في ساعات الظهيرة أطلَّ علينا الكعب الذي اختفى وانقطعت آثاره منذ الأمس، وبدا أنه تفاجأ بالتغيرات التي حدثت في غيابه وبخاصة الدواب التي جاورت خيمته، فأمطر الجميع بالسباب والشتائم وعلى صراخه خرج جودت مسرعا لتهدئة الأجواء وكانت النتيجة لصالح الدواب التي لم يسرها أن تكون على مقربةٍ من خيمته ونُقلتْ غرب المخيم، أعددت لهم القهوة، وحرصتُ على أن أبصق في الماء عدة مرات قبل إعدادها، وكانت هذه المرة الأولى التي سيتذوق فيها جودت طعم بصاقي، حملتُ القهوة إلى خيمة أبي سعد حيث اجتمع ثلاثتهم، لم تكن فيها طاولة ولا مقاعد، وجلسوا على الأرض وأنا ما كنت لأجرؤ على إطالة بقائي فخرجت مسرعًا لعلي أجد السبيل لإخراج ضجيج هذا اليوم من رأسي! هربت إلى مملكتي بجوار خيام المؤن، فوجدت سالم نائما، أيقظته ولم أسأله عمَّا فعله؛ فهذا الأبله قد دفن ذهبه داخل الخيمة، ولم أكن لأكتشف هذا أبدا لولا أنه يأتي لتفقده كل ساعة، سألته عن عدد المرات التي أعد فيها لي القهوة، وطلبت منه أن يقسم بأنه لم يبصق في الماء قط؟ ولعنة الله عليه صمت ورفض القسم، وبعد إلحاحي قال:
- (والله ماني متذكر)
امتعضتُ وأخبرته أني لن أشرب القهوة من يديه ثانيةً. حك رأسه وفكر قليلا ثم قال:
- (بس انت يا عزيز بتشمها وما بتشربها )
فقلت:
- وأيضا لن أشم القهوة التي تعدها لي.
فقال:
- (طيب بعملك شاي)
ثم سألني إن كنا سنوزع حصص الطعام اليوم، فأمرته أن يطعم طبيلة فقط وسننتظر قليلا لعل طبرق يذبح بعيرًا ويوفر علينا استهلاك ما نملكه من طعام بعدما تضاعفت الأعداد، وطلبت منه أن يذهب سرًا ويبحث عن حيان ويعود ليخبرني عن مكانه، تجاهلني وأخذ يروي لي ما سمعه من قصص القافلة القادمة، لم أمنع نفسي من الاستماع فقد حمل لي الكثير من الأخبار التي كنت أجهلها، وحينما ذهب ليقوم بما أمرته به عاد بعد دقائق، وقال:
- (حيان بقلك روح عنده بستناك بخيمه احمد الكبير)
منعني الإرهاق من التروي قبل أن أرسل هذا الأبله، لابد أنه أخبر الجميع بأني أبحث عن حيان، وقبل خروجي إليه اعترض طريقي أبو إيليا الأمهق وسألني عن حليب أو لبن أو أي شيء ليطعم ابنه فاعتذرت ولكن سالم اللعين هز رأسه وقال:
- (في عمي أبو إيليا خذ جبنه واعمل منها لبن وإذا بدك حليب احلب حماره)
لم يفاجئني سالم بمعرفته حليب الأتان وإنما تعجبتُ من فهمه حديث التركية، فسألته كيف فهم ما طلبه أبو إيليا، فأجاب:
- (الحمار بفهم شو يعني لبن وحليب بالتركي)
تركتُهم وأسرعتُ إلى حيان وفي طريقي اعترضني الكعب وأمرني باتباعه إلى خيمته، وعند دخولنا كانت نعناعة نائمة، فتربعنا خلف خيمته بعيدًا عن الأعين، ووضع يده على كتفي وأخذ ينظر في عيني وكأنه يبحث عن شيء ضاع فيهما وقال:
- لقد أخبرتني أنك رأيت الجان عدة مرات؟
- نعم يا سيدي الشيخ.
- هل رأيتهم هذا الصباح؟
- لا يا سيدي لقد رأيتهم ظهرا عند حضورك.
هزَّ رأسُه وقال:
- صِفهم لي بدقة.
هنا أدركت أنه يختبر إن كان كلامي سيتطابق مع ما ذكرته له سابقا من هراء، ومن هو مثلي لا يعجز عن ذلك، فوصفتهم له وابتسم وقال:
- عزيز، ستُكَلف اليوم بمهمة سرية إن نجحت فيها ستنال رضا ملوك جان "القاقا باقا".
فأجبته:
- أنا طوع أمرك، وأمر الـ"قاقا باقا" يا سيدي.
وتابع قائلاً:
- سنخرجُ اليومَ في مهمةٍ لإحدى المغاور وحينما أعطيك إشارتي ستفتح ذهنك جيدًا وسترى الكثير من الجان يقفون على بوابتها، منهم الأحمر والأصفر والأسود، طوال وقصار، عيونهم حمراء وصفراء وبرتقالية، لبعضهم شوارب طويلة، ووجوههم غريبة، يحملون سيوفًا وسلاسلَ ليقطعوا أوصال الناس، لا تخف سأربط خيطًا في يدك ليعرفوا أنك منا.
الخنزير البري أخذ يردد كلماتِ الرُّعب محاولاً غرسها في نفسي، ولم يخفَ عليَّ أنه يقوم بتنويمي ليوحي إلي برؤية ما يريدني رؤيته، ولو كان فَطِنًا لطلب مني تأدية هذا الدور وما كنت لأمانع، ولأني سانتور أديتُ بعض الحركات العشوائية مرتعشًا لأوحي إليه بالخوف الذي اعتراني فاقتنع هذا المريض بأني أرتعد من الخوف وأنه أصاب ما أراد وعاد وقال:
- ولكن إياك أن تهرب قبل رؤيتهم يا عزيز!
أحنيتُ رأسي، وماذا أفعل غير ذلك أمام هذا المعتوه! ولكني ارتعبت عندما طلب أن أصحب سالمًا معي، وهنا وسألته:
- هل ستذبحه؟
فقال:
- لا لا سأذبح حمارًا فقط، وإنما أريده أن يكون برفقتك، ودورك أن تحذره عندما ترى الجان ليهرب قبل أن يؤذيه أحدهم.
لا أشك أن المسخ يخطط لاستعراض كبير، ورأى أن حضور سالم سيضيف إليه شيئا، لم يتركني حتى تأكد أنه قد زرع الأوهام داخلي لتهيئتي.
سألته:
- سيدي، هل ستذبح اليوم للطعام؟
ويبدو أنه لم يفهم ما قصدته فقال:
- لا لا اليوم لن أذبح أحدًا، سأذبح حمارا فقط.
فقلت:
- سيدي، هل تريد أن أعد لك كبد بعير؟
فرد:
- اذهب واذبح ما تشاء من الجمال.
تركته وانصرفت للقاء حيان، وكان بصحبته أحمد الكبير ونعمة وجوهر، وقبل أن أخطو داخل الخيمة خاطبني بالعربية وقال:
- اجلس يا عزيز أفندي لقد اشتقت لك كثيرا.
وكانت هذه المرة الأولى لحديثه معي بالعربية، ربما أراد أن يفهم الجميع ما يقوله وأراد أن يقطع الطريق أمام أية مصافحة أو عناق، لم أكترث وبتباهٍ بمكانتي طلبت من نعمة أن يذهب ليذبح بعيرا، فقفز أسرع من البرق ولحق به أحمد الكبير، وأخذ جوهر يسخر كعادته قائلاً:
- ألم تعلم يا حيان أن عزيز أفندي هو المسؤول الأول عن القافلة.
ابتسم حيان وقال:
- علمتُ كل شيء.
التزمتُ الصمت، حتى لا أتسبب في بدء حديث جديد، وحينما تركنا ولحق بالبقية ليشارك في حفل الذبح شكرتُ البعير الذي تسبب في رحيله، لم يبتعد ظله حتى دخل أحمد شيخه، وتلذذتُ حينما أمرته بأن يذهب لإشعال النار وبدء الشواء، وعدنا إلى الحديث بالتركية وقبل أن يسألني عن حالي سألني عن رشيد، وهذا ما كنتُ أخشاه، فسألتُه عن روهان، ولكنه أصرَّ على أن أجيبه لأنه سمع بأني آخر مَنْ كان برفقته.
لم أتفاجأ، فكنت أعلم أن يوما ما سنلتقي ويسألني عن رشيد، أغلقت في قصتي كل الثغرات لتكون مقنعة له:
- كسر رشيد جرة ذهب وملأ جيوبه وفرَّ مُختفيًا بين الجبال ولم أسمع عنه بعدها.
بالغ في أسئلتي ليتأكد من صحة روايتي، ولم يكن أمامه إلا أن يصدق، ولمَّا اطمأن سألته:
- لماذا أشرتَ إليَّ كي أبتعد عنك عند وصولك؟
فأجاب:
- كان بإمكانك أن تصافحني في هدوء مثل الجميع ولكنك اندفعت نحوي لتثير حولك الكثير من الشكوك، ألم ترَ رجال يعقوب؟ كانوا خلفي أيها الأبله.
ضحك وتابع:
- وأشهد لك بالذكاء وحسن التصرف بمعانقتك ذلك الرجل صاحب الرائحة الفوَّاحة.
مئات الأسئلة تدور في رأسي وكلُّ ما أهمني هذه اللحظة أن أسأل عن روهان، فردَّ وشابه نبرةَ صوته التوتر:
- هو بخير...بخير.
فامتعضتُ وأعدتُ السؤال:
- أين روهان يا حيان؟
أحنى رأسه وحمل صوته الكثير من الذنب:
- لا أعلم، لا أحد يعلم، آمل أنه بخير وأن يعقوب قد نقله إلى أحد المعسكرات.
لم يقتنع بما يقول ليقنعني، ولم يجد بُدًا من إخباري الحقيقة؛ لقد كان حيان في طليعة القافلة وبعد ساعات انتبه لغياب روهان فاعتقد في بادئ الأمر أنه انضم إلى قافلتنا، وحين عبر النهر كان ينتظر لقاءه، وتفاجأ حينما نفى الجميع تواجده معنا، ولم يجد تفسيرا إلا أنه نُقل في ذلك اليوم المشؤوم إلى جهة مجهولة برفقه رجال يعقوب، ففضَّل اعتقاد الخير عن التفكير في السوء، ثم صمت برهةً وانفعل ولعن نفسه أمامي على أنه غاب عن ناظريه، وسرًا لعنتُه أيضا ولكني أشفقتُ عليه، فقلت له:
- عدد المسلحين الذين تواجدوا عند تقسيم القافلة ما كان ليردعهم أي شيء، تعالَ لندعو الله أن يكون بخير.
كنتُ في أمسِّ الحاجة لمعرفة الكثير من الأجوبة لكنني خرجت مسرعا إلى خيمتي، ولم أبكِ في حياتي مثلما بكيتُ في ذلك اليوم، حاولت أن أعلق نفسي بأمل صغير، رجلٌ مثل روهان بيك يختفي فجأة، ولا يعرف أحد كيف وأين ومتى! لو كان شابا صحيحًا لكان أمر هروبه مُحتملاً، أعجز عن تفسير ما حدث له، ولا أجرؤ على التفكير في سوءٍ أصابه، لم ألق صدمةَ اختفاء أحب الناس إلى قلبي دفعة واحدة، وإنما تجرعتها بدءًا من لقاء جوهر وانتهاءً بلقاء حيان، يوم ملعون صاخب...أقسم أني على استعداد أن أتنازل على كل قطعة ذهب -لا أشك أنى سأملكها يوما- مقابل أن يكون روهان بخير.
مع غروب الشمس ذهبت إلى خيمة الذهب كما أمر جودت الناعم الجبان، ثم خرج وتركني وحيدًا، وكانت معظم الصناديق مغلقه عدا صندوقين، لم أتعجلْ في ملء ثلاثة جرار كبيرة، وكنت ألهو بالذهب بين الحين والآخر، وراودتني فكرة كبحت جماحها بشق نفسي، كنت أرغب في التبول فوق الذهب، ولكن خوفي من انتشار الرائحة ردعني فاكتفيت بالبصق على الصناديق وما فيها، وعاد الجبان بعدما ملأتُ جرةً واحدة فحثني على الإسراع، وأمرني أن أحضر طبيلة فقط وأحملها على ثلاثة بغال.
انتهيت وامتطى جودت نجمة، ونادرا ما كان يفعل عند ذهابنا للدفن، وامتطى الكعب حصانه، وكذلك فعل الملعون يعقوب، ولم أره منذ حديثي مع حيان بشأن اختفاء روهان، ومذ وقعت عليه عيني رأيت أن لقب أبي سعد أرفع من أن يستحقه حتى لا أظلم طائر (أبي سعد) بصحبة هذا المجرم، وعند أول المخيم كان في انتظارنا سالم وأبو إيليا وحمار وآخران، اعترض الكعب على مرافقه طبيلة لنا، خشية أن يثور فطمأنه جودت قائلاً:
- اطمئن عزيز يستطيع السيطرة عليه.
وعندها طلبت إذنا أن احمل معي طعاما في حالة شعوره بالجوع فوافق، نظرات يعقوب نحوي لم تكن ودية؛ لقد بدا ساخطًا على مكانتي عند جودت، غادرنا حدود المخيم، وبعد ما يقارب الألف متر وخلف الهضاب التي تطوِّق المخيم لاحظتُ تشكيلاً عسكريًا كالذي كان غرب النهر، فأيقنتُ أن هذا المخيم يخضع لحراسة مشددة من كل اتجاه، وبدت ملامح الغضب على وجه الكعب عندما انضم إلينا -على حين غرة- اثنان من الفرق الخاصة عند رأس الطريق، لقد كان يعقوب أكثر حذرًا من جودت، وأقل ثقةً فيمن حوله، ولم يكن ليترك نفسه بلا حراسة.
وبعد ما يقارب ساعاتٍ ثلاث تكبدنا فيها عناء الطريق صعودا بين الجبال اقترب الكعب من جودت وهمس في أذنه، ثم همس جودت في أذن يعقوب فطلب من المسلحيَن المكوث وحراسة الطريق؛ فلا داع لأن يقترب من الذهب سوى الخراف المَنْوِيّ ذبحها، طفنا حول جبل كسته الأشجارُ، ثم أشار الكعب عاليًا وعدنا إلى الصعود مجددًا، كانت الطريق أقل وعورة من ذي قبل، اقتربنا من مغارة كبيرة لم نبلغها في يُسر، حفرنا داخلها وأخذ أبو إيليا من جودت ورقة تحتوي الرموز التي يتوجب عليه نقشها ثم ابتعد، ولم يرافقه جودت كما كان يفعل مع إيليا، وحان وقت نقل الجرارِ التي يستوجبُ حمل كلِّ واحدة منها أربعةَ رجال لعبور حاجز صخري مرتفع يقطع الطريق عن المغارة، ولم تكن تسمح الطريق إلا بمرور اثنين منا فقط، لقد تعقد الأمر كله لولا طبيلة الذي نقل بمفرده الجرار الأربعة، وما كان علينا إلا أن نستلمها منه وندفعها داخل الحفرة ونهيل عليها التراب، فارتسمت ابتسامة نصر على شفتي جودت وربت على كتف طبيلة للمرة الأولى وقال:
- برافوو يا بطل.
انتهينا ولكز جودت يعقوب وابتسم الاثنان؛ أراد أن يقول له: لقد حان وقت هراء الكعب وجنونه، صعد إلى المغارة وطلب منا النزول، وجعل منها مسرحًا ليؤدي عرضه أمام الجميع، كان مُفعمًا بالحماس، تألق وبرع في أداء رقصة السعادين، وأنشد الـ"قاقا باقا" ولحَّنها مازجًا بين صياح الديكةِ ونهيق الحُمُر، وبرشاقة فهد قفز بيننا وقبل أن ندرك ما حدث أخرج خنجره وحزَّ عنق الحمار.
تفرقنا حتى لا يصيبنا الدم، وخاف البعض من إصابة الجان، وغمس الكعب كفيه في الدماء وأطال الرقص والنشيد، وزاد عن كل مرة بقطع ذنب الحمار وأذنيه وألقاهم عند مدخل المغارة، لا يخشى جودت العفاريت، وإنما يخشى ذابحَ الحمير والبشر، ولكنه سخر من طقوس المسخ علنًا مُستمدًا شجاعته من وجود يعقوب، وكانت المفاجأة التي لم يتوقعها أحد أن يعقوب الحازم البارد صاحب النظرات الجليدية تراجع عدة خطوات، ولم يتمكن من إخفاء الخوف الذي اعتراه من هراء الكعب وهذيانه، لقد كان مؤمنًا بمثل هذا الهراء، وهذه أول ثغرة اكتشفها في هذا الجاهل المغلَّف بالصلابة والقوة.
تركنا المغارة وهبطنا أسفل الجبل حيث تركنا الخيول وحين وصلنا طلب منا الكعب أن نتنحى جانبا، وبدأ القيام بطقوس لم يفعلها من قبل، رقص مجددا وأنشد وأخذ ينثر مادة صفراء في الهواء، وكلما نظر إلى يعقوب ازداد حماسا، واستمرت طقوس الهراء الجديدة حتى استاء جودت كثيرا أمام الضعف الذي اعترى صديقه، وهنا غافلهم الكعب وغمزني بطرف عينه وقال لي أمام الجميع:
- خذ معك أحدًا يا عزيز وعد إلى المغارة وآتني بأذني الحمار وذنبه.
فطنت أنه أرادني أخذ سالم، وقبل أن نشق طريقنا أراد طبيلة أن يتبعنا فوضعتُ له طعامًا فجلس يلتهمه، وبدأنا الصعود بين الأشجار تجاه المغارة، ولم نجاوز منتصف الطريق حتى التصق بي سالم وأخذ يتمتم فَزِعًا:
- (مشان الله عزيز خلينا نرجع الجن بلمسنا)
قوَّيتُ من عزيمته، ولم يتوقف عن قراءة آيات من القرآن الكريم بأعلى صوته حتى بلغنا المغارة والتقطت الذنب والأذنين، وتصنمت مكاني واحترت بما يتوجب علي فعله، هذا اليوم برمته ليس مناسبًا لأي شيء، تكدر صفوي، وانشغل ذهني، وأشعر بقرف شديد، ولا رغبة لي في التمثيل، ولم أجد أمامي إلا أن أستغل خوف سالم وأدفعه على البكاء والهرب، لعل ذلك يساعد في لفت انتباههم، ويخفي عجزي عن أداء دور المرعوب الملموس، سرت عدة خطوات داخل المغارة وقلت:
- اهرب يا سالم لقد خرج الجن.
لم يتحركْ، فأردت أن أكون أكثر حماسًا لأثير خوفه، وملأت رئتي بالهواء وشحذت نفسي بما تبقى من طاقة وضغطت على خنجرتي، وبلهجة سالم قلت:
(يا ويلنا...! الجن الجن... الجن طلعوا من المغارة! اشرد يا سالم قبل ما يذبحوك)
التفت إليه وكان مازال واقفا يحدق داخل المغارة ويبحث في زواياها، فسألته:
- ألا ترى الجني الطويل؟
- (مش شايف)
- ألا تري الجني السمين؟
- (مش شايف)
- ألا ترى القصير؟ الأحمر؟ الأسمر؟ الأخضر الأحول؟ الأكتع؟
علق لسانه:
- (مش شايف شي يا خوي)
هذا الأبله الذي بكى من الخوف قبل دقائق صار الآن شجاعًا ليفسد خططي ويفضح أمري مع ذابح الحمر والبشر، وبعدما اشتد بي اليأس كان لابد من تقمص الأدوار؛ نظرت في عيني سالم، ووضعت إصبعي فوق فمي وقلتُ له:
- (هوووووش).
فقال:
(ايش في يا عزيز؟)
- لا تتحرك، شىء ما يتحرك في هذه الزاوية المظلمة، سأذهب لأرى.
ثم صرختُ بأعلى صوتي:
- ضبع يااااااا سااااااالم ضبع.
أسرع من نطق الأحرف قفز فوق حاجز المغارة واختفى بين الأشجار، ضحكتُ وتخيلتُ ضباعًا تنسلُّ من الظُّلمة لتهاجمني، ولكن فزع سالم ملأ قلبي حماسًا فجلستُ وراودتني فكرةٌ قذرةٌ ومجنونةٌ، ولم أستطع منع نفسي عن تنفيذها؛ ولجت المغارة ووقفتُ حيث دفنَّا الجرار وأسقطتُ سروالي، وجلست القرفصاء وتغوطت على الذهب، أفرغت ما في معدتي وامتلأت بالسعادة والسرور، شعرت بالحماس وبدأتُ في هزِّ مؤخرتي مُقلدًا الكعب، ومُنشدًا الـ"قاقا باقا" ولم أخشَ سوى أفعى أو عقرب يلدغ مؤخرتي ويفسد نشوتي، تملكني الشعور بالفخر والكرامة، وشعرت أني باشا حقيقي، فأي باشا يمتلك الجرأة ليتغوط فوق كل هذه الثروة! أهتف سرًا:
- (أنا عزيز باشا وها أنا أتغوط فوقكم، وأنتم جميعا بالأسفل تنتظرون حضرتنا لينتهي من تغوطه)
واشتد جنوني حتى خطر ببالي أن أحفر وأخرج بعض قطع الذهب لأمسح بها مؤخرتي الذهبية وتساءلت سرًا إن كان سيسهل عليَّ أن أحدث أحدًا بما فعلت يوما، ليس من اللائق أن أصف هذا المشهد المشين، اجتاحتني ثورة عارمة وغضبت من هذا المهذب الذي يسكن أعماقي وصرخت فيه:
- ألا يحق لي أن أفخر بشجاعة مؤخرتي التي تحدتهم جميعا؟
لو كنت شاعرا لنظمت الشعر فيما حدث، وهل وصف التغوط سيكون أكثر قرفا من خرافات استعبدت عقول البشر! هنيئا للشيخ طبرق وملوك الـ"قاقا باقا" ومعهم جودت ويعقوب بالروائح العطرة التي نشرتها على باب مغارتهم، كم أتمنى لو استطعت أن أطيل هذه اللحظات لتستمر إلى الأبد! ولكن هيهات هيهات، يتوجب على العودة قبل أن يقلقهم غيابي، طمرت ما خلفته خشية أن يصعد أحدهم ويكتشف ما فعلت، ومسحت عن وجهي علامات السرور، وفركت أنفي وعيني حتى احمرت، وشددت عضلات وجهي وصككت على أسناني، حملت أذني الحمار وذنبه وركضتُ حتى أغرقني العرق، واستلقيت على التراب وتمرمغت حتى صار العرق طينًا، ثم جررت ساقي حتى وصلت إليهم، وارتميت في أحضان الكعب وأخذت أغمغم وأهمهم :
- جاااجججا جان عععروت جا جااااجا....
فسألني:
- ماذا بك؟
كان ردي عليه ارتجاف وغمغمة فبدأ يمارس هراءه ؛ أمسك برأسي وتمتم بصوت مسموع:
- لا تخف أنا حاميك، أخبرنا بما حدث معك؟
أشبعت غروره وجنونه بعدد الجان وأوصافها والسلاسل والسيوف التي يتصاعد منها اللهب، والرؤوس الكبيرة التي تحرس مغارة الذهب، ثم توقفتُ، فقال:
- أكمل ولا تخف.
فقلتُ:
- ظهروا فجأة، بعدما التقطتُ أذني الحمار وذنبه، فهرب سالم، وتعثرتُ فوقعتُ على الأرض مستسلمًا لمَّا رأيت ظلالهم الضخمة تتجاوز رأسي بأمتار طويلة، وحمدت الله بعدما قال أحدهم بصوت مرعب:
- اتركوه فقد أرسلنا سيدنا طبرق.
ازداد عنق الكعب طولاً، وقال:
- ماذا رأيت يا سالم؟
فأجابه:
- (لحقني، لحقوني، شردت، كان والله كثير اه، ستر الله)
لهجة سالم لم تساعد غير العرب على الفهم، وامتعض جودت، وغرق يعقوب في هراء الكعب حتى أذنيه، وبدأنا طريق العودة وكل منا لديه قصة ليرويها، لم يتوقف الكعب عن الابتسام لما حققه من نصر عظيم، ولم أتوقف عن الابتسام لأني تغوطت على نصره....
<<<<<<<<<نهاية الحلقة 38>>>>>>>>>>
Comments