة ضيقة بين صخرتين غير مبالية بإشارات التحذير، حذرني الخوف من الاقتراب، والشهوة قادتني لأندفع وأدفع جسدي بين الصخرتين لألتصق بها، أرخت أذنيها وأرخيت يدي لتلامس ظهرها كلما سنحت الفرصة، قربت أذنها من كل شق باحثة عن مصدر الصوت، وتركت جسدي يقترب، لم أسمع بكاءً ولكن الولد الذي يسكن بداخلي صرخ من الفرحة، وفجأة انتفضتْ واتسعتْ حدقتا عينيها، فابتعدت عنها، ولكنها أمسكت يدي وقالت:

- هل سمعت؟ هل سمعت؟

شددت على كفها بقوة وكأني أعتصر وأمتص ما فيه من حرارة وقلت:

- نعم سمعت...سمعت.

لم أسمع إلا دقات قلبها وقلبي وعادت تحشو جسدها بين الصخور، وما كنت لأترك جسدها يفلت، حشرت جسدي ورأسي معها، وفقدت السيطرة واجتاحتني نوبة من الإثارة، ووصلت إلى لحظات اللاسيطرة، تلف عنقها جاهدة بسبب ضيق الفسحة بين الصخرتين وتضييقي الخناق عليها، نظرت إلي وكانت شفتاها قريبتين من وجهي وأنفاسها تلفح بشرتي وقالت منفعلة:

- أسمعت؟ أسمعت؟

عيناي مغمضتان وألهث ممَّا حل بي فأجبتُها بكسل:

- سمعت...سمعت.

حاولت أن تسحب جسدها، ولكنها لم تستطع وتوجب عليّ أن أفسح لها ولكني أبيت وقلت:

- أريد أن أسمع أكثر ابقي لنتأكد.

ولكنها رفضتْ وقالت:

- تعال نتسلق الصخور وننظر داخل الفتحات ربما يكون الولد هناك.

وما كان أمامي إلا أن أطلق سراحها، ولكني لست أحمقًا لأجاريها من أجل موتي، وما أدراني أن بين الصخور لا ينتظرني زنجي لعين سينحر عنقي، ولا أرغب أن أبدو أمامها جبانا، فبذلت جهدي لأثنيها عن هذا الجنون وما قد يصيبنا من عفاريت الجن، وأمام عنادها اتفقنا أن نلقي نظرة سريعة فوق الصف الأول من الصخور ولا نبتعد.

اعتلينا عدة صخور وبدأنا البحث بين الشقوق عن الولد الباكي، وكنت حريصا على ألا أرفع رأسي حتى لا يراه أحد الغربان ويطلق عليه رصاصة، حبست أنفاسي وهُيئ لي أني أسمع صوتا يشبه بكاء طفل ينبعث من بين شقوق الصخور، ويلي إن كان الكعب يختبئ بين الصخور ويقلد البكاء، وليس من المستبعد أن أحد زنوج يعقوب يفعلها، فزعت من كل الأفكار التي غزتني، فسحبتها من يدها وقلت لها:

- هيا لنهرب لقد رأيت جنيا شريرا يحمل سيفا، ولا بد أنه قادم ليقتلنا.

نجحت في إخافة نفسي وإخافتها، وهربنا لننجوا بحياتنا، وولجنا وسط المخيم سالمين.

اقتربنا من سالم وقد أشعل نارا وبدأ إعداد الإفطار، هذا المسكين لم ييأس من كل محاولاته الفاشلة لصنع خبزٍ صالح للأكل، تصبب عرقا وارتسمت على شفتيه ابتسامة بلهاء، ولم ينتبه لطبيلة الذي تربع خلفه يلتهم بشراهة كل ما يخبزه.

هذا العملاق الذي لا يستيقظ إلا بعدما أرشه بالماء، استيقظ اليوم وحده، ولم أوبخه لصفاء مزاجي هذا الصباح، فتعمَّدتُ إشغاله بمهمة تصرف تفكيره قليلا عن الطعام؛ كلفته بجمع أوراق الشجر التي تساقطت، وأعددتُ إفطار جودت وقهوته، وأخرجت طعاما يكفي بقية الحيوانات البشرية، ولم أنسَ البصق في الطعام الذي حملته للكعب، وأخذ يحشو فمه بالطعام ويتكلم في آن واحد:

- اذهب يا عزيز وتلصص على ما يدور من حديث بين يعقوب وجودت

فأخبرته بأن الوقت مبكر ويعقوب مازال نائما، فقال:

- لا لا لقد استيقظ وذهب إلى خيمة جودت قبل قليل، هيا أسرع.

هذا المسخ يراقب ولا يفوته شيء، أحنيت رأسي وأوهمته بأني سأنفذ ما أمرني به، نعم أحب التلصص، ولكني لست أحمقا لأقترب من خيمة الباشوات دون سبب مقنع حتى لا أُثير حولي الكثير من الشبهات، ولا داعي للتنصت مادام بإمكاني اختلاق القصص وروايتها لتشبع فضوله وتخدم أهدافي، ولم يمر وقت حتى أتتني الأسباب؛ طلب مني جودت إعداد إفطار يعقوب، لم أتأخر وأعددته على عجل وبصقتُ فيه، وقدمته وغادرت الخيمة، واحتللت زاوية بالقرب منها، وأرخيت أذني لعلي ألتقط شيئًا ممَّا يدور بينهما من حديث.

انصب حديثهم في الدقائق الأولى حول الإفطار والشاي وطعام أم أحمد ونوادرها، استغرقني وقت حتى أدركت أن المقصودة هي أم يعقوب، وأن له أخ يكبره اسمه أحمد، ومنها انتقلا بالحديث إلى شكيب ووصلا للشيخ طبرق مرورًا بـ كاظم، استهزأ جودت بـ طبرق ولم يترك وصفا قبيحا إلا وصفه به، وكان يعقوب شرسًا في دفاعه عن الشيخ وقدراته الخارقة وسرعان ما فاضت الخيمة بالتوتر، وممَّا لفت انتباهي من الحديث الذي دار بينهم، يعقوب:

- أنا أثق بالباشا ومادام يثق بالشيخ طبرق فهو أهلٌ للثقة، ويجب أن تتوقف عن مهاجمته والسخرية منه، أفسح له المجال لينجز عمله.

يرد عليه جودت:

- سأنفذ المهمة كما طلب مني، وكوني تركت له اختيار أماكن الدفن فهذا لا يعني أني أثق به وبجنونه!

- أنا لا أرى أن هناك داعيا لمرافقة الشيخ يوميا وتعريض نفسك للمخاطر، بإمكانك تكليف الأمهق برسم الخرائط وقد أثبت براعته في ذلك.

- لن أترك كل هذا الذهب بين أيدي مشعوذ معتوه.

- لقد تركت الذهب دون حراسة بين أيدي العرب لأسابيع لتحرص على ألا يسرق الشيخ القليل ممَّا يُدفن، أي منطق في هذا؟!

- لا تخف أنا حريص على كل شيء، ولاختصار الحديث لن أقوم بدفن الذهب في مكان واحد بناء على رغبة المشعوذ.

- أنت أخي وصديقي ولا أريد أن تتعرض لأذى، شرق النهر ليس كغربه والمخاطر كثيرة، دعه يقوم بمهمته، واترك الأمهق يرسم الخرائط بدلا منك، لا داعي لمرافقتهم.

استمر الحديث وبالرغم من أني مازلت أسمع صوت يعقوب إلا أن يده أمسكت بكتفي وسحبني إلى داخل الخيمة وطرحني أرضًا، ووضع حذاءه على صدري وقال:

- لماذا تتنصت علينا؟

المفاجأة والصدمة أعادت إليّ التأتأة:

- اناااااا يبببب شوو ددداا انااااا...

تدخل جودت وقال:

- دعك منه.

إلا أن الحقير أصر أن أجيبه وبذلت جهدي لعلي أتمكن من جمع بضعه أحرف دون تأتأة وقلت:

- جودت باشا طلب مني أن أتصنم على باب الخيمة كلما كان عنده ضيف حتى أخدمه.

وهنا وقف جودت ودفع يعقوب بلطف وأمسك يدي وقال:

- عُد إلى عملك يا عزيز.

ورمى يعقوب بنظرات غاضبة، أما أنا فهرولت سريعا لابتعد عن الحقير الذي لا أعرف كيف لاحظ وجودي، انتظرت لأكثر من ساعة قبل أن اذهب لأبحث عن الكعب وأختلق له الأكاذيب، وأحرضه على يعقوب، ولكن الأرض قد انشقت وابتلعته كالعادة.

وقبل الغروب استدعاني جودت ولم يعاتبني أو يسأل عمَّا حدث وسرني أنه على قناعة بأني فقط أنفذ أوامره، وكما اعتدنا أعددنا الجرار المنوي دفنها ونظَّفتُ الخيمةَ ومسحت الغبار، ولم يمر الكثير من الوقت حتى انطلقنا مع غروب الأربعاء 14 أكتوبر، ورافقنا شيخة وسالم ونعمة وأبو إيليا، أما طبيلة فحيث أكون يتبعني وقد اعتاد الجميع وجوده.

انطلقنا تاركين يعقوب خلفنا في انتظار فاطمة وقافلتها ليدفنوا ما يحملوه من كنوز، عبرنا حدود المخيم وكان في انتظارنا اثنان من الغربان المسلحين، سارا خلفنا بهدوء، وتركا مسافة فاصلة تزيد عن الخمسمائة متر بيننا، وبعدما مرت ساعة واحدة على سيرنا نحو التلال نشب خلاف بين الكعب وجودت حول المكان الذي يتوجب التوجه إليه لدفن الذهب، ولاحظت أن الكعب يتعمد السير لمسافات طويلة جدا ويختار طرقًا وعرة لإرهاق جودت وإثارة جنونه، وكأنه يتعمد ذلك كنوع من الانتقام، وجودت كان يجاريه إلى أبعد حد ولا يظهر أية معارضة، ربما أراد أن يخبره أنه صلب وليس ناعما.

في طريقنا شدني الكعب وسحبني إلى الخلف فجأة، وأدركت أنه أنقذ حياتي من سقوط قاتل داخل بئر، وصلنا إلى تلة صخرية وكانت قريبة من العرب، وأخذ الكعب يدور ويدور للبحث عن المكان المناسب لدفن الذهب حتى رسي اختياره على بئر ماء روماني، ومن مراقبتي لخطواته تأكدت أنه قد زار الموقع مُسبقًا، ربما خلال ساعات النهار التي يختفي فيها بطريقة غامضة.

طلب منا أن نحضر حبلا، وأمر نعمة بنزول البئر والحفر فيه، وهنا أثبت جودت تمتعه بدقة الملاحظة في سؤاله الكعب:

- وما أدراك أن البئر فارغة من الماء وأنت لم تلق نظرة لتتأكد؟

ارتبك الكعب وردَّ عليه في زهو:

- لا يخفى عليَّ شيء.

وردد عبارته المعتادة:

- (انت شوف شغلك وأنا بشوف شغلي).

ولكن جودتْ هذه المرة أخذ يُلَوِّحُ برأسِه يمنةً ويسرةً، ثم قال:

- لن ندفن الذهب في هذا البئر، نحن على أبواب الشتاء وقد يمتلئ البئر ماء، اختر مكانا آخر.

ما حدث أثار استغرابي حقًا، لم يُدفن الذهب في قاع بئر قبل ذلك، أتكهن بأن الكعب تعمَّد إثارة خلاف مع جودت في هذه الأيام وبخاصة أن الجميع يعلم بقدوم الباشا، والاحتمال الآخر هو إرادته أن ينحر نعمة ويمارس طقوسه بالقرب من البئر، والأهم من هذا كله أن اعتراض جودت يرجح أن الذهب الذي سيتم دفنه لن يبقى لفترة طويلة قبل استخراجه.

ابتسامة صفراء رافقتْ بحث الكعب عن مكان آخر وقُمْنا بدفن الذهب وانتظرنا حتى أنهى أبو إيليا نقشَ الرموز بعيدًا عن الموقع وانطلقنا وفي طريقنا قال لجودت:

عليك باختيار مواقع الدفن مادمتَ لا تريد أن أتمَّ عملي على أكمل وجه.

واختار جودت المواقع وتم دفن الذهب بدون طقوس الـ"قاقا باقا"، وكانت طريق العودة طويلة فعدت أستعرض ذاكرتي قبل أن ينقذني الكعب من السقوط، لو لم أتتلمذ على يد روهان بيك لاعتقدت أنه ساحر حقًا، لقد استطاع رؤية البئر المردوم في طريقنا قبل الوصول إليه، ولكن التفاصيل الصغيرة قادتني إلى الحقيقة؛ الطريق التي مررنا بها لم تكن مثالية وقادنا إليها ببراعة، واستطاع أن يجعل جودت أول مَنْ يعبرها لأنه المستهدف من السقوط، ثلاثة أمتار قبل وصول الكمين تنحى جودت جانبا ليتبول، وكنتُ خلفه مباشرة، ولأن الكعب في حاجة لي هذه الأيام، ولم يكن له مصلحة في سقوطي، لهذا أنقذني اللعين.

بإمكانه قتل جودت في أية لحظة ولكنه يسعى ليكون الأمر طبيعيا ولا يثير حوله الشبهات، وما حدث دفعني لمراقبة الاثنين مستمتعا بالتنافر والكره الذي تبادلاه كلما ابتسمَ أحدهما للآخر، ما يحدث بينهما نتاج مكري ودهائي، كنت سعيدًا بإنجازي العظيم، ولكن راودني إحساس بأن هذا الإنجاز لن يصبَّ حاليًا في مصلحتي؛ ففي غياب جودت لن أطمئن في ظل يعقوب المؤمن بخرافات الكعب والغارق فيها حتى أذنيه؛ ولذا لابد أن أعكف على رسم مخطط لمنع أي تقارب يعقوبي طبرقي، وأن أخفف من التوتر السائد بين جودت وطبرق لعله يعدل عن قتله في المرحلة الحالية فقط.

صباح الخميس كانت الشمس باردة على غير عادتها، وظهرت في السماء عدة سحب، واجتمعت العصافير لتعزف ألحان حب، وهبت نسمات الهواء المنعشة حاملةً معها رائحة الأشجار، ولا ينقص هذا الصباح إلا حضور نعناعة لنذهب معا للاستمتاع ببكاء الولد بين الصخور، ولعلي هذه المرة أتمكن من إقناعها بولوج شق صخري أضيق من سابقه.

ولكن أطلت مَنْ ستفسد صباحي الجميل، إنها المصرية اللعينة وبرفقتها عبيد فاطمة، جاءت لتقتحم خيم المؤن دون استئذان مثل كل مرة، هذه اللعينة لا تقيم لي وزنا، ولم يكن أمامي سوى الدخول خلفها والمراقبة في صمت، لم تترك شيئا إلا وملأت به السلال، ولم تتوقف عن رميي بنظرات الاحتقار فأتمتم بالشتائم حتى انزلقت إحداها من بين أسناني لتصل إلى مسامعها فانتفضتْ وصرختْ بمصريتها:

- (انت بتقول ايه؟ سمَّعني إن كنت راجل).

أجبتها:

- لا شيء، خذي ما شئتِ وارحلي في سلام.

وقلت سرًا بلا تمتمة: لعنة الله عليك وعلى أهل مصر والعرب جميعا.

انصرفتْ وتركتني أختنق بغيظي وتمنيت لو أني أقنع الكعب ليأكل قلبها ويشرب دمها.

أسمع صرير سلسلة ولا حاجة لألتفت لأعلم أن ابن العربية حيان قادم نحوي، طلب مني أن أجلب له عدة علب سجائر، تبرمت وقلت له:

- أنت لا تدخن وكل يوم تأخذ السجائر وتعطيها للعرب، والكمية قليلة، ولا أريد أن أتعرض للمساءلة عن المؤن، وتصرفاتك هذه ستعرضنا للخطر.

قال غاضبًا:

- كراهيتك للعرب وسوء معاملتك لهم، وانتقاص حصتهم من المؤن هو ما سيعرضنا للخطر، لا تنسَ أن مصيرك مصيرهم ولستَ أفضل حالا منهم.

أجبته:

- أنا لا أتعامل معهم هكذا لأنهم عرب، فأنا أعتني بطبيلة وهو عربي، وإن كنت أخصم من حصص طعامهم فهذا لتوفير ما يسد رمق هذا العملاق حتى لا يجوع.

لم يعجبه ما قلت، ورد علي قائلا:

- لقد وعدتُ روهان بيك أن أعتني بك ولكن أسلوبك هذا يصيبني بالغثيان، هات السجائر ودعني أنصرف قبل أن أفجر جم غضبي فوق رأسك.

جلبتُ السجائر وسخرتُ منه سرًا: هذا الأحمق المقيد بسلسلة في ساقه مثل بغل يعتقد أنه قادر على الاعتناء بي!

لقد بدأ اليوم يزداد سوءا بعد أن نحسته المصرية، كانت نعناعة تسير تجاهي ببطء وحينما لمحت حيان انطلقت نحونا مثل غزال، هذه اللعينة لا تفوت فرصة للالتقاء به وتبادل الابتسامات الحارقة لقلبي وروحي، عيناها لا تخفي الإعجاب الشديد بهذا الحيوان المُسلسل، وعندما رآها لم يعد بعجلةٍ منْ أمره، جلس يتبادل معها الحديث، تبًا لها! أنا مَنْ يعتني بها ويطعمها ويسمنها مثل بقرة، ثم تلقي بنفسها في أحضانه! لا أدري ما الذي يثيرها تجاهه! لم تتوقف عن الغنج والتدلل أمامه وقالت لي:

- هل أخبرت حيان عن الولد الذي يبكي بين الصخور يا عزيز؟

اختصرتُ قولي حتى لا يطول الحديث:

- لا سأخبره لاحقا.

ولكنه سأل:

- عن أي ولد تتحدثان؟

انتابتها الرقة والليونة في حكوها، ولم يبق إلا أن تجلس على ركبتيه، فتمنيت لو يظهر الكعب اللعين ويغمد خنجره في قلبيهما معًا...أصغى حيان لكل كلمة نطقتها، وكأن بصره أصبح عاشقًا لحركة شفتيها، وكيف سيكتمل هذا الصباح المنحوس بدون جمال الدين! أطل يهز ذنبه ويشمشم ككلب أثر ليتبع كُلَّ رائحةٍ تقوده لنيروز، وانضم إلينا، يبدو أن الجميع سيشاركنا في الولد اللعين الذي رغبتُ أن نحتفظ به سرًا لأرافقها إليه ونستمتع ببكائه سويًا.

تحقَّقَتْ أمنيتي وأطل شريكي قرد الـ"قاقا باقا" من بعيد، وما إن لمحته نيروز حتى تركتنا جميعا مسرعة ملهوفة للقائه، وجمال الدين لم يرفع عينيه عن مؤخرتها حتى توارت عن الأنظار وأخذ يحك رأسه متمتمًا في عنف:

- (شو! شو القصة؟! كيف هاي صارت؟!)

سألته ساخرا:

- ماذا بك يا جمال الدين؟

واستمر بحك رأسه وفرك وجهه ويتمتم:

- (مشْ فاهم والله العظيم اشي بطير العقل! ما الذي يعجبها بهذا القرد؟)

بالرغم من وسامة جمال إلا أنه لم ينجح في التقرب من نيروز، ويكاد يصيبه الجنون في محاولة كشف السر وراء تعلقها الشديد بالكعب القبيح، فقلتُ له ساخرًا:

- (عفاريت يا حبيبي عفاريت).

وعلَّق على ما قلت:

- (اه والله هذا سحر يلعن ابوه شو ساحر).

رغبت في تلك اللحظة أن أخلع بنطالي وأتبول على جمال الدين، اجتاحتني رغبة جامحة لم أكن لأجرؤ على فعلها ولكن كنت على استعداد أن أساومه على نصف سجائر المؤن كي يسمح لي بالتبول على رأسه ووجهه، هذا ما خطر ببالي وما كان جمال ليرحل دون أن يسلبني الكثير من السجائر، وما كنت لأجرؤ على معاداته فجلبت له علبةَ سجائر وحرصتُ على أن أبصق عليها قبل أن أعطيها له.

انفض عني الجميع بعدما أفسدوا صباحي، وعزمتُ على تنفيذ عمل بطولي خططتُ له منذ أكثر من أسبوع.....

<<<<<<<<<<<<نهاية الحلقة 43>>>>>>>>>>>



٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page