top of page
  • صورة الكاتب

جرة ذهب - الحلقة الرابعة

تاريخ التحديث: ٣ مايو ٢٠١٨

.....من الحلقة السابقة
فرس عربية أصيلة، ، أبهرني بياضها الناصع ، لم أجد الوقت لأتساءل من أين جاءت وكيف، ولماذا؟؟؟


تركت المنطق خلفي، أتبعها وهي تدب على الأرض في دلال، لم تبتعد كثيرا، تصهل وتميل بناصيتها، ترسل إليَّ نظراتٍ حانية، ساقتني قدماي إليها، ألامس عنقها الطويل الرقيق.

وفجأة...بدأت تذبل بين يدي؛ لونها يبهت، حيويتها تموت، جمالها يرحل في صمت، خطَفتْ يدي عنها؛ لتعود إليَّ من جديد، اعتقدت أني واهم، أردت إعادة الكرة، تركتني وانزوت بجانب الجدار، تحكُّ به طرف بطنها المستدير، أقترب مرة أخرى، تتركني ثانية، التصقتْ بالجدار، دفعت بنصف جسدها داخله، تغوص داخل الجدار! ترميني بنظرة من عينها المُتحررة، أشعر أنها تقول وداعا، أخاف أن تتركني، أريد البقاء معها؛ لقد سحرتني، عشقت النظر إليها، أمد يدي لأتحسس ما بقي منها، تحجرت يدي قبل ملامستها بعدما تحولت ساحرتي إلى منحوتة حجرية.

ارتعبت قليلا، فركت عينيَّ، أفتِّش داخلي عن منطقي اللعين؛ همس لي:

- عزيز... أنت واهمٌ... واهمٌ يا عزيز... كلُّ هذا كان من نسج خيالك.

لن أصر على صدق ما رأيت، من الحكمة أن أُكذِّب عينيّ، وأتجاهل حواسي، وأطرد شطحات عقلي، هذا ما علمنيه البيك في قولته:

- إن الأوهام تتعاظم إن أفسحت لها المجال، وما لا تستطيع إثباته عبر العقل اطرده من مخيلتك فورا، وإلا ستبدأ القطط بمراقصة الكلاب على إيقاع موسيقى تعزفها الفئران.

إنه لعجبٌ عُجابٌ أن يصير التوهم حقيقة، أن يصور لي عقلي هذه الفرس، أن يتملكني الظن بأنها تنبض بالحياة، أن تدب الروح فيما لا روح له، أن يجاوز الفن حدود اللامعقول، ولكن ليس عجبًا أن ينخدع عقلي أمام هذا الإعجاز الإبداعي، تُرى كم أمضى هذا الفنان على هذه المنحوتة! عام! مئة عام! لا شك أنه قد فارق الحياة، وإلا لكان الآن واقفًا مشدوهًا من بديع صنعه، يتأمله، يغور في أنفاسه، يذوب في أريجه، يرتحل إلى عالم اللاحدود، عندها لابد أن يصهل وتتكلم الفرس ... ليتني كنت جزءًا من هذا المكان! لا يهم ماذا أكون، سأرضى أن أكون قطعة فسيفساء، لوحةً، حجرًا، أيَّ شيء؛ فلا أشك في أن الروح ستدب في هذا المكان يومًا ما.

على الجانب الآخر كان هناك دب أبيض؛ قصدني...أتقهقر...أتحسس خطواتي...يلتصق الدب بالجدار...يفعل مثلما فعلت الفرس...أرتجف...سرت قشعريرة في رقبتي وظهري...أغمضت عينيّ مرددًا:

- عزيز...أنت تهلوس، الرائحة تدفعك للهلوسة، أفق وإلا سرقتك الأوهام.

تنفست الصعداء...أخرجت زفيرًا، طردت خلاله أوهام عقلي ومخاوفي، فتحت عيناي...تمر أمامي حمامة بيضاء، لا تشبه سابقتها، سمعت هديلها، لاحقْتُها، تظهر وتختفي، تجوب المكان، وقفتْ على ظهر الفرس، تميل الفرس برأسها...رمقتني بنظرة غامضة، اقتربت منها قليلا...لم تهرب الحمامة، بل -هي الأخرى- غاصت في الجدار، وبرز نصفها.

صوتي حبيس...أجاهده:

- عزيز...عزيز...أنت تهلوس، كل ما تراه هلوسات من أثر الرائحة العجيبة، لعلها مُزجت بالأفيون، أفق يا عزيز.

بُعثت الفرس من جديد، هرولتْ نحو نهاية الممر، تبعها الطائر مُحلِّقًا! غرزت أظافري في راحتي، خدشتُ جلدي، لقد سال دمي، وأنا أصرخ في صمت:

- سيسخر منك البيك، ستصبح أُضحوكة الجميع.

من خلفي...وصل مسامعي صوت يناديني:

- عزيز...عزيز.

لقد كان حيان يناديني همسًا، وكأنه يخشى أن تجفل الفرس، أو يهاجمني الدب، وددت لو أنني أهلوس بسماع صوته، رغبت أن يعلو صراخي: "ماذا تريد مني؟ دعني وشأني أيها الحقير."

كان بعيدا، على مقربة من مدخل الكهف، يشير بيده:

- تعال يا عزيز.

اقتربت منه، تلحُّ عليَّ رغبتي في البكاء، واتتني جرأةٌ حمقاء، صرخت قائلا:

- ماذا تريد مني! لماذا تعترض طريقي! لماذا تكرهني! ماذا فعلتُ لك يا حيوان؟!

أفرغت غضبي، وصاحب راحتي ندمي؛ فقلت:

- أحضرت لكم الطعام.

ابتسم قائلاً:

هيَّا لنخرج.

سألته عن البيك فأخبرني بأنه خرج باكرا، أدهشني؛ فعاودته:

- وكيف لم أرَه؟!

ابتسم ساخرا:

- هيا يا عزيز، صدِّق روهان؛ سيقتلك فضولك يوما ما.

استفزني هدوؤه...تبعته، تمنيت لو أن هناك بابا خفيًّا أغلقه دونه، وأعود باحثًا عن الفرس، أطلَّيت برأسي من الفتحة، ليستقبلني القمر هذه المرة، أغرقني في حيرة احتساب الوقت، سألت الملازم في سذاجة:

- هل ترى القمر؟

أكَّد رؤيتي قمرًا حقيقيًّا، لستُ واهمًا...أستغرب سرعة الزمن! أستغرب ألغاز الكهف! أستغرب نفسي!

علمت أن البيك وحيان قد مرَّا دوني داخل الكهف، لم أنتبه لوجودهما، لقد طلب البيك من حيان أن يتركني، مادمتُ لا أقترب من نهاية الممر.

دخلت الخيمة، فإذا بـ "البيك" يغط في نوم عميق، أردتُ إلقاء الشطائر... ولكن من الافضل أن أستميل بها الجند؛ قدمتُها لهم، فرحوا كثيرًا، دار بيننا حديث طويل، قاسموني على سماع أصوات عند الكهف؛ لغات غريبة على مسامعهم، جاريتهم قليلا...

اعلم جيدا ان هذا لا يتعدى الوهم؛ يعيش الوهم حيث مواقع الأثر، هلوسات الليل لا نهاية لها، خجلتُ من نفسي ...لم أختلف كثيرًا عن الجند... بما رأيتُ داخل الكهف...

انتشلني عقلي من أوهام الكهف إلى أوهام عظمتي، أبرِّر خدمتي للبيك، ادعيت أنه عمي، وأنه سرٌ لا يجوز البوح به، ...لا يبدو عليهم تصديقي، ولم يمانعوا بمجاراتي، ما دمت قادرًا على إعداد المزيد من الشطائر.

تناغمني نفسي منكسرة:

- أيراك أحدٌ مبجَّلاً في هذا العالم الحقير سوى ذلك الطاهي الطيب الذي اعتاد خدمة الباشاوات!

- لعله أراد إكمال نقصه بك! لعله سمَّاك عزيزًا ليعز بك وضاعته!

- لعله رآك باشا تعزيةً لخدمته الباشاوات!

لم أنس أبدا أول مرة اصطحبني معه إلى حلب كان وقتها طاهي للوالي، رافقته إلى المطبخ، وبعدما أنهى إعداد الطعام، طلب من خادم تقديمه لضيوف الوالي، كان الخادم أشقر الشعر، أزرق العينين، تطوق معصمه إسورةٌ من فضة، منقوشٌ عليها (الله حافظ الله حافظ احمِ أمي وأبي) كانت الكلمات منقوشة باللغة العربية، ولم يكن الخادم عربيا ولا تركيا. خرجنا بعدها إلى سوق حلب القديم، وكان مزدحما بالعرب، ومر بالقرب منا ثلاثة منهم، وارتطم والدي بأحدهم عن غير قصد، وما كان من العربي إلا أن لطم أبي لطمةً تركت أثرًا على خده، ثم حمل عليه الثلاثة بقسوة، فارتعب قلبه خوفًا عليَّ، والتقط يدي، وأفلتنا من أيديهم بشِقِّ الأنفس، وهربنا إلى قائد حرس الوالي، فأرسل معنا عشرة جند للبحث عنهم، فلم يستطع أبي تمييزهم من بين مئات العرب؛ فقد تفرقوا، واختلطوا بالحشد، وهنا أمسكت بيد أبي وأشرت إليهم الواحد تلو الآخر، وعلى إثر ذلك تم اعتقالهم، ولا علم لي ما حدث بعدها معهم.

حينها اكتشف والدي أني أتمتع بذاكرة وذكاء خارق للعادة، وأخذ يطلق عليَّ لقب "عزيز باشا"، واحتاج لسنوات طويلة ليدرك أنه بالغ كثيرا، وأن ابنه لا يزيد عن كونه ولدا بليدا أخرقا، كان عمري وقتها ثلاث سنوات، ومن يصدق أن طفلا بهذا العمر يتذكر ثلاثة وجوهٍ في زحمة مئات الوجوه التي اكتظ بها السوق! وكيف استطاع قراءة كلمات بالعربية ولم يكن من الناطقين بها بعد! وقتها لم أفهم ما نُقش على السوار، ولم أر فيها سوى مجرد رسوم لا معنى لها، ولكن بعد خمسة عشر عامًا، حينما أرسلني البيك لتعلم العربية، استخرجتها من ذاكرتي وأدركت مدلولها، لم أنس ذلك النقش العربي مع انقضاء تلك السنون الطويلة، وذاكرتي هي لعنة حياتي.

انتصف الليل، خلدت إلى النوم، حرصت أن أصحو قبل البيك، صحوت وأعددت القهوة والبسكويت، قارورة ماء، ملابس وجوارب نظيفة، حذاء آخر للبيك، أيقظتْه أشعةُ الشمس، فتح عينيه وابتسم لي، طمأنتني ابتسامته بترك عتابي.

شرب قهوته، استبدل ملابسه، هَمَّ بالانصراف وحده، لم أفهم لِمَ لمْ يصحبني! لسنوات ممتدة...كانت عيناي آلته التصويرية، كانت ذاكرتي مفكرته،... لم يدوِّن ملاحظته، سوى الأرقام الفردية؛ لأن ذاكرتي تعجز عن حفظها. سألته أن يصحبني...تنهَّد قائلاً:

- لم أكن في حاجةٍ لك بقدر احتياجي لك الآن، ولكني أخشى عليك؛ هذا المكان سيصيبك بالجنون، ولا أحب أن أكون السبب، ابتعد ولا تقترب.

كنت لَحوحًا في طلبي، ذكَّرتُه بفوائد ذاكرتي، زمَّ شفتيه وأطرق رأسه قائلاً:

- لهذا أخشى عليك؛ ذاكرتي تشفق عليَّ، تسمح لي بشطب ما أريد، أمَّا ذاكرتك الملعونة، تحتفظ بكل شيء، وليت ما ستراه مجرد أرقام فردية، لتتمكن من نسيانها.

انطلق مسرعًا، ثم التفت قائلاً:

- هذا المكان سيسكن ذاكرتك ويسرق عقلك، إنه يتكلم يا عزيز، لا تقترب منه.

حذَّرته من هلوسة الروائح، فهزَّ رأسه وقطب حاجبيه:

- ابتعد يا عزيز...فقط ابتعد.

اعتاد البيك أن يردد عباراتٍ تفصح عن فراسته: "التمثال يتكلم" "اللوحة تغني" "هذا الدرع أخبرني بعدد السيوف التي تحطمت فوقه".

ذات مرة...أمسك بخنجر؛ مقبضه مرصَّع بالجواهر، نصله من الذهب الخالص، ثم قال:

- هذا الخنجر لم يتذوق طعم الدماء.

فسألته كيف عرف ذلك.

- ابتسم وقال: لقد أخبرني الخنجر بذلك، لقد همس لي قائلاً: "كنتُ ملكًا لرجل ثري، خشي عليَّ من ظِفره، لم يصنع لي غمدًا حتى لا يضيق عليَّ، لم يقبض عليَّ بقسوة قط، حرص على لفِّي في حرير ناعم".

هيَّا يا عزيز، أرخِ أذنيك كما اعتدت أن تفعل خلف بابي، أصغِ ودعه يهمس في أذنيك، ثم أخبرني بما أخبرك.

حملتُ الخنجر وتفحصته جيدًا، أخبرت البيك عن العلامات الدالةِ على تاريخ الخنجر؛ فامتدح ذكائي قائلاً:

- أحسنت الإصغاء والتعلم، لا تنسَ أن كل شيء في الكون يتكلم بطريقته.

هكذا كان البيك يصف الأشياء، ولكن حديثه أرهقني هذه المرة، لقد أوعز إليَّ بصدق ما توهمتُه داخل الكهف، ثم انصرف وتركني أتساءل: هل أصابته لوثة! هل نالت منه تلك الرائحة! أم أن الحيوان حيان قد أثَّر فيه إلى هذا الحد!

علمني البيك أن الخرافات لا تسكن إلا بعقول الجهلة، كان يردد دوما: "ابذر خرافة تحصد جهلا". لقد انحدرتُ من أسرة تخاف الحسد، وتؤمن بخوارق الجن، لكن البيك خلق مني مرآةً لشخصيته، لم يفشل إلا في تحويلي عن حب الباشاوات، على الرغم من بغضه الشديد لهم.

يمر يومي بطيئا، كان عليَّ أن أعثر على شيء للتسرية، ، يستقطب انتباهي جنديان من أصل سوري، قد انزويا بجانب الخيمة يتهامسان، يشير أحدهما برأسه تجاهي...أنسلُّ داخل الخيمة...أرخي آذاني لأسمع أحدهم يقول لصاحبه:

- (واللي خلقك بالمغارة في طنان دهب وراح يحملوهن على إسطنبول.)

الثاني:

- (الله لا يباركلن وبجاه النبي عفاريت تعفرتن.)

رفيقه:

- انتبه، هذا الخدام عزيز ابن حرام هذا (اروسبو اغلو.)

تركتهم وسخفَهم، أفتِّش عن ذي ثقةٍ، يكتم سري، يساعدني، ويأخذ نصيبًا مما سأخرجه من الكهف، أقترب من حَلَقَة جند، يلعبون لُعبة غبية، يسمونها "السيجة"؛ حفروا في التُّرْب عدَّة حفرٍ، صفُّوا داخلها مجموعتين مختلفتين من الحصى، لتمثيل جيشين في معركة، وكانت الغلبة لجنود العرب دومًا، راقبتهم ساعةً بل أكثر، تعلمتُ اللُّعبة، لم يسمحوا لي باللعب، تفرغتُ لـ "ذب الذباب"، والإيقاع بين الأتراك والعرب، تسببت في شجار أبهجني.

وماذا أفعل غير ذلك؛ لم يُسمح لي بدخول الكهف، لم يعيرني الجند اهتمامًا، بعدما سقط طربوشي، بعدما تحولتُ لخادم، انقضى النهار، ويوشك الليل، ولم أعثر على بُغيتي، متى أقتحم الكهف؟! أريد الكثير من الذهب، والأحجار الكريمة.

خلدتُ إلى النوم، ثم صحوت، استيقظ البيك قبلي، ولم أعد له القهوة، لقد أسرع إلى الكهف، مرَّت ساعة، عَلِم الملازم أن البيك سبقه إلى الكهف، سألته أن يحمل إليه قهوته، والقليل من البسكويت، لم أخفِ غضبي عن الملازم، لقد حرمني مرافقة البيك.

هذا الحقير لا يستحق أن يكون تركيّا، ليته كان عربيّا! تبًّا له ولفعله! احتلْتُ في سؤالي عنه، لعلِّي أجد عيبا أستغله، لقد كان الجند عربا وتُركا يبجلونه ويحبونه، وقد أحزنني هذا كثيرًا.

اتفق هؤلاء الملاعين على إغاظتي بقَصَصَهم عن شهامة الملازم؛ رجولته، نبله، لم يبقَ إلا أن ينظموا الشعر في هذا الحقير، كنت أتصنع الابتسامة، كم تمنيت أن أجد من يشاركني بغضه!

حاولتُ عبثًا الاقتراب من الكهف، اقترب مني كلب حيان؛ رشيد؛ لم يبلغ العشرين من عمره بعد، أسمرُ اللون، ضئيلُ الجسد، قصيرُ القامة، رفيعُ الأنف، بنيُّ العينين، هزيل الشارب، ينبتُ الشَّعر في وجهه كفتىً في الثالثة عشرة، يُلاحظ عليه هوسه بالملازم؛ يقلده في كل شيء؛ الكلام، هزّ الأكتاف، المِشية، قصة الشعر، البحَّة التي تعترض صوته بين الحين والآخر.

يزداد اقترابه...أتابعه بناظري... هذا الحقير يشبهني كثيرا ولكنَّ، يميزني عنه بشرتُه القاتمة، وأنني تركي، ولستُ عربيًّا مثله.

فاجئني قوله:

- عزيز أفندي... تعال معي وسأريك مدخلا آخر للكهف.

فضولي دفعني لأتبعه بلا تفكير، وأشار إلى البئر قائلاً:

- انزل، وهناك ستجد مدخلا آخر للكهف.

لقد كان البئر ضحلاً. نظرتُ داخله فلم أستبين شيئًا؛ فسألته:

- كيف تعرف أن هناك مدخلا.

فأجاب:

- لقد ولجت منه إلى الكهف بصحبة سعيد، ولكن أرجوك لا تخبر أحدا.

وقف سعيد ليؤكد قول رشيد، يقسم الأيمان على صدقه، هوسي بالكهف أعمى بصيرتي، لم أفطن إلى كيدهم، ألقياني في غَيابَة الجُب، عبر حبلٍ مُمْتَد، لم تلامس قدماي قاع البئر بعد، انصرفا وتركاني بصحبة الحبل، أيقنت خداعي، بلعت غبائي، التزمت الصمت.

لن يُجديني نفعًا صراخي أو توسلي، جلست هادئًا، أطلقت العنان لخيالي، ليأخذني بعيدا، لحين انتهاء عقوبتي، أو لحين خروج البيك لإنقاذي.

لم يكن هذا خداعي الأول؛ ارتحلت ذاكرتي إلى زمن صبيتي، حيث احتجزني أولاد الحي؛ داخل برميل ضيق، حتى أنقذني أبي، ربما حينها تسرب الشك إلى نفسه، باستحالة إصلاح خللٍ أصابني، وعزا ذلك إلى حسد أو سحر يسكن جسدي، المسكين كان معجبا بذاكرتي وذكائي، لم يفوت مناسبةٍ باشوية إلا واستعرضني قائلاً:

- إنه عزيز ابني، يملك ذاكرة خارقة، بإمكانه تذكر أي شيء.

منذ ذلك الحين، ينتابني شعور باهت؛ فأتمتم بلسانٍ ثقيل:

- بين الحلقاتِ من الناسِ... وجموعٍ بيـن الحراسِ

ووجوهٍ هاجت لسماعي...

كررتُ مئاتِ الكلماتِ ... أسترجعُ عدَّةَ صفحاتٍ

فتراقصَ شاربُ مسكينٍ... يتنـاسى كونَه طباخًا

في ظلِّ قصورِ الباشواتِ...

يرغب في دفعِ الأيـامِ... حتى تتحققَ أحـلامُه


أحلامِ أبي! تحطَّمت على صخرةِ غبائي الشديد؛ ولده العبقري صاحب الذاكرة الخارقة، متهمٌ بالغباء من الجميع، ينصحه المعلمون بعدم إهدار الوقت، وتعليمه مهنةً يقتاتُ منها، قبل فوات الأوان.

أبقتني علاقات أبي بالمدرسة، وبالرغم من انعدام مؤشرات الأمل، أرغمني على الزحف عاما وراء عام، لعلها الأيام تعالج ما أصابني من خلل! واأسفاه على ذلك المسكين! فقد لام نفسه كثيرًا على استعراضي في أعين الحاسدين.

وقبل انتهاء المرحلة الإعدادية، استسلم أبي وخضع، ليبحث عن بديل يرضي حُلمه الضائع، وشاءت الأقدار أن يلتقي بـ"روهان بيك" في بيت أحد الباشوات، ليفضي إليه بما يؤرقه.

تدور عجلة الزمن، وها أنا أُحتجز في بئر ضحل، من قِبَل مجموعةٍ من الأغبياء الخاسرين.

يظلني ظِلٌّ أسود، رافقه صوت يتدلى، من عنق البئر المكرورة:

- عزيز باشا...هل وجدت إلى الكهف مدخلا؟

تعلو قهقهةُ الجند، يدورُ صداها مع حائطٍ صلود، يقعقعُ صليلُها في أذنيّ، بريقُ الصوت يقتلني.

رشيد ينادي ثانية:

- عزيز بيك هل تريد الخروج؟

خالط صوتَه قلقٌ أحمق، القهقهة تُدوِّي، أتخطف أنفاسي، تغرقهم حيرة كذباتي، هبط رشيد مرتعبا، يسألني أن أصعد معه.

أخبرته:

- لا أستطيع؛ لقد كُسرت ساقي.

أحاطتهم رغبةٌ عجفاءٌ في إخراجي؛ جلبوا سَرج حصان، جذبني رشيد فوقه، ليسحبني بعضٌ منهم، ويساعد في حملي معهم، أتعبتهم طويلاً، حتى انتشلوني من البئر.

حملوني إلى الخيمة، وأعدوا الشاي على عجل، ولمَّا لم يعجبني طعامهم، جمعوا ما يمكنهم من بارات وقروش، وأرسلوا أحدهم ليشتري طعامًا شهيّا، مخالفين أوامر الملازم في مغادرة الموقع، تذللوا أمامي حتى أكتم عن الملازم فعلتهم، تلذذت بتذللهم وما كنت لأكتفي، راوغتهم ؛ أخبرتهم أن ما يؤلمني ربما يكون التواء، وبعض التدليك قد يساعد على الشفاء، فخلعوا حذائي وجواربي، ليتناوبوا على تدليك قدمي، أصرخ من ألم كاذب، وقلبي يتراقص فرحا، ولم تُشفَ نفسي حتى الآن؛ ادَّعيت إساءة التدليك، هدفي إجبار رشيد وسعيد على الانحناء أمام قدمي.

انكبَّ سعيد يلهث ويدلك...تبعه رشيد في إذلال، وانحنى لتدليك قدمي الباشوية.

أصرخُ في صمتٍ بسَّامٍ: "كم يليق بكم أيها الأوغاد الانحناء لقدمي الباشوية! هيَّا قبلوها وتفاخروا بأنكم قبلتم قدم عزيز.

غابت الشمس، وغاب معها جُرح كرامتي، وأسرع مشير نحو الخيمة ليحذرهم عودة الملازم، فانفضوا من حولي مهرولين إلى مواقعهم، وانتفضت للقاء البيك. أنستني لهفتي أن أعرج قليلا أمامهم...يبدو أنهم اكتشفوا خداعي.

جلس البيك على صخرة بجانب الخيمة، وتبعه حيان ليتهامسا، تسللت وأرخيت أذني، لأسمع أي شيء يروي ظمأي، وسمعت ما دار بينهم.

البيك:

- لا تخف...إن فعلناه كما يجب لن يفطن إلينا أحد.

حيان:

- ولكن...إن اكتشفوا الأمر يوما ما...

البيك مُقاطعًا:

- إنهم حمقى؛ لن يكتشفوا شيئا، تدبر أمر الصناديق، ودعنا نوهم الجميع بأننا سننقل كل محتويات الكهف إلى المتحف.

حيان:

- أخشى أن تعاندنا الصدفة، ويقوموا بتفتيش الصناديق.

البيك بنبرة حازمة:

- لا تخف يا ولد، كن على ثقةٍ بتدبيري، كن واثقًا بأنك إن فوَّت الفرصة سيأكلك الندم طوال حياتك.

حيان:

- أنا رجل عسكري، وإنْ فُضح الأمر سأتهم بالخيانة.

لحظات صمت...يعترضها البيك:

- إذًا...رافقني، وحين وصولنا إسطنبول سأتدبر أمرك.

حيان بنبرة قلقة:

- أخاف أن يبلغ أحد الجند عما حدث.

البيك:

- لا تخف سنستقل القطار.. و.سنسبق الأحداث.

حيان:

- أمهلني أفكر حتى الصباح، سأعود الآن إلى المعسكر لأمر هام.

البيك:

- هذا قرار تتخذه مرة واحدة في حياتك.

يتوقف الحديث، يعم الصمت، وما زالت أذني تترقب، شعرت بظل أحدهم فوق رأسي، كانت خطوات البيك أسرع من استرداد أذني، رمقني بنظرة حادة، وهز رأسه قائلاً:

!!سيقتلك فضولك يوما ما يا عزيز. كم نهيتك عن ترك التلصص! اذهب وآتني بالماء لاغتسل



٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page