top of page
  • صورة الكاتب

جرة ذهب -الحلقة الثلاثون

تاريخ التحديث: ٣ مايو ٢٠١٨

واقعة البغل أعيتنا وأهلكت طاقاتنا، ولكن الموقع وقانا حرارة الشمس، وساعدنا على تحمل العطش، لم ننصب الخيام، وأنزلنا حمولة الدواب لترتاح، وتركنا جودت والكعب وذهبا للبحث عن مخرج لهذا المأزق، وتساءلت أين الفرق الخاصة التي تحرسنا خفيةً؟! هل ضلَّت الطريق مثلنا؟ أم أن الكعب اللعين بتجاهله تعليمات الدليل واختياره طريق أخرى قد أوقع فوضى بالخطط المتفق عليها! ولماذا تعمد جودت غض البصر عن الجيوب التي امتلأت بالذهب؟!

طبيلة مازال يحمل ما جمعه من ذهب ولا يخفيه، بل ينقله من يد إلى أخرى ليرى إن كان سيلمع من جديد، بيبرس مستلقٍ على الأرض يتألم بشدة ولا يشعر بما يدور حوله، ولا يبدو أن الطريقة التي قام بها الكعب لتجبير ساقه ستفلح.

نعناعتي الحنونة تجلس بجواره وتحاول التخفيف من آلامه، ولا تدري ماذا يجب أن تفعل، فتارة تضع يدها على رأسه وتارة على ساقه، اللعنة على هذا الخادم الحقير، حتى وهو عاجز نجح بإبعاد نعناعة عني! ذهبت لأطمئن على حاله وقلبي يكاد يتمزق إشفاقا عليه، وعيناي تفيض حزنًا على حاله، وإن زدتُ في تقمص هذا الدور الحاني لانهمرت دموعي، وفور رؤيتها لي وضعت السبابة على شفتيها، ففهمت أنها لا تريد إيقاظ الحقير الذي يبدو أنه قد أُغميَ عليه، ولكنها اعتقدته نائمًا...ابتعدنا حتى لا نزعجه، ثم قالت والحزن يعتصرها:

- أرأيت ما حدث لبيبرس؟

بتعاطف شديد:

- سيشفى بإذن الله.

وسرًا أقول: "لا شفاه الله"، ثم قالت وعيناها تترقرقُ لؤلؤًا:

- ساقه مصابة بعدة كسور، هل تستطيع أن تأخذه إلى الطبيب يا عزيز؟

هذه الساذجة تتحدث وكأني من يقرر، وكانت فرصة لاستغلال الحالة النفسية التي فيها ودفعها للثرثرة قليلا، فقلت لها:

- لا تخافي سمو الأمير طبرق قادر على كل شيء، وسيشفيه ويعيده أفضل من السابق.

فقالت:

- يا رب، يا رب، أتمنى أن يعود سمو الأمير بسرعة ليشفيه.

ليس من الحكمة أن أسألها مباشرة عن سبب تسميتها للكعب بالأمير، فقلت لها:

- سيعود جلالة الملك طبرق بإذن الله.

فقالت ببراءة الاطفال:

- لا، هو حاليا أمير، ولكنه سيتوج ملكًا بعد أن يقضي على أعدائه ويستعيد العرش.

أسعدني أنها بدأت تكشف الأسرار، فجاريتها:

- نصر الله الأمير طبرق على أعدائه وعلى أهل مصر.

ويبدو أن الدعوة لم ترق لها فقالت:

- أهل مصر ليسوا أعداءه، إنما الجن الأحمر الأشرار الذين قتلوا والده الملك، إلعنهم هم.

فقلت:

- لعنة الله على الجن الأحمر ورحمة الله على جلالة الملك والد الأمير طبرق.

صمتتْ ولم تنطق، فبادرتُها:

- هل الأمير طبرق من الجان؟

فالتفتت حولها وكأنها تخشى أن يسمعنا أحد، وهمست:

- ولكن لا تخبر أحدا، هو من الجان يختبئ بجسد بشر حتى يستعيد العرش.

وهنا تقريبا استطعت الإمساك بطرف الخيط لهذه العلاقة الشاذة التي تجمعهما، وسألتها:

- ولكن لماذا اختار سمو الأمير هذا الجسد المُسن؟

فالتفتتْ أكثر من مرة، ثم قالت:

- هو أجمل أمراء الجان ولا أحد يستطيع رؤيته غيري واختار هذا الجسد حتى لا يشكَّ فيه أحد...

- وهل رأيتِ هذا الأمير الوسيم ليلاً أم نهارًا؟

- بإمكاني رؤيته متى أريد، وحين يتوَّج لن يتغير شكله، وسيتزوجني وسأصبح ملكة.

هنا شعرت بأنِّي داخل إحدى حكايات ألف ليلة وليلة، فتمالكت نفسي مقاومًا ضحكي، ثم سألتها:

- هل ترينه وعيناك مغلقتان أم مفتوحتان؟

- وهي مغلقة أراه أكثر وضوحًا.

فقلتُ سرًا "وستريني وسيما طويلا مفتول العضلات إن أغلقت عينيك أيتها البلهاء"، غلبتني الحيرة...كيف يمكنني انتشال هذه الساذجة من الأوهام التي زرعها في رأسها هذا اللعين، ولكني فضلت أن أثير عواطفها، لأكون أكثر إحاطةً بطبيعة علاقتها بهذا المسخ.

الجميع بحاجة للحديث عن قصته، وبخاصة الجانب الدرامي والرومانسي منها، وكل ما أحتاجه هو أن أتفوه بما يلهب مشاعر هذه الصغيرة، فأفتح مخرجًا لأسرار غائرة في سراديب نفسها البريئة، ثم أنصت جيدًا...امتدحتُه بكل الصفات التي تثير عواطفها، وكنت حذرا في كل كلمة قد تتسبب في ذبحي لاحقا، وكلما انتابها الصمت عاودت أنصب شَرَكًا حقيرًا من جديد...رَوَت قصتها مع كعب الحذاء منذ كان عمرها أربعة عشر عاما...وليتني لم أفعل! لعنت نفسي ألف مرة، فما كنت بحاجة لأسمع قصتها المأساوية، وتجمدت الكلمات في حلقي ولم أجد سوى الصمت.

عاد الكعب وجودت، ولا يبدو على مُحَيَّاهم السرور، قضينا بقية النهار بلا ماء ولا طعام، وتحركنا عند الغروب، وكان واضحا أننا نسير بلا طريق، تأخذنا أقدامنا صعودا من الشرق إلى الغرب، عكس ما فعلناه بالأمس، ولا منطق في هذا الأمر، ولم يمضِ الكثير من الوقت حتى أدركت أنهم بحاجة لمرتفع يمكننا من تحديد وجهتنا، وربما لنسهل على الدليل التائه العثور علينا.

احتاج بلوغ القافلة لمرتفع أكثر من ثلاث ساعات، بينما يحتاج الفرد الواحد أقل من ساعة سائرًا على قدميه...أهدرنا الكثير من الوقت وأضنانا التعب في بحثنا عن طريق تفضي بنا إلى مرتفع، وحينما تمكنا من ذلك باغتتنا الشمس...كان إشراقها ساحرا، إنها تسكن وتنام وتصحو خلف تلك الجبال القاحلة.

وحدنا في العراء بلا مخبأ يسترنا، وبلا ظل يقينا حرارة الشمس التي ستتفنن في حرق الأمهق بعد ساعات، ثم تحرقنا بعده...اختفت علامات الدليل، ولم يكن أمام جودت سوى خيارين؛ الأول هو نصب الخيام في هذا المكان المكشوف على مرأى من الجميع، والثاني أن ننزلق الى أحد الوديان...لم نتحرك من مكاننا آملين عودة الدليل، ومازالت الشمس باردة ولكنها بدأت بإزعاج أعيننا إذا استقبلت الشرق، جفَّت الحلوق وأصابتها غُصَّةٌ، ولم يكن جودت والكعب أفضل حالا منا، بعدما تيبست قِربهم، فأخذ الكعب يصرخ:

- أين هم؟ أين هو ذاك الحقير؟ لقد تركنا له ألف علامة ليجدنا؟

أحدثه سرًا:

- أين خُدَّامك من الجن يا (ولد السقيطة!) وأين نفوذك يا أمير الهراء! ولماذا لا ترقص رقصة الـ "القاقا باقا" لينفجر ينبوع ماء تحت قدميك فيشهد لك الجميع حتى أنا وجودت!

- ليتك كنت كما تدعي فتنقذنا من الموت، وتكفر عن ذنوبك من ذبح الأبرياء.

جودت يتأمل خارطة يحملها، لعلها تساعده في الاهتداء لطريق، والكعب يختطفها في وقاحة، ثم ينظر فيها صارخًا:

- أين جدول الماء؟

تساءلت أنا "أين الفرق الخاصة التي تحرسنا؟!" في مثل هذا الظرف لو كان رشيد وخلدون أحياء، وسلامة بصحة جيدة، لتمكنا من السيطرة على القافلة وسرقتها بالكامل، بيبرس اللعين أرهقنا بحمله، وصديقه الوفي سعدون ابتعد عنه، ولم يكترث لأمره سوى نعناعتي، وبسببها أكترث أنا أيضا، أما سلامة الذي اشتد به المرض فقد كان محبوبا من قبل الجميع، ولم يبخلوا عليه بالعناية، حتى أن عبد القادر دأب على سقيه من الحليب العجيب...لم يتوقف بحثي عن الناقة الحلوب...قد يطول بحثي ولكني سأجدها.

طبيلة كان سعيدا حين اكتشف أن الشمس تشرق من بين كفيه، ولم يتوقف عن اللعب، وقد حارتْ قطع الذهب بين يديه على مرأى من الجميع، وجودت ينظر ويبتسم، فاطمأن البقية آملين ألا يكترث أحد بما سرقوه، وهنا تيقنت أن موقفه أضعف من أن يتخذ قرارًا بشأن هؤلاء اللصوص؛ سارقي ذهبه، بل ذهبي المستقبلي.

بقدر ما تكون النُّدرة بقدر تكون الأهمية، وهنا لم يكن الذهب نادرًا، بل أصبح في متناول الجميع، ولم يندر سوى الماء...قطرة ماء تساوي الحياة، والحياة أغلى من كنوز الأرض جميعها؛ يتكرر الأمر ثانيةً في هذه الرحلة الملعونة، وتتكرر محاولاتي في توطيد علاقتي بجودت...أخرجت قربة ماء ووعاء وأخفيتهما بين ملابسي...أترقب عيني جودت التائهتين حتى صادفاني، فأسرعت بجر نجمة وابتعدت بها عن الجميع لمسافة تثير الشبهات، فلحق بي مذعورا، وأمسك بكتفي حتى آلمني، وقال:

- إلى أين تعتقد أنك ذاهب أيها الأحمق؟!

تبرمت وطاوعتني عيناي فترقرقت بالدموع، وأخرجت القِربة والوعاء، وقلت له:

- نجمة تكاد تموت عطشًا وأخذتها لأسقيها الماء.

رمقني بنظرة شك، وقال:

- ولماذا لم تفعل هذا حيث كانت؟ ومن أين جئت بالماء؟

- أصبتُ الهدف وقلت:

- لا أحب أن تشرب نجمة من ماء الدواب، حتى لا تمرض، ولهذا أحمل معي دوما قربة ماء نظيف من أجلها، فرأيت أن أسقيها بعيدًا عن أعين الظامئين، ولو رأى الشيخ طبرق الماء لضربني وشربه وتركها تموت عطشا.

ضحك جودت وحضنني للمرة الأولى، والتفت نحو القوم، ثم وقال:

- هل هذه المياه نظيفة؟

- طبعا هي نظيفة جدا، فأنا لا أسقيها إلا من المياه التي أشرب منها.

شرب حتى ارتوى، وكان حريصا ألا يراه أحد، وشعرت أنه يرغب في حملي على أكتافه، أما الفرس فلم تشرب من الماء الكثير، لأني تركتها تشرب مع الدواب من ماء السيل المتجمع صباح اليوم.

لم يطل انتظارنا حتى أطل كاظم ومرافقه وثلاثة من غربان الفرق الخاصة، وعادت الحياة إلى جودت، وصرخ الكعب:

- (سويه فر) أعطني ماء.

اشتد الجدل بين الرؤوس الثلاثة على مسامعنا، وتبين أن كاظم محترف ومدرك لكل خطوة يخطوها، ولو لم نخالف إشاراته لما تكبدنا كل هذا العناء، والخطأ يقع على عاتق مَنْ اختار الطريق الأسهل وتسبب في هذه الفوضى.

بعدما هدأت العاصفة، وتحولت العقول إلى التفكير نحو إعادة التنظيم من البداية، ولم يكن الدليل يمتلك مُخططًا، ولكنه ارتجل لتعديل سير القافلة محاولاً إخفاءها عن عيون البشر...سرنا نهارا، وحُرِّمت الراحة علينا، ومنعني الإرهاق من تقدير وقت المسير، حتى وصلنا إلى نقطة رأينا منها معسكرا كبيرا للجيش العثماني، وهذا لم يرق لجودت، فأغلظ القول للدليل الذي آثر الصمت على الكلام، واضطررنا للالتفاف صعودا تجاه القدس، مجاوزين مقام النبي موسى –عليه السلام- ومعسكر الجيش القريب منه.

يسبقنا كاظم ولم يبدُ عليه الرضى، والطرق أمامنا مفتوحة لمسافات طويلة، والدليل ترك مرافقه المسلح معنا، والغربان الثلاثة، لم يبتعدوا عنا، وذاكرتي الرائعة أحصتهم عددًا منذ اليوم الأول؛ قسَّمتُهم على القافلتين، ومن بقي لمرافقة روهان ومن معه، ومن غادرنا لسرقة الأغنام ...إن العدد الذي يقوم بحراستنا لا يزيد عن خمسة أغربة؛ ثلاثة معنا، واثنان في المؤخرة، ويراودني الشك في وجودهم؛ جغرافيَّة المنطقة التي مررنا بها لا تتستر على حراسات خفية، ولو كان عددهم كبيرًا -كما اعتقدت سابقا- لما تمكن الراعي وأغنامه من مفاجأتنا؛ أعني وجود ثغرات للهرب يمكن اغتنامها.

الاختلاف الظاهر بين كاظم وجودت يؤكد أن هناك مكانًا للطوارئ، مرسوم على خرائط يحملها، ولكنها تتناقض مع خبرته، ممَّا اضطره إلى اتباع أوامره مجبرا...كميات الذهب التي دفناها كبيرة جدا، وحمولتنا مازالت ضعفي ما دُفن، ومازال أمامي الكثير من الأيام الذهبية لأعيشها قبل ذبحي، والكثير من الفرص لأستغلها.

اقتربنا من تجمعات سكن العرب فرأينا الكثير منهم، والكثير من الرعاة، ولم ترحمنا الشمس، وكأنها تصر على أن تجفف ما تبقى في أجسادنا من ماء...نستظل بظل الجمال، وعاد الدليل مرتبكا وقد بدا عجزه عن إيجاد طرق تبعدنا عن عيون العرب، مما اضطرنا للالتفاف مرة أخرى، والبحث عن مكان للاختباء حتى غروب الشمس.

وصلنا مكانا منعزلا، لم يكن واديًا سحيقًا، بل كان مرتفعا نوعا ما، ومُحاطًا بمناطق أكثر ارتفاعا...ملامح جودت دلت على اليأس، فكتب رسالة وطلب من كاظم أن يحملها، فانطلق مع مرافقه إلى جهة مجهولة، وطلب من الغربان الثلاثة أن يحرسوا القافلة، وألا يقتربا منها لمسافة تقل عن ثلاثمائة متر، وكان جليًا أنه لم يرغب في حديثهم مع أحد.

لم تصل الشمس إلى كبد السماء بعد، نصبنا الخيام وأرحنا الدواب، ولم نكن قريبين من نبع ماء، فطلب الكعب أن اصحبه لنملأ القِرب، وسرني أن طلب منه جودت أخذ غيري.

دخل جودت خيمته ليستلقي في انتظار عودة الدليل من المكان المجهول، وطلب مني إيقاظه فور وصوله، كنت مرهقا وبحاجة إلى النوم، ولكن في غياب الكعب لن أفوت الفرصة للاطمئنان على بيبرس، ومن يعتني به، بعدما تم نقله إلى خيمة الكعب، وكانت مرفوعة الجوانب لتسمح بدخول الهواء من أجل تخفيف الحرارة عن المسكين، لم تكن هناك حاجة إلى الاستئذان، فقد أصبحت من أهل المكان، وقلت لها:

- كيف حاله الآن؟

يطل الإرهاق والنُعاس من عينيها:

- إنه يتألم ولا يكف عن الصراخ يا عزيز.

فأجْهَشتُ بالبكاء مثل الأطفال، ما كان بالإمكان أن اقترب وأحضنها لأخفف عنها، فعينا اللعين تنظران، وقد صكَّ على أسنانه وقال:

- أنا بخير اذهب الآن.

لم أعد أشعر أن بإمكاني البقاء، بعد أن طردني، وقبل خروجي سألتها إن كان هناك ما يمكن فعله من أجله، فقالت:

- أريد ماءً يا عزيز، إنه ظمآن.

لو كان الماء لها لما ترددتُ لحظة، فقلت لها:

- تعلمين أنه لا وجود للماء، والشيخ طبرق ذهب للبحث، وبإذن الله سيحضره.

هزت رأسها:

- بإذن الله.

لمعتْ فكرة رأسي، فقلتُ لها:

- سمعتُ أن بول الإبل يروي من العطش، ويعالج الأمراض ويخفف الأوجاع، هل تريدين أن آتي له به؟

فقالت:

- أرجوك يا عزيز أسرع وأحضر منه ليخفف آلامه.

أخذت وعاء، وكلما سألت أحدًا سخر مني، فأسرعت إلى سالم ليساعدني، وما كان ليرفض لي طلبا، وهو لا يدعي الحماقة، بل هو أحمق بالفطرة، فتوجب علينا أن نقضي كل الوقت بمراقبة الجمال حتى يقرر أحدها أن يتبول.

رغبت في رؤيته يشرب بول الدواب، وجبرًا تنازلت عن الفكرة، وأثناء ذهابي إليها لأعتذر، فاستوقفتي كراهية بيبرس، وسألت نفسي؛ مَنْ يستطيع التمييز بين بول البشر وبول الدواب؟ وانزويت حتى لا يراني أحد، فلن أبخل على اللعين بالقليل من بولي، ثم حملت لها الوعاء وفيه القليل من الدواء، وشكرتني كثيرا وقربت الوعاء من فمه وقالت:

- هيا اشرب يا بيبرس اشرب.

اشمأز من الرائحة، وعافَ الدواء، وامتنع عن الشرب، ولكنها أصرت وتبرمت، فلم يجد أمامه خيارا سوى إرضائها، وارتشف القليل منه، فتقززتُ وخرجت مسرعا قبل أن أتقيأ.

غفوت قليلا بعدما طالبني جسدي بإراحته، ثم جاءني جودت ولم يعد قادرا على انتظار عودة كاظم، فطلب مني مرافقته بعد أن اقترب من الغربان وأوصاهم بمراقبة القافلة جيدا، وعدم السماح بمغادرة أحد.

سار وكنت خلفه، فأخذنا نتسلق عدة تلال حتى وصلنا أرضا مستوية، منها استطعنا رؤية البحر الميت، وبدا قريبًا للوهلة الأولى ولكن التلال التي تفصلنا عنه تنبئ بمسافات شاسعة.

انفرجت أساريره وكأنه وجد ضالته، وأصبح أقل ضياعًا...يسير بلا هدف، ولكنه يبحث عن شيء لا يفصح عنه، ثم طلب مني أن أتذكر الطريق حتى نتمكن من العودة، فأجبته على الطريقة السانتورية:

- أية طريق يا سيدي؟

رمقني بنظرة ساخرة:

- الطريق التي سلكها موسى هاربا من مصر يا عزيز.

فأجبته على الفور:

- حاضر يا سيدي سأتذكرها.

يبدو أن جوابي قد استفزه، فصكَّ على أسنانه قائلا:

- ماذا ستتذكر يا عزيز؟

- طريق مصر التي هرب موسى منها يا سيدي.

- وهل تعرفها يا عزيز؟ .

- لا أعرفها ولكني سأحفظها، من واجبي إطاعتك يا سيدي.

- لا تجهد نفسك، فقط تذكر اسمك، وإن صادفنا عرب لا تتكلم معهم إلا بما أخبرك، هل تستطيع تذكر ذلك؟

- طبعا يا سيدي، فأنا كنت مسؤول الآثار، والبيك كان...

قاطعني وأطبق فمي على ما تبقى من كلامي، وقال ممتعضا:

- نعم أعرف أنك تتذكر مكان كل الأحذية الأثرية، جيد، رائع، ممتاز، عظيم! والآن اصمت وتوقف عن الثرثرة.

منعه مزاجه من الاستمتاع بغبائي، وما صحبني إلا لأكون لسانه إن احتاج التحدث مع العرب...اقتربنا من أحد العرب وطلب مني أن أسأله أين أقرب معسكر للجيش في المنطقة وسألته، فأشار إلى أول الطريق، ثم أدار ظهره وبصق على الأرض...سرنا مئات الأمتار واكتشفنا أن العربي خدعنا، فعدنا أدراجنا، ومن بعيد لمحنا خيالة؛ دورية من الدرك، لم يقترب منهم إلا بعدما تفحصهم جيدا، كان ثلاثة منهم عربًا واثنان من الأتراك، فانزوى بقائد المجموعة جانبا، ودار بينهما حديث لم أسمعه، ثم أعطاه رسالة، فالتقطها وانطلق مسرعا إلى جهة مجهولة، وكانت ردة فعله كمن حصل على جائزة.

أخافتني قدرته على الاتصال بالجيش، فلن يعجز عن تكليف العديد من الجند للبحث عني وقتلي إن هربت...عدنا إلى الطريق ناشدين العودة، ولم يكن ليضل طريق العودة طفل صغير، ولكن الأحمق ضل طريقه أكثر من مرة، ولم أجد طريقة لإرشاده حفاظًا على غبائي السانتوري...أتخبَّط وراءه حتى وصلنا القافلة عند الغروب، ولم تكن هناك نية لمغادرة المكان قريبا، وتوقعت أن تكون ليلتنا مريحة، ولكن هيهات أن تذوق هذه القافلة طعم الراحة! لم يتبقَ معنا سوى ثلاث جرار فارغة، كانت إحداهم تعاني شرخًا، ومع ذلك طلب مني جودت أن أملأها ذهبا، ودفناها بثلاثة أماكن قريبة من الموقع، وعدنا لقضاء ما تبقَّى من ليلتنا، إلا أن الكعب كانت لديه خطة أخرى، فقال لجودت:

- حضِّر لي كمية كبيرة من الذهب تستحق الاحتفال.

نظر إليه جودت وقد اتسعت حدقتا عينيه، وهز رأسه مستوضحًا قصده، فابتسم الكعب وأشار بإصبعه إلى القمر، وكان قد اكتمل بدرا.

فقال جودت:

- لم تتبقَ معنا جرار، والبدر لن يرحل غدا.

رد عليه:

- بالنسبة لك لن يرحل، بالنسبة لي ثمن هذه البدر غالٍ، وأرجو أن تقوم بعملك لأقوم بعملي.

<<<<<<<<<<<<<<نهاية الحلقة 30>>>>>>>>>>>>>>>




٠ تعليق

Comments


bottom of page