- ما هذا الخاتم التي ترتديه في إصبعك؟
فأجبتها:
- إنه إنه خا خا خاتم خاتم.
فقالت:
- أليس هذا خاتم بيبرس؟
تنفست الصعداء ورفعت قلبي بعدما هوى إلى أسفل أقدامي وعادت إلى الشجاعة، وحُلَّتْ عُقدة لساني بعدما اطمأنت نفسي بأن ردة فعلها لا علاقة لها بلمس نهديها، وقلت:
- نعم هو خاتم بيبرس وقد أعطاني إياه عربونا على صداقتنا المتينة.
فقالت:
- لا لا بيبرس كان يفضل أن يقطع إصبعه قبل خلعه منه وله مكانة عظيمة في قلبه.
فقلت سرًا: "لقد أكل عشيقُك قلبه، والآن يستمتع الدود بما تبقى من جسده ولن يتبقَ منه إصبعٌ أيتها البلهاء"، وأجبتها:
- بيبرس أخي وصديقي وأحب الناس إلى قلبي وقد أعطاني الخاتم لأحرسه له حتى يعود إلينا سالمًا معافى.
فأخذت تبكي، وتكرر:
- اشتقتُ إليه، أين هو؟ متى سيعود؟
أسررتُ قولي:
- "أكله الدود يا حبيبتي ولن يعود أبدًا".
وأخبرتها بأن الشيخ طبرق تركه بيد أفضل الأطباء ليعالجوه فقالت في سذاجة:
- ومتى سنزوره؟
أسررتُ قولي ثالثةً:
- سيكون ظلمًا أن يسبقني الدود إلى نهديك يا حبيبتي.
وتسرعت في قولي:
- سلامتك يا نيروز.
أمطرتني بعشرات الأسئلة ولعنت سرًا الخنوص بيبرس الذي خرج إليَّ من قبره ليفسد يومي ، وغربت الشمس ولم يحدث خلال هذا اليوم ما يسر بالي باستثناء الثواني التي لامست فيها نهدي نعناعتي، وتساءلت كيف ستكون خاتمة يوم أفسد صباحه جمال الدين وسخرية العرب وشبح بيبرس ويعقوب الذي استعبدني، والأسوأ من ذلك كله أن الليل سينتصف بعد ساعات وسيبدأ يوم الثلاثاء.
وها نحن نستعد مجددًا لرحلةِ الحفرِ والدَّفن، أعددنا جرار الذهب والبغال، وتوجب على الجميع التأهب في انتظار قدوم فاطمة وانطلقنا مع حضورها، وبعدما خرجنا من حدود المخيم اتجه كل فريق في ناحية؛ اتجهتْ فاطمة وبغالها شمالاً، ورافقها يعقوب، وأنا وجودت والكعب ومَنْ برفقتنا اتجهنا جنوبًا، ولم أجد سببًا لخروجنا من المخيم معًا ما دمنا سنفترق لاحقًا، كان القمر مشطورًا بين النور والظلمة، ولم أستطع منع نفسي من التشاؤم من خاتمة هذا اليوم.
مررنا بمنطقة أثرية وطبيلة الذي اعتاد أن يسير خلفي سبقني فجأة، وما هي إلا أمتار حتى سقط في حفرة يزيد عمقها عن عشرة أمتار، وضخامة جثته منعته من الانزلاق داخلها، ولو لم يسبقني لسقطتُ فيها، وحينما أسرعت لأمسك بيده سبقني أحمد الشَّايب وأمسك بيده فاختل توازن طبيلة وسقط بسبب ذلك الشايب فوق حجارة أعمدة أثرية وأصيب بالكثير من الكدمات، ولولا ستر الله لانتهت حياته في ذلك اليوم المشئوم.
حفرنا ودفنا الجرة الأولى، وواصلنا طريقنا ودفنا الثانية واقترح الكعب أن ندفن الثالثة في جحر يشبه ذلك الذي دفنا فيه خلدون الأعوج، ولم يعارض جودت وهنا دق الخوف بابي؛ فقد انتصف الليل، وبدأ يوم الثلاثاء فارتعب قلبي، وتساءلت: مَنْ سيختار الكعب لهذا اليوم؟ ودعوت الله ألا يكون سالما، ومن بين الجميع أمرني بدخول الجحر لأحفر، ثم يدفع لي الجرة لأدفنها، حاولت أن أطمئن نفسي مبررًا أن حجم طبيلة يمنعه من دخول الجحر، والشايب تعرض لكدمات، وسالم أبله، ولم يبقَ إلا أنا، ولم يكن أمامي إلا الطاعة، زحفت داخل الجحر مرعوبا، وتساءلت: بعد أن يحز الكعب عنقي مَنْ سيمسك بالوعاء ليملأه بدمي؟ وهل سيغضب جودت لذبحي؟ وسيحذِّره ألا يفعلها مجددًا أم سيبول في بنطاله فقط؟
المسافة التي زحفتها لم تتجاوز المتر، وكان شبح خلدون في كل زاوية من الجحر، وبدأت الأفاعي والعقارب تزحف حينما تأقلمتْ عيناي مع بصيصٍ من ضوءِ نصف القمر الذي تسرَّب إلى الداخل، اختفى شبح الأعوج إلاَّ أن الخوف من الزَّواحفِ ما زال باقيًا، حفرتْ مكانَ الجرة ودفعها الكعب إليَّ ودفنتها ولم يتبقَ إلا القليل من التراب لأنهي عمَلي وهنا التقتْ عيناي بمفاجأةِ الثلاثاء وأصابتني قشعريرةٌ لا مثيل.
المستحيل ذاته في احتمالية حدوث مثل هذا الشيء؛ مَنْ يصدق أن نقوم باختيار مكانًا في البراري لغاية دفن ذهب وعند الحفر نجد ذهبًا في انتظارنا! قبل انتهائي من طمر الجرَّة ارتطمت يدي بطرف الحفرة فانهال القليل من التراب وظهر صندوق حديدي صغير يزيد عن حجم كَفَّ اليد بقليل، ويشبه صناديق الحلي، وحينما فتحته وجدتُ فيه أساور وسلاسل وعصمليات ذهبية، لم أتفحصها فكلُّ ما شغل بالي هو أنْ أُخفيها في جيوبي قبل أن ينتبه إليَّ أحد، والفرح الذي غمرني بهذا الكنز المفاجئ أنساني خوفي من الكعب، دفنتُ الصندوق الصغير بعدما أفرغْتُ محتوياته في جيوبي، وخرجتُ ولم يكن خنجر الكعب في انتظاري، أغلقنا الجُحر وأخفينا آثاره، وواصلنا طريقنا وقلبي كان يرقُصُ طربًا كُلَّما لامستُ الكنز.
زاد على كَونِه يوم ثلاثاء أنه كان يحمل الرقم المشؤوم 13 تشرين الاول، ومع هذا أنقذني طبيلة وسقط في الحفرة بدلاً مني، وسبقني الشايب وتعثر بدلاً مني أيضًا، ثم يختارني الكعب للحفر والعثور على الكنز، كان أروع ثلاثاء في حياتي، علمتُ فيه أن حظِّي بدأ يأخذ منحنى آخر، كنتُ متلهفًا إلى خلوتي بكنزي لأتفحصته جيدًا وكان عبارة عن ثلاثةِ أساور من الذهب، وسلسلتين إحداهما ذهبية والأخرى فضية، وخاتمين وخمس عصمليات، وهذه كانت أكبر كمية من الذهب أمتلكها في حياتي.
كم شعرت بالسعادة وأنا أحاول أن أخمن وزن كل إسوارة لأقدر ثمنها! وانجرفتُ بعواطفي ولم أتوقف عن الحراك، أرقص تارةً، أقف ثم أجلس، أستلقي، أقبِّل كنزي، أحضنه، أغطيه باللحاف، أعود وأكشف عنه، وحينما مللت من تحسس الكنز وبدأتُ أصحو من ثمالة الثراء التي أصابتني، وجمَّدتْ تفكيري مثلما يحدث معي في كل مرة إن تعرضت لحادث سار أو حزين، ثم عاد إليَّ رشدي ومعه منطقي، فقررتُ التخلص من العَصمليات الخمس حتى لا تؤدي إلى هلاكي، فأي منطق سيقنع جودت بأني لم أسرقها من الصناديق! أما الحلي فلا حاجة لإخفائها، وليس من حق أحد أن يسألني من أين جئت بها، هي لأمي، لأختي، لروهان، لا يهم لمن، ما دمتُ لم أسرقْهَا من أحد.
كان مؤلما التخلص من العصمليات الخمس، فدفنتها داخل خيمتي، ورسمتُ خارطةً لأعود إليها لاحقًا، وبعدما زال الخطر عدتُ لأتساءل عن السِّر والدافع وراء إخفاء هذا الصندوق من الحلي في ذلك الجحر، مثل هذه الحلي لا بد أن يكون ملكًا لزوجة أو ابنة شيخ أحد قبائل شرقي الأردن، ومن المرجح أن يكون اللص الذي سرقها من داخل عائلتهم، وأخفاها بعيدا حتى يطمئن قلبه ويعود إليها..."يعوووووود إليها..." هذه الجملة كانت كافيه لتسرق مني فرحتي وتخرجني من غبائي الذي لا أدري لما يصيبني بين الحين والآخر... وهنا بدأ سحر كنزي الصغير يتلاشى، ولم أجد تفسيرا لسذاجة تفكيري وفرحتي لخمس عصمليات وأنا قمت بدفن جرة ملآنة بها، يا لسذاجتي وغبائي، لقد خسرت جرة ذهب كاملة في لحظات فرحة غبية.
كان عليّ أن أجد طريقة لأعدل عن دفن الجرة في هذا المكان، ولكني فضلت خمس عصمليات على جرة ملآنة بها...حتمًا سيعود مَنْ أخفى صندوق الحلي ليخرجه، وأنا بسذاجة سانتور حقيقي تركت له جرة ذهب! هذا اللص المحظوظ سيصبح أثرى لص شرقي النهر، ضحكتُ محاولاً تعزية نفسي على خسارتي الفادحة وأنا أفكر في ثقل السر الذي سيحمله معه هذا اللص إلى قبره، وكيف سيجرؤ أن يخبر أحدًا بهذه القصة الخيالية ومن سيصدقه إن روى أنه دفن القليل من الذهب ليسرقه أحدهم ويترك له جرةَ ذهب، لا أعرف كيف يمكن لعقل بشري أن يفسر ما حدث! لو كنتُ مكانه وتعرضت لمثل هذا الموقف لهربت وتركت جرة الذهب...فما يحدث لا يفسره إلا عقل شيطان.
أكاد اختنق وأموت غيظًا عندما أفكر في هذا اللص المحظوظ، لعنة الله عليَّ وعليه، ليتني أستطيع العودة وإخراج الجرة لأخفيها في مكان آخر! فمن الظلم أن يكافأ اللص على جريمته، عبثا حاولت أن أطمئن نفسي؛ لقد غطى الصندوق الحديدي القليل من الصدأ، وهذا يعني أنه لم يمر على سرقته ودفنه وقت طويل، ومن ثَمَّ سيكون اللص صبورًا ولن يعود إلى كنزه الحقير في الأشهر القادمة وهكذا سأسبقه وأخرج الجرة وأتركه يموت غيظًا.
مرت الليلة والكوابيس تطاردني وأشعر بأن آلاف اللصوص يسبقوني إلى الذهب ولم يبقوا لي شيئا، تبا للصوص الأنذال! لن أعارض يوما قطع أياديهم حتى لا يتجرأ أحدهم على سرقة ذهب أحد، واللعنة على يوم الثلاثاء المُخادع؛ لقد سخر مني بطريقه ملتوية.
صبيحة اليوم سار كل شيء كالمعتاد ولم يتغير شيء، سوى أن الطقس كان باردا مما اضطرني لنقل عرشي والجلوس حيث لا تحجب الخيام ما وصلنا من خيوط الشمس والتف حولي الرعية لاحتساء القهوة وبرعوا في تملقي، ولماذا لم يفعلوا ما دام هذا يوفر لهم السجائر والمرح والسخرية من خادم أبله جعل نفسه سلطانًا، وبالرغم من ذلك أشعر بالسعادة في ممارسة هذه الطقوس بالرغم من سذاجتها، ولم أفكر بأن أتوقف عنها، وكما قال روهان يومًا:
- "في أحلامنا كلنا ملوك وفي واقعنا لسنا إلا خدمًا لجاهل قال إنه ملك ولم نعترض"
وماذا سيضرني إن سخر مني الآخرون ما دُمتُ أستمتع بهذا الحلم! ألسنا جميعا نحلم في يقظتنا بأننا ملوك وقادة وأبطال؟! ولعلي أصْدَق من الجميع حين أحاول أن أجعل من أحلامي واقعًا للحظات!
وكما تعوَّدت كُلَّ يوم لابد أن يأتي أحدُهم ليفسدَ عليَّ طقوسي، تطل المصرية من بعيد متجهةً نحو خيام المؤون، وقبل أن تقترب كان لابد أن أتجنب الحرج أمام رعيتي فقلت لسالم:
- اذهب إلى رباب وأخبرها بأني مشغول ولتأخذ ما تريد من المؤن ولاحقا سأراها.
اقتربتْ وما كانت لتستأذن أحدًا، وربما نجحت في إيهام الجميع بألا يتم شيء دون إذني، وحمدت الله أن غيمتها السوداء انقشعت سريعا ولم تمطرني، وبدأ جوهر الحكواتي يخبرنا أن هذه المصرية لها خيمة خاصة بجوار خيمة فاطمة، وأنها تلازمها ليل نهار، ولا تفارقها إلا عند ذهابها لدفن الكنوز، وفي إحدى مرات الدفن عاد مالت واصطحبها لتلحق بها، وأنه رآها أكثر من مرة تركض بهستيرية تجاه خيمتها فور إشارة مالت المخنث بيده إليها، فقاطعتُه قائلاً:
- يبدو أنها خادمة نشيطة.
فرد جوهر وقال:
- لا رباب ليست خادمة، هناك أمر غامض في علاقتها بالغجرية فاطمة.
فعلق أحمد الكبير بعد أن حك رأسه وابتسم:
- (أحيانا الناقه بتوالف ناقه)
ولم يضحك ويفهم ما قاله إلا جوهر الذي قال:
- (معك حق ما ظل فحول)
أطل جودت من خلف الخيام وأشار إليَّ واستدار عائدا، فنزلتُ عن عرشي الملكي لأعود عبدًا يتبع سيده، وجدته سعيدًا على غير عادته وكان بحاجة ليعيد تنظيم مسكنه ليلائم استقبال ضيف كبير قد يفاجئه في أية لحظة، وبدأنا بنقل الكثير من أغراضه الشخصية إلى الخيمة الأخرى، وبخاصة أحذيته وبدلاته التي اعتاد أن يعلقها على أطراف الخيمة من الداخل، أخرجتُ الأبسطة وحرصتُ على إزالة الأتربة التي التصقت بها جراء دخوله وخروجه المتكرر، ثم بسطتها وبدأت بمطاردة كل ذرة غبار في خيمة هذا المهووس الذي لا يريد أن يفهم أنه يعيش في البراري لا في القصور، تركني وذهب ليمضي القليل من الوقت مع يعقوب حتى أنتهي، ووجدتها فرصة لألقي نظرة على ما كتبه في يومياته المملة:
- (عقارب صفراء سامة اجتمعت في صناديق جعلت منها بيتًا لها، وأوهمتنا جميعًا أنها تجلس في هدوء، والحقيقة أنها لا تتوقف عن الرقص والعزف والغناء، ليصل صوتها العذب إلى أبعد مكان، والأذن التي تصغي تطرب ولا تعي حينها أنها تلقت اللَّدغة الأولى، وكانت وخزة ناعمة لطيفة منعشة لكل الحواس، والعين تندفع لتنال نصيبها، وتكون اللدغة الثانية أشد، وتنطلق العقارب لتلدغ القلب وتنشر سمها ببطء حتى يصل إلى الروح.
لم أبغض شيئا في حياتي كما أبغض عقارب الذهب، وكلما نظرت إلى الصناديق أُصاب بالقشعريرة، وأتساءل عمَّن ستهاجمه هذه العقارب، في كل ليلة تغزوني كوابيس أرى نفسي فيها ممدا بين الصخور وملايين العقارب الصفراء تحيط بي من كل جانب، والغربان تحوم فوقي وكلما اقترب مني عقرب تهبط وتلتقطه وتعود لتحلق مجددا، وفجأة يقترب أحدها ويبدأ بنقر عيني، أصرخ ولا يخرج صوتي، أحاول أن أحرك ذراعي لأبعده عني ولا أقوَ على ذلك، أصحو مفزوعًا وأخشى العودة للنوم مجددا، وها أنا أخشى الذهب والنوم وكلَّ ما يحيط بي.
حتى قلمي الذي كنت أرى فيه الصديق الوفي تآمر عليَّ أيضًا، وكلما أمسكت به لنتحد معًا ونطلق الكلمات من أسرها لم يخط على الورق إلا عدة أحرف تجتمع معًا لتكون " الموت والذهب"، كنت أتساءل دوما عن لون الحب، أم أنه كالماء؟ واليوم لا يشغل بالي إلا سؤال واحد؛ ما لون الوجه الثاني للموت ما دام الوجه الأول ذهبي اللون؟ ربما لو سألت طبرق البغيض لوجدت عنده الجواب عن اللون الذي يراه كلما ذبح أحد هؤلاء المساكين، اليوم حلَّقتُ بخيالي إلى أحد مقاهي باريس، جالستُ أصدقائي، ولم أقرأ عليهم آخر قصائدي، وإنما أخذت أروي لهم حكاية مرافقتي لمشعوذ يقتل البشر ليروي ظمأ جنون عشعش في عقله وعقل نصف الأمة، وكيف كنت أرافقه وأقف صامتا كل يوم عدة مرات حتى ينتهي من طقوسه الوثنية، فيسألني أحد أصدقائي وهو يحتسي قهوته، ألم تشعر بالرغبة في أن تشاركه رقصاته؟ لم أجد ما أجيب به نفسي، وتساءلت ربما أشاركه بلا وعي وربما أنا جزء من طقوسه.
ما دوري؟ وماذا أفعل هنا إن لم أكن كذلك؟! هذه القافلة حطمت روحي وحولتها إلى شظايا، ماذا سأحمل معي إلى الغد؟ أي ذكريات سأجرؤ على روايتها؟ أي قلم سيكون قادرًا على خط كلمات تصطف لتشكل جملة قادرة على تجاوز ذكريات هذه القافلة الملعونة، ولا يكون فيها حرف يشير إلى الموت والذهب؟! وهل المرايا التي ستنظر في عيني غدًا سترى الشخص نفسه؟!
سامحك الله يا باشا ماذا فعلت بي؟! أهذا هو الغد الذي من أجله...! ألا يجوز لي أن أعترض! وحينما تطلب مني غدا أن أعد لك خطابا لتلقيه في مناسبة ما كما اعتدت طوال السنوات الماضية فأي كلمات سأختارها لك لترددها ويصفق لك الجمهور بحماس! ربما من الأفضل أن نقتبس نشيد الـ"قاقا باقا" من شيخك العظيم طبرق، وربما سيقف بنفسه بين الجمهور ليعلمهم رقصة القرود، ولِمَ نعترض إن قرر ذبح أحدهم أو ذبحهم جميعا طالما أنه المستقبل الذي نختبئ خلف عباءته لينقلنا إلى عالم أكثر تمدنا! لا يجب أن نلومه نحن لا نختلف عنه في شيء، هيا يا باشا ربت على كتفي -كعادتك- ودع صوتك الحنون يتردد: "جودت كلماتك من ذهب." وأنا سأمدك بالمزيد من الـ"قاق باق" لتشحذ بها حماس جمهورك العظيم)
أسعدني واستفزني هذا الذكي بما كتبه في يومياته وشعرت بأنه على وشك انفجار عظيم، ولمَّا علمت أننا لن نخرج اليوم للدفن جلستُ أفكر لرسم خطط جديدة إذا دفنوا ما تبقى من ذهب في مكان واحد.
أمضيت بقية النهار في الاستماع إلى ما يُحكى عن الغجرية فاطمة وما تحمله معها من كنوز، وعزمتُ أن أسخِّر كل وقتي بعد الغروب لاستدراج حيان الذي لم يختلف عن الآخرين كثيرا في ثرثرته، ولكنه كان يتحفظ في حديثه عن علاقته الحميمة بفاطمة، ويهرب من أي سؤال يتعلق بوالدته العربية، لم يعرف هذا التركي ابن العربية بأن قريبه رشيد -رحمة الله عليه- قد روى لي ولسلامة قصة والدته وجده العربي، الذي أقسم أمام الجميع أن يقتل والد حيان يوما، لقد تفاخر رشيد وتباهى وثرثر كثيرا، وأنا لم أهتم بإطلاع حيان على ما عرفته عن عائلته، وكلُّ همي كان مُنصبا على إحاطتي بالصورة الكاملة لرحلة قافلة فاطمة، وستبقى القصة مبتورة إذا لم يثرثر حيَّان بعلاقة الحب التي ربطته بهذه الغجرية، سيكون اليوم مثاليًا لأعطيه زجاجةَ العَرَق التي منعتُها عنه في الأيام الماضية لأني كنتُ حريصًا على ألا أهدرها بلا مقابل.
ذهبتُ إلى خيمته وتخلصنا من المزعجين، كنتُ بارعًا حقًا في تقديم العرق بطريقةٍ تشجع على الشربِ وتحقِّقُ الإمتاع، وافتتحتُ أول حديثنا بتأكيد خبرِ زيارة جمال بَاشَا للمُخيم في الأيام القادمة، هزَّ رأسه وقال ساخرًا:
- إذا ستلتقي بمنقذ تركيا وبطل الأمة الإسلامية القادم محرر مسرى الرسول –عليه الصلاة والسلام- من الصليبين الجدد.
هذه الكلمات صكتْ مسامعي عدة مرات أثناء رحلتنا وها هو حيان يكررها أمامي، وتسلل الشك إلى قلبي بأن أكون جاهلا، وسألته بسذاجة:
- هل القدس بحاجة لمن يحررها؟
ارتشف كأس العرق دفعة واحدة كما كان يفعل روهان وضحك وقال:
- إن سارت الأمور كما خططوا لها ففي بداية العام القادم أو منتصفه ستحتل الإنجليز القدس، وقبل نهاية العام سينطلق جمال باشا ليحررها وسيتوج بطلا للأمة الإسلامية، ويجعل منها عاصمة لبلاد الشام، وستحتفل الأمة بنصر الناصر صلاح الدين الثاني، وسيحل السلام، والجزء الأكبر من فلسطين سيبقى تحت حكم الإنجليز، ولن يقلق أحد ما دامت القدس بخير وإن سارت الأمور كما شاءوا ونجح الاستعراض الهزلي لا أستبعد أن تكون لندن مقرًا للخلافة الإسلامية.
كم أمقت السياسة! ولكن ما قاله يحتاج إلى تفكر، لم أسأله عن مصدر معلوماته المفاجئ، فلا أشك في أن فاطمة هي مصدره، ولكني سألت:
- إذا كان هذا ما خطط له وهو يملك كل هذه القوة، فما حاجته لإخفاء كل هذه الكنوز؟ ألم يكن من الأذكى أن يحرسها في مكان واحد؟
قال:
- صدقني هذا السؤال حيرني لفترة من الزمن، وما اكتشفته هو أن الباشا يؤمن بأن المال هو القوة الحقيقية لإنجاح خططه وتحقيق أحلامه، وهذا الرجل لا يثق بأحد ويبدو أنه قد انقلب على شركائه في المؤامرة ومن ثَمَّ خاف أن يغدر به الإنجليز ويستولوا على كل ما نهبه وجمعه هو وشركاؤه.
وتابع قائلا:
- الخائن يا عزيز دومًا يخشى الخيانة لهذا عزم ألا يترك كنوزه في مكان واحد، وفيمَا فعله منطق، إخراج هذه الكنوز سيكون سهلاً عليه في أي وقت يشاء، ويصعب ذلك على الآخرين، ولو جمع ما نهبه في مكان واحد لوجدت الخيانة طريقها إلى نفوس البعض.
بدأت تظهر عليه آثار الثمالة ولم يتوقف عن حديث السياسة، وهذا ليس ما خططت لأهدر عليه زجاجة العرق، وبذلت جهدا لأعيده للحديث عن فاطمة وحين انطلق لسانه وبدأ يطربني بما أريد أن أسمعه توقف فجأة وسألني:
- أخبرني يا عزيز عبد القادر الدرويش الذي كان برفقتنا ماذا حدث له؟ لقد سمعت قصصا أغرب من الخيال عن اختفائه المفاجئ.
ضحكت وسألته عما سمعه فأخبرني أن بعضهم أخبره بأنه تحول إلى شبح واختفى أمام أنظارهم جميعا، ضحكت وقصصتُ عليه حكاية اللص الدرويش الذي اعتاد على التجول بين المدن، والتردد على المعسكرات، تحدث التركية وبرع في خداع الأتراك وسرقتهم، ووصل إلى مسامعه أن هناك بيتًا في البلدة القديمة في نابلس يقوم عشرات الجنود على حراسته ليل نهار، ولا يسكنه أحد، وشكَّ أن بداخله شيء ثمين، فقرر أن يجد طريقة لدخوله، ولكن شاءت الظروف أن يتزامن ذلك مع تحميل كل ما في المنزل على البغال، والتوجه بها إلى مدينه جنين، وما كان منه إلا أن يتبعهم ويراقبهم من بعيد وحينما وصلوا جنين ومنها انطلقوا إلى مرج ابن عامر تسلل عبد القادر إلى المخيم، واكتشف ألا أحد يعرف أحدا، فاندمج بين الجميع، ولم يخفَ عليه أمر كنوزًا، فوجدها فرصة العمر لينهب الأتراك وحرص أن يجعل له مكانًا ضمن القافلة ولم يجد صعوبة في ذلك، وكان بارعًا في إبعاد الأنظار عنه، ويتحين اللحظة المناسبة ليسرق الذهب ويختفي وحينما علم أن القافلة في طريقها لنهر الأردن خاف أن تنقلب الأمور، وكان موت سلامة المفاجئ فرصة لا تعوض ليستغلها ويهرب بما غنمه من ذهب.
كانت قصة عبد القادر أشد تأثيرًا في ثمالة حيَّان من العرق، ولم يتوقف عن الضحك بالرغم من أني لم أخبره الجزء الأخير الأكثر تشويقا، لم أنجرف خلف عواطفي ولم أفش له سر اختباء عبد القادر في قبر سلامة؛ فمثل هذا الأمر يصعب أن يكتمه من يعلمه، ولابد أن يشد الفضول أحدهم للبحث عن القبر يوما، ليستطلع إن كان عبد القادر قد خرج منه أو مات اختناقا، وحينها ربما سيجد الذهب الذي أقسم أن يتركه لسلامة، وربما يكون قد مات بجواره ومعه كل الذهب، وفي كلتا الحالتين سأكون أنا الخاسر الوحيد، والأخطر من هذا أن ينجو حيان ويذهب بنفسه ليسرق ذهبي.
<<<<<<<<نهاية الحلقة 41>>>>>>>>

Comments