top of page
صورة الكاتب

جرة ذهب -الحلقة التاسعة والثلاثون

تاريخ التحديث: ٢٨ مايو ٢٠١٨


ولمَّا أدركنا هدوء المخيم توجه كل منا صوب خيمته، وسالم الذي لم يرَ الجان في المغارة رآهم في عيون الآخرين أثناء العودة، فالتصق بي وتوسل ليقضي ما تبقى من الليل في خيمتي، ونام طبيلة هادئًا عند باب الخيمة؛ فهو الوحيد الذي لم يع شيئًا ممَّا حدث.

أشرقت الشمس قبل أن تغفو أعيننا، وفي الساعة السابعة جاء نعمه وكانت حاجتي للنوم أقوى من حرصي على المؤن فأوكلته بتوزيع الطعام، وحينما استيقظت كان الكبار الثلاث نيام، ولم يلمني أحد على إهمالي، ومعظم المهام كنت قادرا على شراء من يقوم بها، إلا الاعتناء بنجمة وجودت، فما كنت لأعطي فرصة لأحدهم ليسرق مكانتي، انتهيت من خدمة الآخرين ومازلت نشيطًا، جودت ويعقوب غادرا المخيم إلى جهة مجهولة، والكعب اختفى منذ الصباح، ونعناعتي تجاوزت الخط الوهمي الفاصل بيننا وبين خيام فاطمة، ولم أجرؤ على ملاحقتها، وحيان غط في النوم، وحين يصحو ويتحرك صوت السلسلة التي يجرها خلفه كفيلة لتعلمني بوجوده، ولم يعد هناك ما يزعجني ، فقررت أن استثمر الوقت جيدا فهناك آلاف القصص بانتظاري.

بالرغم من أننا اقتربنا من ساعات الظهيرة لابد أن أمارس طقوسي اليومية، ولم أكن لأتنازل عنها أخرجت الصندوق الذي جعلت منه مقعدًا لي وألقيتُ عليه سجادة وأعددت عرشي الملكي وتربَّعْتُ عليه أمام خيامِ المؤن وأخرجتُ الكثير من السجائر وأمرتُ سالمًا أن يعد لي قهوةَ الصباح وحرصت أن يقوم بذلك أمامي خوفًا من أن يبصق فيها مثلما أفعل مع الكعب. على بعد عشرات الأمتار كان أبو إيليا جالسًا أمام خيمة ابنه وقد انشغل بالنحت على جذع شجرة، فأسرعت إليه بعدما خطرت لي فكرة أن ينحت لي سيفًا أو بندقية من الخشب لأقدمها هدية لطبيلة وسأكون مدينا له إن صنع لي ثلاثة خناجر من الخشب كتلك التي يتمنطقها الشيخ طبرق فوعدني بذلك، ثم عدت لأجلس على عرشي وقريبا سأدرب طبيلة ليحمل السيف ويقف خلفي ليكتمل المشهد، وكان أول الوافدين عليَّ جوهر الحكواتي، وفور اقترابه تعمدت أن أسقط عدة سجائر على الأرض وأرضيت غروري بأن جعلته ينحني أمام عرشي، قدمت له القهوة والسجائر والتمر وبدأ يروي رحلة القافلة، ويفصِّل في كل حدث غريب، وبخاصة تلك العلاقة السرية التي ربطت فاطمة وحيان ولسريتها الكبيرة حتى سالم سمع بها ورواها لي سابقا.

وجد الغرور طريقه إلى نفسي وشعرتُ باستطالة قامتي حينما سألني جوهر إن كنت سأسمح لهم بذبح بعير اليوم، تعجبتُ من هذا الحكواتي البارع في مراقبة أدق التفاصيل وتحليلها، هل اختلطت عليه الأمور واعتقد أني من أصحاب القرار في هذا المخيم؟ لم يحظ مني بالموافقة أو الرفض، فقد تسرب إليَّ بعض الشك في احتمالية سخريته مني.

أذنت له بالانصراف فجأة بعدما جذب انتباهه أحد عبيد فاطمة وبدأ بملاحقته لعله يجد قصة يرويها لاحقا، وجاء غيره وغيره وجزلت لهم العطاء، ثم أطلَّتْ من بعيد رباب المصرية وقد أسرت ناظري بارتدائها أحد بنطالات العسكر بعدما أعادت تصميمه ليلائم قوامها ويبرز مفاتنها، ومن فوقه قميص عسكري شدت طرفيه السفليين وعقدتهما فبرز نهداها، وطوَّقتْ خاصرتها بشال ليخفي أردافها، هذه اللعينة حولت بدلة جندي إلى ملبس نسائي يجذب عيون الرجال وتهفو له أرواحهم، أسدلت شعرها في فوضى مغرية وسارت في زهو وكأنها تقول لنا: (تبًا لكم جميعا!) غرورها يلامس غيوم السماء، وعدم اكتراثها بما ترتديه يزيدها سحرا، وابتسامتها قادرة على إذابة الجليد وعلى الرغم مما فعلته بي فلن أمانع أن أعدها بجرة ذهب إن وافقت على منحي قبلةً واحدة.

تسير ناحيتي تجر خلفها عددًا من الخدم يحملون سِلالاً فارغة، ولا يبدو عليها أنها ستنحني أمامي، وعلى غير إرادة أسرعت واختبأتُ قبل وصولها، ولكني عدت حتى لا أتنازل عن عرشي أمام هذه الخادمة الوضيعة، وأي جرم اقترفتُه! ألا يكفيها أن صفعتني لمجرد أن لامستُ فخذها! لو تعلم هذه المصرية كيف قطعتُ رأس سعدون وفقأت عينيه وأكلت أذنيه لانحت أمامي وطلبت المغفرة حتى لا أجعل عفاريت الـ"قاقا باقا" تشرب من دمها، تبًا لها وللخوف الذي يعتريني دائما! أقسم لو تمادت هذه المرة سأصفعها، ولو كان سالم قريبًا سآمره بطردها.

اقتربتْ ولم أر في عينيها أية ضغينةٍ فاستفزني هذا، لابد أنها تشفق عليّ بعدما اكتشفتُ أنِّي مجرد خادم، اقتربتْ من طبيلة ولمَّا وجدته نائما انحنت ومسدت على شعره، وخاطبتني بالعربية:

- مرحبا عزيز.

ما أرق وأعذب اسمي حينما ينساب من بين شفتيها، ولو لم أكن مرتبطا بحب نعناعة لعدت ووقعت في حبها مرة أخرى، جاوبتها بالتركية:

- أهلا رباب.

وأصرت أن تحدثني بالعربية وبلهجة أهل مصر وقالت:

- (المؤن في أي وحده من الخيم دي)

أخبرتها أن الخيم الأربعة المتلاصقة جميعها للمؤون، ابتسمت واقتحمت الخيمة الأولى ومن خلفها الخدم في وقاحة وبغير إذن، لحقت بها داخل الخيمة وكانت تحدث أحد الخدم بالتركية، وتطلب منه أن يملأ السلال الفارغة، فاستشطت غضبا لتجاوزي بهذه الطريقة، وأخبرتها بالتركية أن ما تفعله لا يجوز ويجب أن تطلب مني أولاً لأني المسئول عن المؤن، فردَّت عليَّ بالعربية وقالت:

- (اتكلم عربي علشان أفهمك)

تجاهلتني ولم تتوقف عن العبث بمحتويات الخيمة، وانتقلت إلى الثانية ولحقت بها وقلت لها:

- ولكنك تتحدثين التركية جيدا.

فردت عليَّ باستهزاء:

- (عاوز تكلمني اتكلم عربي)

وسألتني عن مكان الصابون، ولأقطع عليها طريق الوصول إلى الصابون الفاخر الذي وصلنا مؤخرا جلبت لها عدة قطع من الرديء، فقالت:

- (متشكره الصابون الثاني فين)

أخبرتها بانعدام الأنواع الأخرى فتجاهلتني وحين انتهتْ من ملء السلال بما أرادتْ تركتني في غيظ، وخفف من همي أنها لم تعرف مكان الفاخر من الصابون، وقلت سرًا: لا يليق بها إلا الرديء، تبا لها! لقد عكَّرتْ صفوي، وحتى أفيق مما فعلته هذه العاهرة خرجت لأتجول وأتفقد أحوال الرعية وقبل ذهابي جاء الملط وجلس على عرشي وقال:

- هل أنت مجنون يا عزيز لتمنع الصابون عن الهانم.

اعتقدتُ أنه يقصد رباب بالهانم، فقلت له:

لقد أخذت كل ما تريد ولا يوجد صابون، قهقه بأعلى صوته وقال:

- حبيبي عزيز أنت مجنون فعلا، الصابون المعطر الفاخر الذي وصل مؤخرا لفاطمة هانم وليس لكم، وأنت مدين لي بالكثير لأني حرصت ألا تعلم فاطمة بما فعلتَ وإلا لكانت...

وفي صمت حملت إليه الكمية التي وصلتنا من الصابون الفاخر، فإن كان جودت ويعقوب يخشون هذه الفاطمة فلن أكون أحمقًا لأتحداها واكتشف ماذا سيحدث بعد (لكانت...) الملط طلب مني ترك الصابون على الأرض وأشار إلى أحد العبيد فحمله العبد، ولم يتزحزح عن عرشي ووجدها فرصة ليثرثر، وأحمد الله أن العرش لا يتسع لجلوس اثنين وإلا لحسَّس وتلمَّس.

ينتقل من قصة إلى أخرى، في هذه القافلة لم أر أحدا يحب الثرثرة بقدر جوهر والملط الذي لديه من الأخبار الكثير، ولكن خشيتي من الشبهات التي يثيرها اقترابه مني دفعتني لأبحث عن حجة لينصرف، رحل وأخبرني بما حرص على ألا أخبر به أحدا، أخبرني أن جمال باشا سيزور المخيم في الأيام القادمة ولهذا ستتعطر فاطمة، انصرف عني، وسأحتاج للكثير من الوقت لأصرف الشبهات التي تعلق بي كلما اقترب مني، هذا الملط اللعين يراقب ويتلصص حتى على ما يدور خفيةً داخل الخيام.

أردتُ أن أعزز مكانتي بين هؤلاء الأوباش ولو كان الثمن إفساد خطتي السانتورية، وكان لابد من اتخاذ قرار خطير؛ هرعتُ باحثًا عن جوهر لآمره بذبح بعير، وفي طريقي لمحت جمال الدين يتسلل كالجرذ خارجًا من خيمة جودت، وما يحمله معه دلَّ على أنه سرق شيئا، اختبأت وراقبته واختفى خلف خيمة الفتى إيليا، فتركت مراقبته بعدما رأيتُ جوهر وأمرته أن يذبح بعيرا، وأغلظتُ له كي لا يسمح لأحد بالاقتراب من الكبد ووعدني بذلك ثم انصرف.

جولةٌ سريعةٌ حرصتُ خلالها على مروري خلف خيمة إيليا لأتفحص ما فعله جمال الدين هناك، وكانت رباب قادمة برفقة أبي إيليا ودخلا معا الخيمة، فأسرعت وجلبت بعض التمر ليكون حجة تبرر دخولي خلفهما، شكرني أبو إيليا على اهتمامي بزيارة ابنه، وانشغلت المصرية بفحص الفتى ولم تعرني انتباهًا وبعدما انتهت نصحتُ أبا إيليا باستمرار تدليك جسده، وإخراجه من الخيمة بين الحين والآخر، وألا يتوقف عن محادثته، وألا يتركه ينام كثيرا، وحينما خرجتْ سألته عن سبب اختياره لها تحديدًا ليسألها عن حال ابنه، فاختصر جوابه قائلا:

- إنها طيبةُ القلب.

ساعدتُه على حمل الفتى تحتَ ظلِّ شجرةٍ وجلس بجواره وأمسك بالناي لينوح ألحانًا شجيةً، ولمعت عيناه، فآثرتُ الابتعاد؛ فلديَّ من الأحزان ما يكفيني...

عاد جودت ويعقوب وأعددت لهما طعامًا شهيًا ولم أتلقَ من يعقوب إلا نظرات الازدراء، أمرني بالذهاب ودعوة الكعب ليشاركهما الطعام، وابتسم جودت حينما أخبرته بأنه ليس في المخيم، تركتهم وشعرت بالندم على أني لم أبصق هذه المرة في طعامهم، وأصابني القلق على مكانتي، وخاصة وأنا أرى خضوع جودت ليعقوب، والمكانة التي وصل اليها الكعب ...

المكان الذي خيمنا فيه كان بعيدا نوعا ما عن النهر، ولكنه أشبه برحلة استجمام، ولو سمح لنا بالاقتراب من النهر لما عارضنا البقاء هنا سنة كاملة، ولكني أفضّل أن نرتحل بسرعة لتعود الأمور إلى ما كانت عليه، فلم أجد ما أفعله سوى التنقل من واحد إلى آخر والاستماع إلى قصصهم، وكل منهم يروي القصة بطريقته وحسب ما رأته عيونهم، بعضهم يركز على التفاصيل وآخرون يهتمون بجوهر الحدث، ولا أحد يشعر بأن هناك أسرارا يتوجب إخفائها، وكل منهم يخفي خلف عينيه حلما، والشيء المشترك بين كل من التقيتهم بأنهم جميعا يدركون أن نهاية هذه الرحلة لن يكون سارا أبدا، ومع هذا لا أحد يرغب بالهرب خالي الوفاض، الذهب والكنوز سحرت الجميع والموت ما عاد يخيفهم.

حيان وحده كان يروي قصة القافلة بموضوعية، ولكنه كان يتجنب الحديث عن مغامراته مع فاطمة، ولم يتطرق إلى الليالي الحميمة التي قضاها في خيمتها وتفنن البعض في وصفها، وبخاصة الملط المخنث الذي تلصص ورأى أدق التفاصيل، لم أرَ حيان يشرب الخمر قط، ويبدو أن الفترة التي قضاها بصحبة روهان غيَّرتْ فيه كثيرًا، تعجبتُ عندما سألني عن احتفاظ جودت بزجاجات العرق في خيمته، ووعدته بأني سأسرق واحدةً من أجله، ولستُ أحمقًا لأورط نفسي في سرقة تافهة، وسأحضر له زجاجة العرق التي مازلت احتفظ بها في حقائب البيك، وسأجعله يعتقد اني غامرت بحياتي لأسرقها له من مخزون جودت، فمن الغباء أن تقدم لأحدهم شيئا بالمجان، ولا بد أن أساومه عليها؛ لأعرف علاقته بفاطمة من وجهة نظره، وليس كما رواها الآخرون، وهكذا فقط تكتمل قصة القافلة الأخرى.

تركت حيان فور اقتراب جوهر ونعمه، وعدتُ أترقب اللحظة التي سيظهر فيها جودت وهيأت نفسي لانتظار أن يدعوني ويسألني عن شيء سُرق من خيمته وما كنتُ لأتردد في إخباره عن جمال الدين، وأن أقوده بنفسي إلى حيث أخفى ما سرقه، وبعدها طلبني جودت وكان صافي المزاج أيقنت أنه لم يكتشف شيئًا، أو لم يُسرق منه شيء، وكل ما أراده مني هو محادثته؛ سألني إن كان طبرق قد طلب مني ادعاء رؤية الجان، لم أكذب فالكعب لم يطلب مني؛ لأن هذا المعتوه اعتقد أني أرى الجان صدقًا، أو توهم ذلك، فقلت بسانتورية:

- لا يا سيدي لقد رأيتهم فعلا ولولا ستر الله لقبضوا علي وحبسوني في المغارة.

ضحك وقال ساخرا:

- وماذا قالوا لك؟

استغبيتُ سائلاً:

- من هم يا سيدي؟

- عفاريت الشيخ طبرق يا عزيز.

- لم يتحدث سوى واحد.

- وماذا قال؟

- اتركوه فقد أرسله سيدنا طبرق.

وهذا الناعم الجبان أثبت أنه بارع في التحقيق والتحليل، فأعطيته إجابات سانتورية، وأحد الأسئلة المخادعة التي سألها:

- لقد أخبرتنا وأنت مرتعب أنك رأيت جنيًا له رأس حمار وأربعة أرجل؟

الأحمق لا يعرف أن ذاكرتي لا يمكن خداعها، ولكن من الحكمة أن أتركه ينجح في خداعي فقلت:

- نعم يا سيدي لقد رأيت جنيًا برأس حمار.

جاريتُ مراوغته حتى أيقن أنِّي مجرد أبله غرق في خُزَعْبِلاتِ الكعب، ثم تنهد قائلا:

- لا عجب أن ترى كل هذا مادام يعقوب نفسه قد رأى.

أمرني بإحضار ثلاثة جرار، وأمرني بترك صندوق الذهب المفتوح، وفتح لي صندوقًا آخر لم تنقص منه قطعة واحدة، وأحضر صحنًا خزفيًا اعتاد أن يتناول فيه الطعام، وملأته ذهبًا كما أراد، ثم أخذه وجلس به على الطاولة، ثم طلب مني إفراغه في الجرة، وهكذا بدأت أملأ الصحن أولاً ومنه إلى الجرة حتى امتلأت وقام بتدوين الرقم في مفكرته، لم يخف أنه يشك في سرقة الذهب، ويسعى ليعرف الكمية داخل كل صندوق، أما الجرتان الفارغتان فملأتهما بالطريقة القديمة وانتظر حتى انتهيت وأغلق الصندوق بيده، وتركني أنظف الخيمة وخرج فقلت متابعًا خروجه: هذا الأحمق يحاول ضبط الأمور بعد فوات الأوان، وإن كان سالم الأبله قد سرق ذهبا وأخفاه فمن لم يسرق! أي أحمق يترك الذهب في متناول أيدي العرب ويغيب عنه دون حراسة.

نظرةٌ خاطفةٌ على الصندوق ولست بحاجة إلى صحن خزفي، أو عدِّ القطع لأعرف بأن ما يزيد عن جرة ذهب قد نُهبت منه، أيقنت أن جمال الدين قد سطا -هو الآخر- على الذهب، وطالما أن جودت ليس متيقنًا، وما في رأسه لا يتعدى شكوكًا يسعى لاختبار صحتها فلا داعي لفضح السارق بغير كسبٍ أحققه، نفضتُ الغبار ولمعت أحذيته وأخذتُ جواربه وملابسه المُتَّسخة، وألقيتُ نظرةً على يومياته المشفرة في سذاجة لمتابعة ما قرأتُ مسبقًا:

- " لم أشعر بالسعادة والأمان مثلما هي الحال في رفقة صديقي يعقوب، ولكن الوقت الذي قضيتُه بصحبته كشف لي أنَّ كُلَّ شيءٍ في هذا العالم يتغير، رأيتُ فيه قاتلاً ومُجرمًا يتفاخر ويتباهى بقسوته، لم أرَ في حياتي أحدًا يفوق عزيز في كراهيته للعرب إلا يعقوب، وصعقني حينما عرفتُ مخططه في التخلص ممِّن رافق القافلتين، وتساءلت هل يعقوب صاحب هذا المخطط الدموي، أم هو منفذ لأوامر الباشا؟ وكانت صدمتي الثانية حين اكتشفتُ أنَّ يعقوب يخفي خلف هذا الحزم العسكري جهلاً عشَّش في عقله، لم أصدق أنه لا يختلفُ عن عزيز في إيمانه الأعمى بشعوذات طبرق، لقد بهره، وسرق عقله حتى أنه نعتني بالمثقف الأخرق الذي لم ير من الحياة شيئا، واأسفاه! لقد ألقى كلَّ ما تمتع به من دهاءٍ عسكري تحتَ أقدامِ طبرق حينما وافقه على دفن كلِّ ما نحمله في مكان واحد ليحرسه الجان ونوفر على أنفسنا العناء عند عودتنا لإخراجه.
بذلتُ كُلَّ جهدي لأقنعه بأن عزيزًا لا يتعدى كونه أبلهًا، وأن طبرق أوهمه بوجود الجان، وكل ما ادعاه لا يتعدى أوهام دأب طبرق على زرعها في عقله لأسابيع...ولكن ما كانت هناك كلمات لتقنع يعقوب بأن طبرق لا يتعدى كونه دجالاً أتقن دوره، لقد أفحمني وأخرسني عندما قال:
- الباشا ليس أحمقًا ليرسل الشيخ معك، لولا ثقته في قدراته لما فعل.
وهنا أجبرني صديقي الجاهل أن أذكِّره بأني المسؤول الوحيد ولا أحد سواى، وسأواصل إخفاء الذهب بالطريقة السابقة نفسها، وبعد قدوم الباشا ليقرر ما يشاء، وكنت أعلم أن يعقوب ما كان ليغضبني فضحك وقال:
- أنا طوع بنانك يا صديقي، سأنفذ أوامرك فقط.
ضحكتُ وأخبرته بأن ربَّما عليه أن يقنع فاطمة بالانضمام إلى طبرق وبخاصة أنها تدعي علم الغيب، فقال: هي خائنة ولن يرحمها الباشا حين يعرف حقيقتها. ما كنت لأكره يعقوب يومًا ولكني شعرت بالأسى لمَّا عقدوا العزم على تنفيذه من الجرائم خلال الأيام القادمة، تمنيتُ أن يكون للباشا رأي آخر لمنع هذه الأباطيل، وأخاف أن نبدأ بحشد المشعوذين ليطلقوا عفاريتهم لخلع السلطان والانتقال بنا إلى عالم أكثر تمدنا"

لمحت ظل جودت قبل اقترابه فتظاهرت بتنظيف الغبار، ولم أخفِ القلقَ الذي اعتراني ممَّا قرأتُ في يومياته المشفَّرة، وسألني عن العبوس الذي ظهر على ملامحي، ووجدت له جوابًا، وحين انتهيت صرفني...

عدتُ إلى خيمتي وكان أحمد شيخه في انتظاري ليتسول السجائر، وبعد ذبح الجمال ما عاد أحد يتسول الطعام، فقلت له:

- أرى أنك صغير السن؛ ولن تحصل مني على سجائر بعد اليوم.

- لست صغيرا، وانت كنت تعطيني السجائر دوما.

- لقد اكتشفت أنك لم تبلغ السادسة عشرة.

فقال بسذاجة:

- ولكنك كنت تعتقد أني في الرابعة عشرة وكنت تعطيني السجائر سابقا.

- وقتها لم تكن مشغولاً بخدمةِ جمال الدين.

- هو من سيدفع لي أجري عند وصولنا إلى حلب.

هذا الولد مازال يعتقد أنه سيقبض أجرا من جمال أو غيره، أعطيته سجائر ومهمة ليقوم بها، لم يمر الكثير من الوقت حتى رأيت الكعب متجهًا إلى خيمته فتبعته وقدمت له تقريرًا مفصلاً عمَّا جرى أثناء غيابه، ولم أنس أن أخبره بما دار بيني وبين جودت من حديث بخصوص الجان، وسرَّه ذلك وربت على كتفي وقال:

- أريد منك أن تشيع هذا الأمر كي يعرف الجميع قوة الـ"قاقا باقا" وأنا أعتمد عليك في هذا الشأن.

أحنيت رأسي سمعا وطاعة، ثم سألني:

- وماذا عن يعقوب؟

وجدتها فرصة لزرع بذرة حقد فقلتُ في حمق:

- يعقوب معجب بك كثيرا يا سيدي، وقد سمعته يقول لجودت بأنك تستحق أن تدفن مع الذهب.

لم يرق له ما قلت وصك على أسنانه وتمتم بكلمات لم أسمعها، كان واضحا أنها تحمل تهديدا ووعيدا ثم قال:

- وماذا سمعته يقول أيضا؟

أجبته:

- سمعته يصف لجودت شخصًا، وأخبره أن رائحته مثل خنزير ولا يطيق الاقتراب منه.

أحنى الكعب رأسَه وترك أنفَه يشتمُّ روائحَه الكريهة وبنبرةِ صوتٍ غاضبةٍ -جاهد في إخفائها- قال في هدوء:

- وماذا سمعتَ أيضا؟

وقلت له:

- سمعته يقول سأخلصك منه.

امتعض ولم يعجبه إيجازي، وقال:

- أريد منك أن تعيد ما سمعتَه منهما حرفًا حرفًا!!

وأنا كالعادة لا أتعلم من حماقتي السابقة، وأنجرف خلف حماسي مثل كل مرة، فقلت:

- قال جودت: هل تصدق يا يعقوب ما رأيت فضحك يعقوب (ها ها ها ها) ثم قال: أنا أتظاهر بأني أصدقه ولكني سأخلصك منه ومن رائحته الكريهة قريبا يا صديقي جودت، فَرَدَّ عليه جودت وقال: لا لن أسمح لك أن تتخلص منه ورائحته ليست كريهة كما تدَّعي.

فجحظتْ عينا الكعب وقال:

.............................

<<<<<<نهاية الحلقة 39>>>>>



٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل

Comments


bottom of page