top of page
  • صورة الكاتب

جرة ذهب - الحلقة الرابعة والثلاثون

#جرة_ذهب_الحلقة_34 لم أتفاجأ حينما نطق القبر قائلاً: - فضحتني يا عزيز، وسنموت سويًا في يوم واحد. ابتسمتُ وأجبتُ عبد القادر الذي حرص على ترك فسحة له داخل قبر سلامة ليختبئ فيه: - لا تخف، الكبار مشغولون بالبحث عنك، والصغار سيعتقدون أني أدعو لسلامة بالرحمة والمغفرة. - لعنة الله عليك وكيف اكتشفتَ أمري؟ - حرصُك على بناء القبر لوحدك وإبعادك سالم ونعمة إضافة إلى الماء النظيف والتمور التي حملتها معك، وتلك كانت المرة الأولى التي رأيتك تهتم فيها بالطعام، وتواضعك الشديد وحبك البالغ للنظافة، وما كنت لتلفت انتباه أحد كلما اقتربتَ من الخيام، والكثير من الملاحظات الصغيرة، والآن حان الوقت لتكشف لي عن أسرارك. - لا توجد أسرار، اذهب ويكفيك ما اكتشفته. - يبدو أنك لا تستوعب أن لعبة إغماض العينين لن تجدي نفعًا هذه المرة، وأنت الميت وأنا الحي الذي يجلس على قبرك، هيا لا تهدر الوقت واكشف لي كل أسرارك. - وماذا تريد أن تعرف أيها اللعين. - لنبدأ بحليب الناقة. - الحليب ليس سرًا، إنه حليب أتان أيها الأحمق، حمارة، حمارة، أفهمت؟ بتقزز: - أسقيتني حليب حمارة يا عبد القادر؟! - وماذا تريد أن أسقيك؟ حليب ماعز يا عزيز؟! - وملابسك كيف لا تتسخ؟ - لدي عشرة أثواب أخفيها بخرج الحمار، وكلها متشابهة كلما اتسخت واحدة كنتُ أستبدلها بأختها على حين غفلة من الجميع. - وكيف تغمض عينيك وتمشي؟ - لو نظرت جيدًا لرأيت أني لم أغمضهما تمامًا. شعرت أن أسئلتي سخيفة لا تليق إلا بطفل، فسألته: - أخبرني كيف سرقت الذهب؟ - هذا أمر سهل، الكل بإمكانه السرقة بعد التسلل ودخول الخيمة من أطرافها، ولكن الصعب هو ألا يلاحظ أحمق مثلك. - أنت محقٌ، الهروب بالذهب أصعب من سرقته، وأخبرني متى سرقت الذهب ولماذا اخترت هذا المكان؟ - الذهب...كان بإمكاني سرقته في أي وقت، ولكنِّي فضَّلتُ الانتظار حتى تفرغ عدة صناديق، وكان بإمكاني الانتظار أكثر فلم أكن بعجلة من أمري، وموت سلامة المفاجئ وفَّر المكان والوقت المناسبين، والآن ابتعد عن القبر قبل أن تتسبب بموتي وموتك، اذهب يا عزيز. - موتك أنت فقط يا صديقي. - عزيز اذهب الآن، إن أُكتشف أمري سأحرص على كشف أمرك أيضا، أتعتقد أني لم أراقب كل ألاعيبك بَدءا بالفرس وانتهاءً ببصقك في طعام الشيخ وفتاته الحسناء التي لم تكف عن مراقبتها والتحرش بها! صعقني واستطاع السيطرة على الموقف، ولكني ما كنت لأُظهر ضعفي، فكيف يُعقل أن يسيطر عليَّ من داخل قبر! حرصتُ على التحكم بنبرات صوتي لأكتِّم خوفي، وقلت: - وهل تعتقد أن من الحكمة أن أتركك تهرب وتفسد كل خططي. - أي خطط أيها الأحمق! ستموتون جميعا، لن ينجُ منكم أحد، اذهب وخطط كما تشاء ودعني وشأني. - وهل تظن أنك ستنجو؟ - إن لم تفضح أمري وتموت معي سأنجو، لن يهدروا وقتهم في البحث، فأنا الوحيد بينكم الذي لا يعرف شيئا. لقد صدق فعلا وكان حكيما بإغلاق عينيه طوال الرحلة، وبإلحاح شديد طلبت منه أن يروي لي قصة انضمامه إلى القافلة، ولم يكن أمامه مفرًا فأخبرني، وبعد سماعها كان لابد من محاولة أخيرة معه، قبل أن أتركه لثرائه الفاحش، فقلت: - أريد منك أن تترك ذهبا في قبر سلامة، فقد مات وهو يحلم به، وأنا أريده أن يأخذ حصته حيا أو ميتا. ضحك وقال: - اقسم بالله أنك أبله. - أَقْسِم أن تفعل ذلك، وإلا لن أبتعد عن القبر، وسأفضحك. - أُقسم بالله العلي العظيم أن أترك بعض الذهب في قبر سلامة. - أَقسِم أن تترك نصف ما سرقت لسلامة. - لن أترك أكثر من حفنة ذهب. - لن أذهب حتى تُقسم أن تترك له النصف. - وما حاجة ميت لأترك له نصف ما أملك؟! - لقد قلتها بلسانك، وما حاجة ميت في الذهب؟ إذًا أَقْسِم اليمين لتكون لك حاجة في نصف ما سرقت. - سأترك عشر حفنات من الذهب، وإن لم يعجبك اذهب وأخبرهم عن مكاني ليقتلوننا معا. حقيقةً لو لم يوافق على ترك قطعة واحدة ما كنت لأغامر باكتشاف أمره وتعريض حياتي للخطر، ولكني حرصت على ألا يشعر بذلك وقلت له: - تعال لنتفق، اترك لسلامة خمسة آلاف قطعة، وأَقسِم على ذلك، وسأذهب في حال سبيلي. رد عليَّ مستفزا وقال: - أقسم بالله أنك أغرب أبله رأيته في حياتي لتعتقد أني في وضع سيسمح لي بالعد والتقسيم! لأوفي يميني سأملأ كفي عشر مرات بالذهب، (والله يطرح البركة). - كفك صغير يا عبد القادر، ولن يصل العدد الى ألف وخمسمائة قطعة. - لا حول ولا قوه إلا بالله، أقسم بالله أن أترك له عشرين حفنة، اذهب يا عزيز. - أوافق شريطة أن تقسم اليمين على نيتي، ولا تضيق كفك، بل تملأ وسعه بالكثير من الذهب. أقسم عبد القادر اليمين، وكرره أكثر من مرة، وذكرته بأنه يرقد بجوار ميت، ولن تحل عليه البركة إن حنث في يمينه، ثم ودعته قائلاً: - ليطرح لك الله البركة فيما سرقتَ أيها اللص المبارك. عدت ويعتصرني الألم على ما ضاع من ذهبي، وقررت عند عودتي أن أمر على قبر سلامة لآخذ ما تركه فيه عبد القادر إذا لم يحنث في يمينه، وربما حينها أعيد النظر في فتح قبر رشيد، عدت أدراجي واستقبلني سالم، ويبدو أنه الوحيد الذي لا يطيق فراقي، وفاجأني عند سؤاله: - مع مَنْ كنت تتحدث يا عزيز؟ لم يخطر ببالي حينها إلا ما قاله روهان يوما عندما اكتشفت سرا أخفاه عني: - هل تعلم يا عزيز إن أخطر المؤامرات وأذكاها عبر التاريخ تم كشفها على يد أحمق؟ وفي كتابي الذي سأنتهي من كتابته يوما سأذكر أنه يتوجب الحرص من الحمقى أكثر من الأذكياء حين يتم إخفاء الأسرار. ابتسمتُ وقتها، ولم أدرك قصده إلا الآن. أجبت سالم: - لقد كنت أقرأ الفاتحة على روح سلامة. هز أكتافه أكثر من مرة وقال: - لا أصدقك، لقد كنت تتحدث مع أحد. يستحيلُ الوصول إلى نتيجة مع سالم، ولم أرغب في اكتشاف ما يدور في عقله، ولا في إطالة الحديث معه، فحسمت الموقف بإجباره على تغيير الحديث، وقبيل العصر عاد جميع الباحثين عن الهارب، وتجادلوا لأكثر من ساعة حول قرارهم القادم. للمرة الأولى منذ عرفت جودت أفندي لم أجد تفسيرا عقلانيا لما قام به؛ اقترب مني وسألني عن عبد القادر، وعن تصرفاته في الساعات الأخيرة، مصرِّحًا بأني أستيقظ قبل الجميع لأشرف على توزيع المؤن، فارتبتُ كثيرا وشعرت بالخوف، واحترتُ في إجابته، وتعمدت إخباره بأن عبد القادر لم يتوقف عن البكاء على سلامة، وأعطى حصته من الطعام لطبيلة...قصدتُ بذلك أن أدفعه للشك بأن حزنه على سلامة هو السبب الأوحد وراء هربه، فبدا عليه الارتياح لِمَا سمعه وعاد إلى اجتماعه مع الدليل والكعب وتركني بصحبة الكثير من الأسئلة؛ أيعقل أنه لم يلاحظ أن عبد القادر كان وحيدًا لا أصدقاء له! ولماذا يسألني وهو أدرى الجميع بحُمقي! هل شكَّ في شيء! أم أنه ما عاد يثق في غيري ولو كنتُ أبلهًا في نظره! انفض اجتماع الثلاثة، ورحل الدليل وطلب منا جودت أن نريح الدواب وننصب الخيام مرة أخرى، ساعات مرت ومازال عبد القادر قابعًا في قبر سلامة، ولم يهدأ عقلي عن طرح التساؤلات المُقلقة: إلى متى سيصمد عبد القادر في قبر سلامة؟ ترى، ماذا سيحدث إن فُضح أمره؟ ساعات مرت وأنا أراقب القبر في حذر شديد، وأرتعب كلَّما تحرَّك جودت أو نظر الكعب. غربتْ شمسُ الثلاثاء السادس من أكتوبر وعظُم خوفي وأحسست ببرودة نصل خنجر الكعب فوق عنقي، وخُيِّل إليَّ أنه يرقص فوق جثتي وينشد الـ"قاقا باقا"، أعلم أن الخوف لن يفارقني، وأن الراحة لن تسكن قلبي إلا بعد رحيلنا عن القبر، وقتها سأوقن بأنَّ سرَّ عبد القادر لم يخرج من قبر سلامة؛ إنَّ جودت لا يكشف عن نواياه، ولا يتعجل في اتخاذ قراراته، لم أنسَ كيف صبر وتجَاهَل الجيوبَ الملآنة بالذهب حتى اعتقد الجميع أنه لا يهتم بما سرقوه، وفي الوقت والمكان المناسبين فَعَلَ ما لم يطرقْ بالَ أحد. لم أستطع فهم التغير الذي طرأ على الخطط، وتساءلت: كم يبعد نهر الأردن عنَّا؛ ساعة، يوم أم أكثر؟! متى سنرحل؟ وعادتْ لي الحياة بعدما أرسل جودت في طلبي، وذهبتُ إليه وملأت جرة كبيرة ذهبًا ولم أرَ منه ما يشير إلى تغيُّر، أخرج من جيبه علبة سجائر فاخرة ماركة موراتي، ودفع لي سيجارة، وأشعل واحدة، وضحك على الطريقة التي نفثت بها الدخان، ثم قال: - لا يبدو لي أنك مدخن؟ فأجبته: - لا يا سيدي ولكني سأتعلمه. ابتسم وقال: - لا تفعل ذلك يا عزيز، فهذه لعنة نفثها هندي في وجه برتغالي غازٍ، وأهداها لفرنسي طموح، وسبقه باستثمارها إنكليزي خبيث، ويوما ما لن يتعاطها غيرنا. فقلت محاولاً استعادة دور المهرج: - ولكن يا سيدي لقد أخبرني روهان بيك أن مخترعها هو مولانا السلطان. فرد علي: - نعم الهندي سرقها من السلطان! قم وأحضر لي زجاجة نبيذ من التي اخترعها مولاك. أشار إلى صندوق النبيذ، فأحضرت له زجاجة، وحرصت على اتباع طقوس تقديم النبيذ التي تعلمتها من السيدة الراقية "نازلي هانم" التي لم تكتشف يوما أن زوجها روهان الخبيث كان يستبدل النبيذ الفاخر بآخر رخيص قبل كُلِّ حفلةٍ تقيمها في منزلها، وتدعو إليها كبار الباشوات، كان الثعلب يهددني وينذرني البوح لها بجرائمه، ويهمس في أذني: - ضيوفنا الباشوات بارعون في تذوق الأناقة، ولا يميزون بين نبيذ معتق منذ ألف عام، وشاي مخمر منذ الأمس، يليق بهم احتساء النبيذ الرخيص في كوب فاخر، ولن يضرني احتساء النبيذ الفاخر ولو في حذاء. سكبت النبيذ وقدمته في أناقة، فرَاق ذلك جودت كثيرا، وطلب مني أن أحضر كوبًا وأشاركه الشراب، وبالرغم من مرارة طعمه إلا أنه كان أقل حدة من العرق الذي جربته مرة واحدة ولم أكررها. ضحك وقال: - لا يبدو لي أنك احتسيت النبيذ من قبل؟ فأجبته: - لا يا سيدي أنا أفضل العرق على النبيذ. فقال: - اذهب إلى الصندوق واجلب زجاجة عرق. لم يكن أمامي إلا أن أجاريه، ولاحظ إغماض عيني وتشنج عضلات وجهي كلما اقترب الكوب من فمي فضحك بأعلى صوته وقال: - كم مرة احتسيت الخمور في حياتك يا عزيز؟ فقلت: - كثيرا كثيرا يا سيدي. فقال: - وكم مرة الـ "كثيرا كثيرا" هذا؟ فقلت: - مرة واحدة يا سيدي، تذوقته في عيد زواج روهان ونازلي هانم. ضحك كثيرا وأجبرني على مشاركته، وشعرت بدوار ولكني لم أفقد عقلي، وكنت بارعا في حواري، وكلما ضحك تبدد خوفي وأيقنت بعدم شكِّه في أمر عبد القادر، وحين ثمل وملَّ أمرني بالرحيل لسؤال طبرق عن رغبته في دفن الذهب هذه الليلة، فذهبتُ ثم عدتُ إليه بعدما بحثتُ عن طبرق ولم أجده، فسأل: - وهل فتاته موجودة أم اختفت هي الأخرى؟ فأجبته : -لا أثر لها. فقال: - سيعود قريبا لابد أنه قد ذهب ليريها عفريته الأسود. ورغم ما أتمتع به من ذكاء إلا انه استغرقني وقت لأفهم ما قصده، صرفني وخرجتُ من خيمته فرأيت البغال ترقص والجمال تغني، وناديت على سالم وذهبنا إلى خيمتي الراقية وطلبت منه أن يجلس على الأرض، فرفض في بادئ الأمر، ولكني رشوته فوافق وجلست على أحد الصناديق التي فرغت من الذهب، وجئت بعلبة سجائر، وأشعلت واحدة وأعطيت سالم واحدة ووضعت ساقا فوق أخرى وقلت له: - لا يبدو لي أنك مدخن يا سالم. - (أنا بدخن التتن وعمري عشر سنين) - لا تفعل يا سالم هذه لعنة بصقها هندي في وجه فرنسي وباعها إنكليزي لنا، هيا اذهب وأحضر لي زجاجة نبيذ من الصندوق وقدمها لي برقي وأحضر كوبا وتعال لتشرب معي. لم يغادر مكانه، وربما تساءل: ما النبيذ؟ ومن أين أحضره؟ فتنازلت عن طلبي، واكتفيت بأن يحضر الماء، وأجبرته على أن يشرب معي، وسألته: - أخبرني يا سالم كم مرة احتسيت النبيذ في حياتك؟ - (وسو هذا الببيذ؟) فصرخت فيه: - أيها الأبله هذا الذي تشربه الآن. فنظر في الكوب وقال: - (قصدك المي؟ أنا بشرب كل يوم لما بعطش) فقلت له: - أنت تقصد كثيرا كثيرا، والآن أخبرني: كم هذا الكثير؟ صمت سالم ولم يجبني فقلت: - هيا قم واذهب إلى الشيخ طبرق واسأله عن رغبته في دفن الذهب هذه الليلة. تجاهل طلبي ولم يتحرك فقلت له: - أخبرني يا سالم، ما رأيك هل تفضل التحالف مع ألمانيا أم إنكلترا؟ ولو كنت أنت السلطان هل ستضاجع الجواري أم ستدخن السجائر؟ صمت سالم وأفسد عليَّ متعتي لابد أنه اعتقد أني قد مسني الجنون، صرفته بعدما شعرت بالملل، وقلت له: - هيا اذهب واحضر لي بعض الجرار واملأها ذهبًا، ثم نظف الخيمة واذهب للاعتناء بفرسي الجميلة. <<<<<<<نهاية الحلقة 34>>>>>>



٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page