top of page
صورة الكاتب

جرة ذهب -الحلقة السابعة والثلاثون

تاريخ التحديث: ٢٨ مايو ٢٠١٨


كان الجو معتدلاً، وحين غادرتنا الشمس هبت علينا رياح عاتية كادت تقتلع خيامنا، ودمدمة الرعد صمت آذاننا، وسنا البرق كاد يحرق متاعنا، ثم هطل المطر بغزاره ولم يتوقف حتى منتصف الليل، ولما هدأت الأجواء غططت في نوم عميق بعدما أخفيت كل جسدي بلحاف ليقيني قطرات الماء التي تسربت من سقف الخيمة المُثقَّب، وقبل بزوغ الفجر أفقت على ضجيج وخرجت لاستطلاع الأمر وأول ما وقعت عليه عيناي كان سالم وبجواره إيليا الأمهق يسيران جنبًا إلى جنب ويتجهان شرق خيمتي، أفرحني أنه تعافى ولحقتُ بهما إلى الخيمة التي دخلاها، وفاجئني ما رأيت وكان لابد أن أفرك عيني عدَّةَ مراتٍ، أمامي اثنان من إيليا، أحدهما نائم، والآخر يجلس بجواره يبكي، وبعدما عجز عن عقلي عن التفسير بدأتْ تتضح الفوارق بين كليهما، الأمهق الباكي ممتلئ الجسم، وحواجبه البيضاء أكثر كثافة، وعمره ضعف عمر إيليا النائم، وبعدما أدركتُ أنه والده نطق سالم وقال:

- هذا أبوه لإيليا يا عزيز.

التفت إليَّ الأمهق الكبير ومد يده وصافحني قائلاً:

- شكرا يا عزيز لقد أخبرني سالم بأنك اعتنيت بابني وأنك الوحيد الذي تعرف ما أصابه.

لم أفهم بأي لغة تواصل معه سالم ولكن لا عجب فهذا الأبله فاجأني سابقا حينما اكتشفت أنه الوحيد الذي تواصل مع الأمهق الصغير. كان أبو إيليا يتحدث تركية ركيكة جدا ولكني تواصلت معه جيدًا؛ أخبرته أن ابنه صديقي وأني لم أتوان عن الاعتناء به ليل نهار، وتهربت من الإجابة عن سر ما أصابه وليس من الذكاء أن أخبره الحقيقة حتى لا يتخشب هو الآخر ويرقد بجوار ابنه واجد نفسي مجبرا على الاعتناء باثنين بدل واحد، وتهربت من الإجابة عن سر ما أصابه ولكنه أصر واستحلفني بكل غال وتوسل كي أخبره الحقيقة فصمت وفكرت ولم أجد الجواب الذي قد يقنعه، ونظر في عيني الصامتة، ورأيت في عينيه ذكاءً ودهاءً، طال صمتنا ثم نظر إلى سالم وبعربية ركيكة قال:

- (يا ابني اعتني مي اشربهوا) يا بني اجلب لي ماء لأشرب.

ولمَّا خرج سالم ليجلب الماء أمسك الأمهق بيدي وشد عليها وكرر وعدي أن يبقى كُلَّ ما سأخبره به سِرًا، ونظر إليَّ بعينين متوسلتين تفصحان عن حاجته لمعرفة ما أصاب ولده، وأمام عاطفة الأب الحزين، ورغبتي في اكتسابِ حليفٍ آخر رأيتُ ألا ضرار إن أخبرته طالمَا أنه سيكون سرًا، ولكن عليَّ أن أتوخى الحذر مع رجل ظهر فجأة من العدم، فقلتُ له وتعمدت أن يفهم عكس ما أقول:

- صدقني من الأفضل لك أن تؤمن بأن ابنك سقط على الأرض، أو أصابه مرض مفاجئ، وربما خاف من نباح الكلاب، وألا تبحث عن أسباب أخرى ربما لا يكون لها وجود.

تحدَّث مَعِي طَوِيلاً، وكنتُ صَبُورًا في سماعه حتى أفرغَ كُلَّ ما في جعبته؛ علمت أن لسانه ثقيل في نطق العربية والتركية ولكنه يفهمهما جيدا، وأنه من أصل ألباني، امتهن فن النقش على الحجر، وعمل في إسطنبول، وتعاقد للعمل في القدس لأكثر مِنْ نصف عام، وبالإغراء والتهديد وجد نفسه واقفًا أمام اليوزباشي شكيب الذي أرسله لاحقًا إلى القافلة، وحظُّه التَّعِس جَعَله يصر على أن يرافقه ابنه إيليا الذي امتهن هذا الفن ليساعده.

وحين انتهى وعدته أنِّى سأخبره قريبًا بالسر الكامن وراء ما حدث لابنه، ثم سألته عن كيفيةِ وصوله مُخيمنا فأخبرني أنه عبر النهر مع الفوج الأول للقافلة فسألته وصف بعض الأشخاص المرافقين لها، ولمَّا وصف وأصاب خفق قلبي وأمطرته بالعديد من الأسئلة حول روهان بيك، ووصفته مُشيرًا إلى شاربه الفضي الكبير الذي يميزه، ولمَّا نفى رؤيته زادني حزنًا وهممتُ بالانصراف، وقبل مُغادرتي استوقفني ليسألني عن الوقت الذي مضى على إيليا بغير طعام، كنت في عجلة من أمري ولم أفطن أن معظم من بالقافلة قد ضاعت منهم الأيام، وجوابي ناقَض ما أتظاهر به من غباء فقلت له أثناء خروجي:

- منذ مساء الأربعاء حتى يومنا هذا لم يأكل ولم يشرب.

الشمس لم تشرق بعد، والكثير من الدواب كانت تتجول حول برك المياه التي صنعتها الأمطار بين الخيام، والوجوه التي أراها لا أعرف منها أحدا، اقتربت من أحدهم وسألته عن صاحب الشارب الكبير، فأخبرتني عيناه قبل لسانه بأنه يجهله، أطوف مسرعًا أبحث في كل الوجوه، أين أنت يا روهان بيك؟! ولمحتُ من بعيد سالمًا ونعمه يتضاحكان مع شخص أطول منهما قامة، ومن نصف القبعة السوداء التي رماها على رأسه عرفت أنه جوهر الحكواتي بالرغم من طول لحيته، ومنْ غيره سيحمل لي الأخبار، وهو من نافسني وسبقني إلى كلِّ جديد! كرهته لأنه أبرع مني في التلصص وأكثر مني جرأةً، لم يمتلك جزءًا من ذاكرتي ولكنه كان بارعا في تحويل العدو إلى صديق حميم، ولطالما حسدته على شاربه الممتلئ وقامته الطويلة، ولم أحسده على عينيه الصغيرتين وأنفه الكبير، كان يعمل عند تاجر دواب، وقاد قطيعًا منها ليسلمه للمعسكر بعد شرائه، وعلق بالقافلة كالبقية، عندما قابلته للمرة الأولى نظر في ربطة العنق التي حرصتُ على ارتدائها، وتعجب من حديثي عن نفسي بأني عالم الآثار الكبير وأيقن بأنني أبله قبل تقمصي لشخصية سانتور.

اقتربت منه فأسرع وحضنني، وقال:

- (عزيز باشا والله العظيم اشتقتلك! شو هذا يخرب بيتك طولان ونصحان!)

لم يكن لدي الرغبة لأرد على سخريته فسألته عن روهان بيك، استغرب كثيرا من سؤالي قائلاً:

- (الختيار معكم مش معنا)

لم أستدل من رده على سخرية، وأمام إلحاحي في تكرار السؤال أقسم الأيمان بأن روهان لم يرافقْ القافلة، شعرتُ بخيبة أمل وكنت أرغب في التوجه إلى النهر لعل الأفواج الأخرى تحمل أخبارا مختلفة!

لم أجرؤ على مخالفة الأوامر وتجاوز حدود المخيم، ولم أكن لأعرض حياتي للخطر من أجل أحد ولو كان روهان بيك، وسرعان ما أطلَّ الفوج الثاني من بين الأشجار قادما من النهر، جمالٌ وبغالٌ وخدم وحمالين، وكان برفقتهم الملط المخنث، وقد ضاعت هيئته النسائية واكتست ثيابه طبقة من الوحل أنبأتْ عن وقوعه في أحد الحفر.

أشرقت الشمس ونشرتْ نورَها وتجمع الماكثون لاستقبال الوافدين، وحاجتي في السؤال عن روهان دفعتني لاستقبال الملط، وما إن راني حتى هرع إليّ وأخذ يعانقني ويقبلني باشتياق الحبيب الظمآن، فاحمرت وجنتاي خجلا مما أثاره نحوي من شبهات، وكنت أعتقد أن الوحل الذي أخفى تبهرجه وثيابه البراقة سيقف حائلاً عن معانقتي، ولكنه جذبني إليه بقوة، ولم أجد سبيلا للخلاص من عناقه، وكل ما كنت أخشاه أن يبدأ في تقبيل فمي، فهو لم يكترث للعيون التي تراقب وتبتسم في سخرية.

توقف عن العناق بعدما كساني وحلاً، وقبل سؤالي عن روهان طلب اصطحابه إلى مكان الماء ليغتسل، هذا اللعين الذي لم يتوقف يوما عن الثرثرة كان يجيد لُعبة الكلمات والتشويق، ومن بين كل خمسة أسئلة كان يجيب على سؤال باقتضاب شديد، ولمَّا بدأ يزيل الوحل عن جسده قال:

- هل تقصد العجوز صاحب الشارب الكبير؟

- نعم.

- لم أره، ولو رافقنا لرأيته.

انتهى من إزالة الوحل، وتركني ليتجول في الخيم وهو على يقين بأني سأتبعه، وقبل معاودة سؤالي عن روهان قاطعني قائلاً:

- اصبر يا عزيز، الجماعة في الطريق إلينا ويجب أن أعدَّ الخيام قبل وصوله.

سألته عن قصده بالــ"جماعة"، فضحك وقال:

- (الباشا الكبير الكبير يا حبي)

لم أشك في أنه المجهول الذي اعتاد على إخفاء وجهه، وبعد تفحص كل أرجاء المخيم وقع اختياره على الجانب الشمالي حيث تركنا الدواب ترعى في حرية، فأسررتُ في نفسي: اختيار مناسب يليق به وبسيده. تركني واجتمع بالخدم والعبيد الذين كانوا برفقته، واقترب مني سالم ونعمه اللذان لم يتوقفا عن تتبعنا ولحق بهما جوهر وكأنهم جميعا يترقبون حدوث أمر غريب، ولم يخف عليّ ما دار في عقولهم المريضة، سألوني عمَّا يخطط له هذا المخنث في منطقة الدواب، فأخبرتهم بأنه ينتوي نصب الخيام لسيده، وفور سماع جوابي ابتعد جوهر مسرعا واختفى بين الخيام، وقصدنا الملط وأمر نعمه وسالم بعربية ركيكة:

- ( خدوا الهمير والبعال نوقلوها الى جنوب من هنا)

ولكنهما سخرا من مظهره ونعومة صوته وقهقها وتجاهلاه، وقبل ذهابهما علَّق نعمة:

- هيا يا سالم لنترك عزيز يحلب الناقة.

هذا الحقير الذي وعدني -فيما مضى- أن يطيعني ولا يسخر مني أبدًا مقابل أن أكتم سر الذهب الذي يخفيه في قربة الماء أطلق عليَّ لسانه السليط، ولن أغفر له حنثه في عهده...ابتسامة هادئة ارتسمت على شفتي الملط وقال:

- تعال يا عزيز ساعدنا ودعك من هؤلاء العرب.

فأخبرته أن يضرب الخيام في مكان آخر؛ لأن خيمة الشيخ طبرق في الجهة الجنوبية، ولن يسمح بنقل الدواب إلى هناك، لم يكترث الملط بما أخبرته وطلب من العبيد طرد الدواب، فابتعدتُ قبل أن تشيع الفوضى ولكنه أمسك بيدي وطلب مجالسته لحين إبعاد الدواب، فسألته عن حيان فلمعت عيناه وابتسم في خبث قائلاً:

- منْ يكون حيان؟

وعندما بدأت في وصفه قاطعني ضاحكًا، وقال:

- أنا أمازحك وأعرف حيان جيدا.

وعض على شفته السفلى وبدأ في وصفه متغزلاً في قوامه ووسامته، ويردد بين كل جملة وأخرى "نار...نار...!" أصابني الاشمئزاز من شذوذه، وتبجحه، وكلَّما انتقل إلى الحديث عمَّا حدث في الرحلة ولاحظ أنني أتابعه في شغف عاد ليثير جنوني بوصف قوام حيان، وعندما أحس نفاد صبري أخبرني أنه تشاجر مع أحد أفراد الفرق الخاصة وألحق به بعض الإصابات، وصمت ولم يكمل، فعاودت السؤال فأجاب:

- هرب يا حبيبي هرب.

انتظرت أن يكمل القصة، وانتقل إلى حديث آخر فاستفزني ذلك وتركته وقبل ابتعادي قال مُتخابثًا:

- ألا تريد أن تعرف ماذا حدث معه بعد هروبه؟

تسمرتْ قدماي وسألته:

- هل قُتل؟

فضحك قائلاً:

- ومَنْ يجرؤ على قتل حبيب الباشا الكبير!

وهنا لم أتمالك نفسي وقد أثار استغرابي، ولكنه أجابني وهو يغمز بعينيه ويمصمص بشفتيه:

- الباشا يحبه كثيرا وينام بأحضانه سرًا.

على الرغم من أسلوبه الماكر إلاَّ أنِّي تمنيتُ أن يكون في قوله شيء من الحقيقة، وأن حيان المغرور تحول إلى مالط آخر لسيده الباشا، كنت أود معرفة المزيد حول الباشا المجهول، ولكن الجواب أطل قادما من النهر يتبعه بقية القافلة، كان اللعين أبو سعد يمتطي حصانه وبجواره غجرية، ومن الجواد المرقط الذي امتطته علمتْ أنها لابد أن تكون المجهول الذي اعتاد إخفاء وجهه، فسألت الملط من تكون هذه المرأة فضحك وقال:

- هذا الباشا الكبير...الكبير.

تركني وهرع لاستقبالها، وابتسامة عريضة ارتسمت على شفتي جودت الذي لم يبعد عني عدة أمتار، وترجل أبو سعد عن حصانه وعانق جودت بحرارة تدل على علاقة وثيقة، ومن على صهوة الحصان المرقط ارتسمت على شفتي الغجرية ابتسامة مُصطنعة وقالت:

- كيف حالك يا جودت؟

فردَّ عليها بابتسامة مماثلة:

- أهلا فاطمة كيف حالك أنتِ أيضا، أتمنى أن يكون يعقوب قد اعتنى بك جيدا؟

اتسعت ابتسامتها وقالت:

- يعقوب خير أخ وصديق وقد بذل كل جهده لراحتي.

ضحك أبو سعد -يعقوب-وقال:

- لا تصدق هي التي اعتنت بي.

وشدت رسن المرقط ولكزته بقدمها، وقبل أن تستدير قالت:

- والآن ماذا أريد أكثر من ذلك وأنا برفقه جودت ويعقوب معا؟!

ابتسمتْ وتركتْهم، ونطقت شفتا أبي سعد أحرفًا لم أسمعها ولكني على يقين أنها شكلت كلمة (عاهرة)، تبادل الاثنان نظرات ساخرة وتأبط أحدهم ذراع الآخر وسارا تجاه الخيمة، أما فاطمة فقد نصبتْ هامتها فوق صهوة حصانها لتجول بين الخيام وخادمها الملط يسير بجانبها راجلا، وأنا أتبعهما مثل البقية وطبيلة يتبعني كظلي والكل يراقب اللبؤة الغجرية، ودون أن تكلف نفسها الترجل عن المرقط أخذت ترسم حدودا لتفصل الجزء الذي تم احتلاله من أجلها، وأمرتْ بحل عدة خيامٍ قريبةٍ؛ لتفصل خيامَها الخاصة عن بقية المخيم، وانطلق عبيدها يترأسهم الملط لتنظيف الساحة الواسعة المحيطة بخيامها، ولم يكلفوا أنفسهم إلقاء القمامة بعيدا بل ألقوها بين خيامنا، وهكذا انشطر المخيم شطرين؛ النظيف الخاص بالغجرية، والمزبلة حيث نكون، ولمَّا لم يرق لي هذا الأمر أسررتُ أن أستثمر الكثير من السجائر والطعام لاحقا لتنظيف البقعة التي تخصني وجودت لتكون أكثر نظافة من البقعة التي تخص هذه الغجرية، وتكون المزبلة حيث خيام البقية.

فضولي يدفعني لاكتشاف أسرار فاطمة وخدمها، ولمَّا بشرني سالم بوصول بقية القافلة أسرعت لاستقبالهم وتعلقتُ بخيط رفيع من الأمل متمنيًا رؤية روهان! وأول مَنْ وقعت عليه عيناي كانت اللبؤة الناعمة ؛ تسير في كبرياء واثقة الخطى تحمل على ظهرها حقيبة جلدية صغيرة، وبيمناها أمسكت رسن حصان قادته خلفها فكان طوعًا لها، وتدلَّى من يدها اليسرى صندوقٌ خشبيٌّ صغيرٌ اكتستْ جوانبه طبقةً من جلدٍ ذي صِباغٍ أحمر، اكتست ملابسها طينًا لم يفلح في إخفاء مفاتنها، وفوق خُصل شعرها التي تناثرتْ في فوضى عارمة استكان الكثير من ورق الشجر الذي يأبى السقوط كلما داعبتْ نسائمُ الهواء شعرها الناعم، كافأتْ كل مَنْ في طريقها بابتسامة ساحرة، وأعلم أنها لن تخصني بواحدة فابتعدتُ عن طريقها لتجنب صفعة أخرى، فما زالت آثار صفعتها الماضية عالقة على وجهي، استترتُ خلف شجرة حتى ابتعدتْ رباب المصرية وعدت لأراقب الطريق في انتظار وصول البقية حتى أطلَّ عدة أشخاص من بينهم جمال الدين، وما عاد ذلك الشخص الذي تركته منذ أسابيع؛ طالت لحيته وتغيرتْ ملامحه وذبلت عيناه وضاع بريقهما، بدا شيخًا كبيرًا، وكأنني لم أقابله منذ سنوات، كان يسير ذليلا في خطواته انكسار، ويبدو أن الغرور الذي كان يرافقه تركه في مكان ما...تجنبته وخفق قلبي فجأة حينما رأيت خصمي اللدود حيان يسير في كبرياء، كنت أتمنى أن أراه منحنيا وأقصر قامة، ولكنه ازداد طولا، ما كرهتُ أحدًا وأحببته في الوقت ذاته سوى ذلك العنيد، ربما لأنه يستحق التقدير، وربما غيرتي هي السبب.

مشاعري المتناقضة قادتني لأندفع نحوه بغير وعي كطفلٍ صغيرٍ يسعى لملاقاةِ شقيقه الأكبر بعد طول فراق، كان بعيدًا وكانت عيناي معلقتين به وقدماي تسوقاني إليه؛ تدورا يمينًا وشمالاً حتى تقصر المسافة بيننا، وحين رآني مندفعا نحوه رفع عينيه عاليًا عدة مرات محذرًا إياي من الاقتراب، ومازلت مندفعًا راغبًا في أن ألقي بنفسي بين أحضانه بينما هو يكثر من الغمز والتحذير وقد ارتفعت ذراعي في الهواء لملاقاته حتى لمحت سلسلة حديدية تطوق ساقه اليمنى لتثقل حركته، يجرها خلفه فتحدث رنينًا يتبع خطاه، ولم يكن لدي ما أفعله ليبرر هرولتي المفاجئة سوى معانقة مَنْ يجاوره، وقد أوقعني حظي التعس في أحضان عبد تفوح منه روائح كريهة، عانقته متظاهرا بأني أعرفه، ووقف المسكين مذهولا من هذا العناق الحار، ولابد أنه سأل نفسه ألف مرة: من أكون؟! ولماذا أعانقه؟! سرت بجانبه وسألته عن حاله وأولاده وزوجته، ولم يرد على أسئلتي، ربما كان أخرسا، أو لم يفهم اللغة التي أتحدث بها، وربما حيرتُه أطبقتْ فمَه، تركته وأخذت معي رائحته الكريهة التي علقت بي جراء هذا العناق النَتن.

انزويت أراقب القادمين وقد بدا على الجميع أن عبور النهر لم يكن يسيرًا، ولم يكن روهان بينهم، أتلهف لرؤيته، ولابد أن أكون صبورًا فقد تجاوزتُ في الآونة الأخيرة كلَّ القواعد السانتورية وأثرتُ حولي الكثير من الشبهات.

الفوضى والأحداث المتلاحقة كانت سمةُ ذلك اليوم، حتى ذاكرتي الخارقة عجزتْ عن إعادة النظام إلى حياتي وفقدت السيطرة على كل شيء، طال عنق جودت أفندي ولمعت عيناه مع عودة أبي سعد، ومن رآه بالأمس لا يعرفه اليوم، لم أشعر بالرضا لطلبه أن أنتقل ومعي طبيلة إلى خيمة أخرى ليفسح المجال لأبي سعد كي يكون على مقربة منه، انتقلت وحرصت على أن اختار موقعا يبقيني قريبا منه، وكلفني هذا الكثير من السجائر والطعام، وحينما بدأت بإعداد مسكن أبي سعد ونقل أغراضه كان حريصا على مراقبتي، وكأني سأسرق شيئا، لم أحظَ بوده واهتمامه بالرغم من أن جودت لم يتوقف عن امتداحي، ودور المهرج الغبي لم يفلح معه، هذا الطويل الرفيع لا يضحك إلا على النكات التي يطلقها لسانه، وكان يتوقف عن الحديث فور دخولي ولم أجرؤ على أن أرخي أذني أو أتلصص في وجوده، لم يكن مهذبا في طريقتي أكله وكلامه، يبدو أقل ذكاءً من جودت، ومع هذا فشلت في سرقة ابتسامة أو لفتة احترام منه، وسرني حين عرفت لاحقا أنه يحب النوم كثيرا، ولم أكن مضطرا لرؤية عينيه الباردتين التي تخلو من أثر الحياة.

انتقلت الى خيمة الجبان جودت ونظفتها ولمعت أحذيته وكانت فرصة مواتية لالقاء نظرة خاطفة على ما كتب في يومياته:

- "فضَّل شكيب وكاظم أن ننتظر يعقوب وفاطمة لنعبر نهر الأردن معا بقافلة واحدة حتى يتوفر العدد الكافي لحراستنا، وخاصة بعدما وصلت برقية أعلمت شكيب بانطلاق فرقة مطاردة في أثرنا، اختبأنا بين الجبال بالقرب من أريحا في انتظار أن تنضم إلينا قافلة يعقوب، المكان الذي قبعنا فيه كان كئيبا وخانقا لم يكن يصل إليه الهواء، وفقدنا اثنين من العرب؛ أحدهما مات بمرض والآخر اختفى فجأة، وبعدما تبين أن يعقوب ومن معه سيتأخرون، وأن البحث عن العربي سيكلفنا الكثير من الجهد، وأننا لم نملك العدد الكافي لهذه المهمة قررنا عبور النهر، ولم يعد بصحبتنا من يكفي للسيطرة على هذا الكم الكبير من الدواب، فشيخنا المبارك قد نحر منهم الكثير ليشبع جنونه.
في طريقنا إلى نهر الأردن عبرنا شرق أريحا وشعرت بأني أحد مهربي إسطنبول الصغار؛ هؤلاء الذين حرصوا على قتل اقتصادنا ببطء شديد، تفاءلت خيرا متأملاً في أن أترك الموت خلف ظهري ولكن هيهات؛ فكل مكان نعبره يتوجب علينا أن نترك خلفنا جثة لتذكرنا، في طريقنا لعبور النهر مررنا بجوار بيت طين واكتشف رجالنا شابًا نام فيه ولم يزعجنا، ولكن كاظم قرر إزعاجه، وما كان بحاجة لمشورتي قبل أن يسرق حياته حتى لا يبوح بسرنا لأحد...أي حظ تعس قاد هذا الشاب لينام في هذا المكان! وأي جرم اقترفه! لم أقتله ولم آمر أحدا بفعلها، ولكن هل سأجرؤ على نفي مشاركتي في هذه الجرائم الشنعاء، كل ما يحيطني حولني شريكًا في هذه الجرائم، وكيف لا أكون قاتلاً وأنا لا أعترض، ولا أحرك ساكنًا! تهدف هذه القافلة إلى تمويل ثورة ضد حكم الجهل والتخلف، وفي كل يوم تقتل بريئًا، وها أنا أعبر نهر الأردن فوق جثة شاب لم يرتكب جُرمًا سوى أنه نام في طريق قافلتنا الملعونة.
خلعت عني كل همومي وتركتها غرب النهر، وعاد إليّ الأمان وسط حراسة أكثر من مئة جندي، وبدأت أستمتع بسحر المكان وعدت إلى قلمي لأبحث عن كلمات لوصف الأشجار والنوارس وهدير الماء بعيدا عن الذهب والموت، واكتملت فرحتي وأطل يعقوب خان؛ هكذا اعتدت على تسميته نسبةً إلى جنكيز خان، كم أحب هذا المشاغب! وكم اعتدنا -في صغرنا- على لعب القاضي والجلاد! لم يتنازل يوما عن حمل السيف من أجل أن يكون قاضيًا أو ملكا، حملتُ القلم وحمل السيف ومن كان يجرؤ على مخالفة أوامري ويعقوب إلى جواري.
حينما رأيت فاطمة أول ما خطر ببالي كيف استطاع يعقوب احتمال رفقة هذه اللعينة التي اقتحمت عالمنا من المجهول وتربعت في قلب الباشا وحولتنا إلى رجال مهمتهم حراستها وإخفاء أمرها عن الجميع، لم تحبني يوما ولم أحبها، وعندما ابتسمتُ لها وابتسمتْ لي همس يعقوب في أذني:
- يوما ما سيفيض صبري وسأطلق النار على رأسها.
ضحكتُ وقلت له:
- لن تجرؤ على أن تطلق رصاصة في قلب الباشا.
فرد ساخرا:
- إذًا سأطلق النار على رأسك ثم على رأسي ونرتاح منها معا".

<<<<<<<<<<<<نهاية الحلقة 37>>>>>>>>>>>



٠ تعليق

Comments


bottom of page