top of page
  • صورة الكاتب

جرة ذهب - الحلقة الثالثة

تاريخ التحديث: ٣ مايو ٢٠١٨

الأرض مرصوفة بفسيفساء تحيط بالرسم الذهبي، لا تجاوز القطعة الواحدة حجم إبهامي، متعددة الألوان، تشكل رسوما وأشكالا هندسية منوعة، أعجز عن تفسير ما تدل عليه من معنى. أمحِّص النظر، ولا يأسرني سوى الرسم الذهبي، ينتابني إحساس بأنه سيل من ذهب، تم صهره وصقله وتصفيته من كل شائبة، لينتصف هذا الممر العجيب.

تساءلت: كم يبلغ سُمكه؟! وهل ما أراه لا يتعدى طبقة رقيقة؟! أم هو مجرد طلاء ذهبي اللون؟! أيحتمل أن يكون مادة شبيهة بالذهب؟! ممتدة هي المساحة التي يحتلها الرسم، أرغب في التصديق بأنه سيل لا نهاية له من الذهب...هام خيالي مجنحًا في عالمٍ وهميٍّ من الثراء...حدثتني نفسي في إمكانية عثوري على مطرقة لأقتطع ما يعينني على تحقيق أحلامي الباشوية.

وقفت مشدوهًا...لم يكن من اليسر أن تتحول عيناي عن أسفل قدمي، الجدر عن يميني وشمالي منقوشة زينتها لوحات بديعة من الفسيفساء، لم أرَ شبيها لها ذي قبل.

أعجز عن توصيف بشر قد احترف وأتقن إلى هذا الحد، تنزهت اللوحات عن كل عيب ونقص، شارفت على حدود الكمال الإبداعي، يعجز عقلي وينعقد لساني كلما حاولت وصفها، وذاكرتي خاوية عن شبهها وكأنني لم أقف في مكان أثري قط.

لم تبق زاوية إلا وسكنها الإبداع، حثني اتساع المكان على العجلة قبل أن يُكشف أمري؛ أرسلت عيناي تلتقط مصورة من الصفحات ما يمكن لذاكرتي تخزينه، وما كنت لأقاوم الإغراء بالتوقف أمام كل ما يستوقف عينيَّ، وكأني أخشى أن تتلاشى إن أشحت ببصري عنها.

يدفعني شكِّي بوجود أبواب مموهة يساير تموجُها تموجَ الرسومات عن يميني ويساري، كتلك التي شاهدتها بسراديب بابل. أكاد أسمع دقات قلبي، تأخذني الرهبة، وما زلت واقفا، لم أتقدم أكثر من خطوتين عبر ممر لا أرى نهاية له، عيناي في غيبوبةٍ لا تستفيق، أتجنب النظر إلى الأسفل؛ هاربا من السحر القابع تحت قدمي، أرسلت بصري عاليا، فلم أدر حقيقة ما طالعني؛ قد يكون السقف مطليًّا بطلاء حالك السواد كظلام ليل دامس، وقد يكون شاهقًا لا نهاية لارتفاعه، حيث أقف أرى السقف واضحًا، وبعد أمتار يبدأ في الاختفاء، أشعر أنها خدعة بصرية عظيمة ومتقنة، السقف يبدأ مستقيمًا، ثم يتجه إلى الأعلى في صعود.

أرى حمامة بيضاء تحلِّق وتخترق السقف؛ تختفي وتعود لتظهر من جديد، وكأنها تخبرني بألا سقف للمكان، لونها الأبيض ما كان ليخدعني، هناك تحلق وتختفي. يظلني سقف مائل؛ يرتفع أحيانا ثم ينحدر، الكثير من الزوايا لا يدركها بصري.

كنت أرغب في التقدم للأمام قبل أن يتدخل عقلي اللعين ويسرق طمأنينتي بسؤالٍ أثار ريبتي، وأدخل القلق إلى نفسي: كيف لعيني أن تصلا إلى هذا الحد من الوصف في مثل هذا المكان؟! من دواعي الجنون أن يذهب ظنِّي إلى أن شطر القمر بضوئه الباهت استطاع أن يتجاوز الفتحة الأولى، ويتسرب عبر الثانية، ويلتوى وينزلق إلى الأسفل لينير هذا الممر العظيم!

أيُعقل أن البيك وحيان قد أشعلا مصابيحًا قادرة على توفير هذا الكم من الضوء! أم أن هناك عشراتٌ، بل مئات من الفتحات في السقف، يتخللها هذا الكم الهائل من النور، أم أن هناك مصابيحًا عملاقة مخبأة في مكان ما ينعكس ضوئها عبر مرايا ضخمة لتنير الممر.

لم أسمح لنفسي أن تنساق في هراء خرافي لتفسير هذه الظاهرة الغريبة، لابد من تفسير عقلاني؛ آلية ما تسمح بتجميع الضوء وعكسه عبر مرايا مخفية، لابد أن لسيل الذهب دور في إنارة هذا الممر، أتذكر رؤيتي لمثل هذه الظاهرة في أحد المواقع الأثرية بالعراق.

لعلِّي أعيش هذه اللحظة داخل حلم من أروع الأحلام وأعجبها، ومن الحمق السعي لمغادرته، ولكن حتى الأحلام هناك من يفسدها؛ ربتت يدٌ على كتفي في هدوء، أدركتُ بأني لست حالمًا، التفتُّ مرتابًا فإذا بـ البيك واقفًا خلفي برأسه الكبير، يقول خلف شاربه الفضي:

- ماذا تفعل يا عزيز الأحمق؟

في ارتباك:

- أبحث عن طربوشك يا بيك.

أمسك يدي في حنان أبوي، وسار حتى أول الدرج، وطلب مني الخروج، ومكث داخل الكهف، كان نظيفا وقد استبدل ملابسه، وبدا أصغر من عمره حينما تركته نائما.

خرجت فإذا بنور الشمس يلاطف عيني، تساءلت في سذاجة:

- من أين أتت الشمس! لقد خلَّفتُ القمر ورائي منذ دقائق، لم أمضِ في الكهف أكثر من خمسة عشرة دقيقة.

لم أجهد نفسي بالبحث عن تفسير؛ خشية أن تغرقني تساؤلات تتأبى على العقل؛ فأنا لا أعترف بالخوارق، ربما قد غفوت، لعل روعة ما رأيت سرقتْ مني وقتي كما سرقتُه من أعين الأحراس.

عاودتني حيرتي ثانية:

- لقد كان المكان نظيفًا، لا أثر فيه لغبار، كيف اتسخت إذًا ملابس البيك! هل هناك مكان آخر يعج بالغبار! سأُعد قهوة البيك، بينما أسترجع بعض ما سجلته ذاكرتي؛ لعلي أعثر على الوقت المفقود!

أعددتها على عجل، مع قطع من البسكويت والشوكولاتة، لقد اعتاد البيك تناولها كل صباح، عدت إلى الكهف إلا أن حيان اعترض طريقي ولم يسمح لي بالمرور، لم أُخفِ استيائي من تعامله، تلقَّف القهوة وانزلق عبر الفتحة، وقد آثرت الانسحاب، بعدما أوعز إلى أحد جنده بالبقاء أمام الفتحة لحراستها، ولم يكن هناك غيري ليحاول اختراقها.

عدت إلى الخيمة لعلِّي أستطيع أن أنعم بقسط يسير من النوم، لم أنم منذ صباح الأمس، استلقيت على الفراش الذي أعددته للبيك بالأمس، كان قد قضى ليلته فوق التراب...لعنت الملازم ألف مرة على إفساد هذا الصباح الجميل، تمنيت له صباحا مليئًا بالعثرات والشؤم والنكد، وددتُ لو يرتطم رأسه بأحد الجدر فتتوه ذاكرته، ما كان على البيك أن يعظِّم من شأنه، وينصاع لأوامره، ومن هو لينعم بروعة هذا المكان ويحرمني منه!

أشك في أن يحرمني البيك من الاطلاع على أسرار الكهف، سأنتصر وقتها على هذا الملازم الوقح صديق العرب، وقتها سيدرك مكانتي، أعلم جيدا أن الثياب وربطة العنق لن تستر حقيقة أسرتي الفقيرة مهما ادعيت الانحدار من أصل ثري.

والدي كان مؤمنًا بأني مَنْ سيرفع شأن العائلة، بعد استشهاد شقيقي الأكبر، واعتاد مناداتي منذ الصغر "يا أفندي، يا بيك، يا باشا."، كان يرى في الباشوات آلهة تستحق التقديس، ومخالفتهم تصير كفرًا، لقد زرع فيَّ منذ صغري أني يوما ما سأكون من كبار رجال الدولة، لم أرث من ورائه سوى هوسه بالمكانة الاجتماعية، لستُ ألوم أبي، لقد أفنى عمره يعمل طاهيًا للباشوات، ينتقل من قصر إلى قصر، تحول إلى شخصية مهمة في عيون العامة، وبخاصة هؤلاء الذين كانوا في حاجة إلى خدمة لن يستطيعها إلا الباشوات، وهكذا تحولت أنا إلى ابن الباشا، وكنت أتناسى بأنني ابن طباخ الباشا، اكتسبت من والدي مهنة الطهي، وتقليد الباشوات في تصرفاتهم وثيابهم.

غلبني النعاس ولم أستيقظ إلا على صوت شجار وقع بين اثنين من الجند بجوار الخيمة، أدركت أن الساعة الواحدة بعد الظهر، سألت جنديا إن كان البيك قد خرج من الكهف أثناء نومي، فأجاب:

- البيك والملازم لم يطلا برأسيهما.

سألته عن رشيد فأخبرني بعودته إلى المعسكر.

أحضرت الطعام سريعًا، فلا يجوز ترك البيك كل هذا الوقت دون أن تطمئن معدته، أعددت الشطائر على عجل، حملتها تجاه مدخل الكهف، الذي يحرسه اثنان من الجنود، حاولا منعي بموجب أوامر الملازم اللعين، فقدت الكثير من هيبتي، وهؤلاء الأوغاد الذين أحنوا رؤوسهم أمام حضرتي قبل يومين، لا يكترثون بي الآن، ها هم لا يعيرونني اهتماما؛ يحدثونني وهم جلوس؛ لم يقفوا، أو يلتفتوا تجاهي.

في أعينهم شماتة، وربما اعتقدوا أنهم أعلى مني مكانة، لم أجد أن تكرار اسمي ومكانتي سيترك أثرا في نفوسهم مثل ذي قبل، إلا أنِّي ما زلت خبيرًا في بث الرعب في قلوب أمثال هؤلاء، إنني أستطيع إصدار الأوامر على طريقة الباشوات، أخذت أهددهم وأتوعدهم باسم ومكانة البيك، حذرتهم العواقب التي تنتظرهم إن لم يصل إليه طعامه سريعا، تنحى الجنود العرب، وهم يعلمون في قرارة أنفسهم أن خادمًا تركيَ الأصل أفضل في هذه الدولة من العرب قاطبة، فكيف إذا كان يتحدث باسم "بيك" تركوا القرار بمنعي أو السماح لي بيد الأتراك منهم، وقد رضخ الجند الأتراك بعد ذكري لـ"الصدر الأعظم" وعلاقته بـ"البيك"، لقد اختار الجميع مُخالفة أمر الملازم وتحمُّل ما يخلِّفه من عواقب، على إغضاب "بيك" يتضور جوعا داخل كهف.

عبرت الفتحة، أعرف طريقي جيدا، لم يكن الضوء قويا كما كان بالأمس، اعتقدت أنه بسبب ميل الشمس نحو الغرب، ولكن لا منطق باعتقادي، فلا ضوء القمر ولا الشمس قادرًا على الانحناء والالتواء ليمر عبر الكهف، بدأت أتفحص الممر من جديد، تأكدت بأن طوله يزيد عن السبعين مترا، تساورني رؤية جدار عاكس للضوء عند نهاية الممر، ربما تأخذه انحناءة تدريجية في اتجاه آخر، أتوهم أنني أقف في بداية ممر لا نهاية له.

لم أفارق البوابة الأولى بعد، لم أخطو خطوة واحدة فوق الفسيفساء، ولم تبد أية آثار لخطوات البيك وحيان حيث أقف، تقدمت خطوات معدودة؛ أبحث عن أبواب خلف اللوحات المنمقة؛ تحسست الجدار، فطاوعني بابٌ لا صرير له ولا حفيف، وكأنه صُنع من حرير ناعم.

تقبع خلف الباب غرفة فارغة، لا يتجاوز عرضها المترين، تسرب الضوء إليها بقوة تفوق الممر، ازَّينت جدرانها، أبدعتها براعة فنان لا نظير لها، تعكس بريقًا لامعًا، وكأن أحدهم واكب على تلميعها منذ نشأتها.

غادرت الغرفة، وبحثت عن مقبض لأعيد إغلاق الباب فلم أفلح، حاولت جذبه مرات فاستحال عليَّ تحريكه، كأنه تحول إلى جدار آخر، توقفت برهة...لمسته مُجددًا بأناملي فإذا به ينفرج انفراجة يسيرة، ثم يندفع لينغلق من تلقاء ذاته. دفعة خفيفة تكفي لفتحه، وأخرى تستوجب إغلاقه؛ تصميم مبتكر نجيب، لم تبهرني طريقة فتحه وإغلاقه بقدر انسيابيته وصمته.

باب مخفي آخر في الجهة المقابلة، اقتربت منه لأفتحه بنفس الطريقة فلم يطاوعني بسهولة، إن ملامسة الأنامل لفتح الباب لم تكن اعتباطية، لقد حالفني الحظ فكان لقاء أناملي بتلك البقعة المجبولة على سر الفتح والانغلاق. الغرفة لا تشبه الأخرى في شيء؛ حجمها أكبر بأربعة أضعاف، خاوية لا تحوي شيئا، طليت جدرانها وسقفها بطلاء أسود، أرضيتها قطعة رخام واحدة سوداء اللون، هذا ما رأيته ولكني لم أخطُ خطوة واحدة نحو الداخل، لا منطق في أن تكون الأرضية قطعة واحدة، ربما كانت قطعًا متعددة، يتستر عليها لمعان سوادها، حدثني قلبي أن هذه الغرفة تحتضن ممرًّا سريًّا يقود إلى سرداب ما، انتابني شعور سيئ تجاهها، فأغلقت الباب كما فعلت مع السابق، ربما سأعود فيما بعد لأثبت صحة توقعي.

لم يعد لدي شك في وجود عشرات الأبواب عن يمين الممر ويساره كنت سريع الحركة، أسابق الوقت، أفتح الأبواب، الواحد تلو الآخر، تغزوني شهية لالتهام كل ما أراه دفعة واحدة، الكثير من اللوحات والمنحوتات المزينة بأحجار كريمة، حاولت أن أخلع بعضها بأظافري، لو كنت أحمل سكينا لحملت معي ما يكفي لأكون باشا.

لن أخرج خالي الوفاض في مرتي القادمة، ما زال أمامي الكثير من الغرف، وربما وجدت ما يسهل حمله. أرتاد غرفة أخرى لأسمع صهيل حصان، أبحث في عينَي، أرى نقاء الثلج في لونها، سواد الليل في مقلتيها؛ فرس عربية أصيلة، اندفعت عبر الباب، وكأنها بانتظار من يحررها، تفاجأت... تجمدت أعضائي، جمالها منعني الخوف، أبهرني بياضها الناصع، ترميني بنظرة من عينيها الكبيرتين البراقتين، نظرة عتاب حزينة، كأنها تعرفني منذ زمن، تسير في الممر هادئة مطمئنة، شعرت بأن عليَّ أن أتبعها، لم أجد الوقت لأتساءل من أين جاءت وكيف، ولماذا!!!؟؟؟

<<<<< نهاية الحلقة الثالثة >>>>>


٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page