top of page
  • صورة الكاتب

جرة ذهب -الحلقة السابعة والعشرون

#جرة_ذهب_الحلقة_27 سرنا لمسافة تزيد عن ألف متر، وأخذ يتفحص الكهوف والمغر التي كان أغلبها أشبه بالجحور، حتى استقر على أحدها في باطن تلة تحيط بها عدة تلال، فاقترب من الجحر وجلس أمامه، وأخذ يقوم بحركات الهراء التي اعتاد عليها، ونادى على خلدون الأعوج وأدخله الجحر ليخرج منه التراب ليتمكن من حشو الجرة داخله، وضيق الجُحر لم يسمح باستخدام معول، فبدأ يحفر ويجرف بيديه، ولم يطلب مني مساعدته، تركه وعاد للتربع على الأرض في انتظار انتهائه، وأمرني بالجلوس أمامه فأطعت... وللمرة الأولى يهتم الكعب بمعرفة بعض التفاصيل عني، فسأل: - ما اسمك أنت؟ هو يعرف اسمي جيدا ونادني به عشرات المرات، فأجبته على طريقة المجندين، الاسم الكامل، العمر، مكان الولادة، العمل... ثم سألني مرة أخرى عن علاقتي برشيد، لم أفهم الهدف من سؤاله وهل يعقل أنه قد وصلته معلومات جديدة، فلم يكن أمامي إلا أن أخبره بالحقيقة كاملة، دون أي ذكر لحيان وما بداخل الكهف، وتعمدت التركيز على احتجازي في البئر لأشتت انتباهه عن أية تفاصيل فقاطع حديثي، وسرعان ما اكتشفت أنه ليس بحاجة لمعرفة شيء، وإنما ليذكرني بذبحه فقط، ثم مدَّ يديه وأمسك برأسي قائلاً: - انظر في عينيَّ، هل أخبرت جودت عما رأيته في الخيمة؟ أجبته على الفور: - لا يا سيدي لم ولن أخبره. وتمنيت لو أعرف ما الذي يعتقد أني رأيته، ثم سألني: - ماذا تفعل مع الباشا في الخيمة؟ لم أتفاجأ بالسؤال، لقد كنت أتوقعه منذ فترة، وقلت له: - أساعده بترتيب الذهب وعدِّه. فقال: - ولماذا لم تحضر وتبلغني بذلك كما اتفقنا؟ أم أنك نسيت رشيد؟ قلت: - لم أجد حاجة لأزعجك بهذا، واعتقدت أنك تعرف كل شيء يا سيدي. عيناه الخبيثة وابتسامته الصفراء فاجأتني بسؤال: - لماذا كنت تحفر داخل الخيمة؟ وهز رأسه ليوحي إليَّ بأنه كاشف الغيب، وملك الجان، والهراء وهبله المعتاد، ارتبكت قليلا وأدركتُ ضرورة استدلاله على ذلك من آثار التراب، أو الغبار العالق بثيابي، أو أن خادمه كان يراقبني، وقد رصدته أكثر من مرة يحوم حول خيام جودت. وجدت نفسي أمام اختبار حقيقي، فأية إجابة تدل على ذكاء أو خبث، أو تظاهر بالغباء قد تكلفني حياتي، واحتجت لوقت أطول للتفكير، فسكتُّ ولم أُجب، وهذا أثار حفيظته فكرر سؤاله في حزم: - ماذا كنت تفعل داخل الخيمة مع جودت؟ فأجبته: - يا سيدي أنت تعرف كل شيء، وأنا أقسمت على كتاب الله ألا أخبر أحدا عن الذهب الذي ساعدته في دفنه بالخيمة، وأفضل الموت على أن أحنث في يميني، وقد أصاب بالشلل جراء ذلك. لمعت عيناه الحقيرتان، فجوابي حافظ على تظاهري السانتوري، وقال: - لا تحنث في يمينك يا عزيز، انظر في عينيّ وسأترك قرينك يخبرني الحقيقة. أمسك يديَّ وحملق في عيني، ولم يخطر ببالي حينها إلا ما قاله العربي حين هاجمنا، وقلت في سري: - يا ولد السقيطة، على من تستهبل؟! وبصوت أراد أن يوهمني أن الجان من يحدثني، قال: - لقد دفنتم خمسة جرار كبيرة، والكثير من الجرار الصغيرة، وكلها تفيض ذهبًا يا عزيز. تقمصت دور المرعوب المصدوم، فأخذت قدمي اليسرى ترتعش، وأصابعي تهتز، وعياني لم تتوقفا عن الرمش المتكرر، وفغرت فاهي ودفعت بعض اللعاب ليسيل على ذقني من هول الصدمة أمام قدرات عفاريته على كشف المستور، تاركا الحقير يثمل باعتقاده السيطرة عليَّ وامتلاكي، ثم أحنيت رأسي لأؤكد قوله، فابتسم وترك يدي، وقد وجدت الأمر مسليا فأخذت أتأتئ ليفهم أني أرجوه أن يصرف عفاريته عني، وما كان منه إلا أن عاد لهرائه ليزيد من وهمي قائلاً: - لقد صرفتُ الجان عنك، بإمكانك أن تحرك جسدك، ولكن تذكر أنه يُمنع عليك أن تحدِّث أحدًا بما سألتك عنه. في تلك اللحظة شعرت أني أعطيت هذا التافه أكبر من حجمه، أصابني شعور بالتقزز والقرف، فصفعته وبصقت في وجهه، وأمسكت بشعره وألقيته أرضا، وبحذائي دستُ رأسه وصرخت فيه قائلا: - قبِّل حذائي أيها الحقير السافل. وطبعا –كعادتي- لقد حدث هذا في مخيلتي، فلا أمتلك هذا القدر من الجرأة لأبصق في وجه هذا الحقير، وسأكتفي كلما سنحت لي الفرصة بالبصق في طعامه فقط. يا للإعجاز! لقد عرف عدد الجرار التي تم دفنها بالخيمة، ولم يتساءل للحظة بأن أي أحمق قادر على الوصول لهذا الاستنتاج، وبخاصة إذا كان على علم مسبق بعدد الجرار التي حملناها، هذا الحقير يزداد طولا كلما تغذى على سذاجة الآخرين. انتهى خلدون من الحفر وخرج من الجحر، وقد قصر عنقه وازدادت أكتافه عوجا، كان ينضح عرقا فتحول التراب الملتصق بجسده طينًا، لم يتركه ليلتقط أنفاسه، بل طلب منا رفع الجرة إلى الجحر، أشفقت عليه وكنت أود لو باستطاعتي رفعها لوحدي، لم نتمكن من تحريك الجرة، ولم يكن أمامنا إلا إخراج الذهب منها ثم تعبئتها مجددا عند الجحر، ولكن الحقير عندما رأى فشلنا في تحريكها اقترب وحملها وحده، وسار بها إلى الجحر دون مساعدة. أشهد أن هذا أول عمل خارق يقوم به ويستحق الذكر، لقد كان بغلا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ثم طلب من خلدون أن يدخل قبل الجرة وفعل، ودفعها إليه وتساعدا معا حتى استقرت في المكان، وطلب مني أن أنقل إليه حجارة، وأخذ يدفعها باتجاه خلدون، وكنت على يقين بأنه سيضطر لإخراجها من جديد ليفسح له مجالا للخروج، ولكني فضلت الصمت على إبداء أية ملاحظة تخالف قواعدي السانتورية، فغبيٌّ مثلي لا يفطن لأمر. نقلتُ الحجارة في صمتٍ حتى أمرني بالتوقف، وجلب الوعاء الفضي الذي تركه بالقرب من الحمار، فأحضرته، وحينما اقتربت ومددت يدي لأعطيه إياه، رمقني بنظرة قسمت روحي نصفين، وراودني إحساس فظيع، شعرت معه بالصقيع على جبهتي وعنقي وبطني، بل وتسرب إلى عظامي أيضا، وأخذت أرشح عرقا باردا وأصابتني رجفة، حتى كدت أفقد توازني وأسقط أرضا، لقد رأيت المستقبل قبل حدوثه بثوانٍ، وربما بنصف دقيقة. لقد طلب من خلدون أن يُخرج رأسه ليستنشق الهواء حتى لا يختنق، وبصعوبة مد رأسه، وما إن فعل حتى أمسك الكعب بشعره بيده اليسرى وأحكم قبضته عليه حتى لا ينزلق، ثم قام بشدِّه عاليًا، وباليمنى أمسك الخنجر وأخذ يحز عنقه ببطء شديد، وكأنه حرص ألا تتسرب الحياة منه دفعة واحدة، ارتخى واستسلم ولم يشخر كما حدث مع رشيد، وكانت عيناه مصوبة تجاهي، فشعرت بأنه يتوسل مساعدتي، فرفع الكعب صوته وقال: - تعال وتشرف بجمع دمه يا عبد الـ"قاقا باقا". اقتربتُ وقرَّبتُ الوعاء من عنقه، وكان الدم يسيل بطيئًا، ولاتزال الحياةُ تسري في عروقه؛ يحرِّك شفتيه مُتمتمًا وعيناه تتوسلان مساعدتي، ولكن كيف لي ذلك! فالمسخ اللعين يمسكه بيد وبالأخرى الخنجر، ومازال ينحره في هدوء وسكينة. أغمضتُ عيني ودعوتُ الله أن يأخذَ الكعب ما يريد من دمه وألا يكمل نحره، وهنا صرخ بي: - افتح عينيك أيها الكلب، لقد شرفتك بجمع دمه، وكل قطرة ستهدرها سأستوفيها منك. حزَّ عنقَه مرةً أخرى، فارتخى جفناه ولم تنغلقا تمامًا، وطلب مني إمساك الوعاء بيد وبالأخرى إمساك شعر خلدون ورفعه عاليا، ثم أجهز على رقبته هذه المرة، وما لبث الدم يتدفق من عنقه كالشلال، حتى تعرى هذا المسخ الشيطاني، ومازلت ممسكا برأس خلدون وحاملا الوعاء كما أمرني، وبكفيه غَرَف من الدم وارتشفه، ومسح وجهه وجسده وخصيتيه، وحينما انتهى مدَّ يدَه وأخذَ يرسمُ بالدم على وجهي قائلاً: - شرفتُك يا عبد الـ"قاقا باقا"، شرفتُك، شرفتُك. وبدأتْ رقصة السعادين، تجمد الزمن ألفَ ساعة، ألفَ شروقٍ وغروب! ربما مرَّ كل هذا وأنا متيبسٌ لا أتحرك حاملا الوعاء وممسكا بالرأس، مبصرا كل ما يجري، يبدو أن نحر رشيد فيما مضى قد جعلني أعتاد هذا النوع من الموت، ولكن... حين قال" اشرَبْ يا عبد الـ "قاقا باقا"...امتقع لوني، ولم تقوَ ساقي على حملي، وسقطت على الأرض أرتجف، وسقط الوعاء على الأرض وانسكب منه بعض الدم، لم أعد أقوى على تحريك جسدي، وخُيِّل لي أن شللا قد أصابني، كنت أسمع صدى صوت ينادي باسمي ويتكرر ألف مرة: - عزيز...عزيز. انعقد لساني فلم أستطع الإجابة أو الحراك، فأخذ يركلني ويصفعني على وجهي عدة مرات حتى أغمضت عيني، وكنت على أمل أن أفتحها وأجد نفسي مستلقيا على الأرض نائمًا في البيت، كنت أتمنى أن يكون كابوسًا لعينًا. فتحتها...ولم أكن إلا عبدًا مطيعًا، نفذت ما طلبه، أحضرت له الماء، وخلطته بالتراب، وقام بدفع رأس خلدون بقدمه إلى داخل الجحر، وأخفى بابه بالحجارة والطين ثم ضيَّع الأثر بالحجارة، كنت أتحرك بلا وعي، وكأن ضبع سلامة قد تبوَّل وخدَّرني، أو أني –بالفعل- كنت أصارع كابوسًا مفزعًا. انتهى من إغلاق الفتحة وإخفائها باحتراف، ثم عدنا أدراجنا إلى المخيم، وفي الطريق اقترب من جحر آخر وأحكمه كسابقه، ولكن هذه المرة بلا جثةٍ ولا ذهب، وبعيدا عنه رسم صليبا من حجارة، وقال لي: - تذكر هذا المكان. كنت أسير خلفه كعبد طوَّقت عنقه سلسلةٌ خفيةٌ، ومازال يكرر على مسامعي: - (عبد القاقا يسمع كلام، يقطع لسان، عبد القاقا يعيش). كنت أصغي له وأهز رأسي، وقد تملكني الرعب، أحدث وأشتم نفسي "ما بك يا عزيز؟! الانسان يموت مرة واحدة! لِم كل هذا الخوف؟! استجمع شجاعتك يا عزيز ولا تدعه يسيطر عليك" خدشت خاصرتي بأظافري وكأني أعاقب نفسي على الخوف الذي اعتراني وتملكني، كان يجب أن يكون هذا القتل أقل رعبا، وبخاصة بعد نحر رشيد، ولكن يبدو أن الموت هو الموت مهما تكرر حدوثه. الاشتباك الذي وقع مُسبقا مع العرب، والعدد الكبير من الضحايا الذين سقطوا أمام ناظريّ، لم يتركوا مثل هذا التأثير في نفسي، حينها كنت وسط جمع من الأشخاص، فاستمديت بعض الشجاعة منهم، وربما أنا جبان لدرجة كبيرة حتى أني لم أعرف هذا الجُبن عند ذبح رشيد، شعرت وقتها بأنني كنت سببا، ولكن سرعان ما تخلصت من ذاك الشعور، ففي هذه المرة ساهمت في ذبح خلدون. قبل وصولنا المخيم قال لي: - امسح الدم عن وجهك، وتذكَّر، المكان الذي دفنَّا فيه الذهب حيث وضعت الإشارة، تذكر ذلك جيدا يا عبد الـ" قاقا باقا". وصلنا وآثار الدم مازالت تغطيه، ولم يفكر في الاغتسال، ثم اقترب من جودت وكان يحمل الوعاء وما تبقى به من دماء، وابتسم قائلاً: - خذ عزيز ليدلك على الموقع لترسم وتنقش علاماتك. أثناء حديثه ركضت نيروز تجاهه وعانقته بقوة، فالتصقت بها آثار الدماء، وانتظر جودت انتهاء العناق ثم سأله: - وأين سائس الجمال الذي رافقك؟ فأجابه بثقة وهدوء: - انتهى أجله، (انت شوف شغلك وأنا بشوف شغلي). لم يعلق أبدا بل هتف للأمهق وعدنا سوية إلى الموقع، لم أنبس ببنت شفة، ولاحظ ذهولي، فسألني: - ماذا فعل طبرق بالعربي؟ لم أتمالك نفسي وأجهشت بالبكاء لمَّا استعادت ذاكرتي مشهد الرعب، وخجلت من بكائي كفتاة صغيرة، وزادني خجلاً شفقة جودت، لم أقل إلا كلمة واحدة كلمة واحدة فقط "ذبحه"، ثم التزمت الصمت، ولم يقل شيئا؛ لم يسأل لماذا، كيف أو متى، ردة فعله أثارت استيائي وحنقي تجاهه، ألا يستحق الموضوع أن يسأل سؤالا واحدا! أم أن الذبح ليس بالأمر الغريب! هل حين يحين دوري ليتذوق خنجر الكعب دمي لن يسأل أيضا؟! ربما سيسأل أين عزيز ويجيبه الكعب "انتهى أجله". وصلنا إلى الجحر الوهمي الذي لم يدفن فيه شيئًا وأشرتُ إليه، وأخذ يسجل ملاحظاته، وطلب من الأمهق نقش الإشارات على صخرة قريبة، ثم عدنا إلى المخيم وكانت شمس الثلاثاء قد سبقتنا إليه، ولم أتساءل إن تم ذبحه قبل منتصف الليل ليكون يوم اثنين، ويبرأ من دمه الثلاثاء اللعين، ما عاد يشغلني إن حدث صدفة، أم أنه القدر المحتوم بمواعدة الموت في الثلاثاء، لقد حدقتُ في عيون الموت مطولا هذا اليوم، ولن يتركني، وليذهب إلى الجحيم هو وكل ثلاثاء لعين! <<<<<<<<<<< نهاية الحلقة 27 >>>>>>>>>>>> ما اكتشفت أنه ليس بحاجة لمعرفة شيء، وإنما ليذكرني بذبحه فقط، ثم مدَّ يديه وأمسك برأسي قائلاً: - انظر في عينيَّ، هل أخبرت جودت عما رأيته في الخيمة؟ أجبته على الفور: - لا يا سيدي لم ولن أخبره. وتمنيت لو أعرف ما الذي يعتقد أني رأيته، ثم سألني: - ماذا تفعل مع الباشا في الخيمة؟ لم أتفاجأ بالسؤال، لقد كنت أتوقعه منذ فترة، وقلت له: - أساعده بترتيب الذهب وعدِّه. فقال: - ولماذا لم تحضر وتبلغني بذلك كما اتفقنا؟ أم أنك نسيت رشيد؟ قلت: - لم أجد حاجة لأزعجك بهذا، واعتقدت أنك تعرف كل شيء يا سيدي. عيناه الخبيثة وابتسامته الصفراء فاجأتني بسؤال: - لماذا كنت تحفر داخل الخيمة؟ وهز رأسه ليوحي إليَّ بأنه كاشف الغيب، وملك الجان، والهراء وهبله المعتاد، ارتبكت قليلا وأدركتُ ضرورة استدلاله على ذلك من آثار التراب، أو الغبار العالق بثيابي، أو أن خادمه كان يراقبني، وقد رصدته أكثر من مرة يحوم حول خيام جودت. وجدت نفسي أمام اختبار حقيقي، فأية إجابة تدل على ذكاء أو خبث، أو تظاهر بالغباء قد تكلفني حياتي، واحتجت لوقت أطول للتفكير، فسكتُّ ولم أُجب، وهذا أثار حفيظته فكرر سؤاله في حزم: - ماذا كنت تفعل داخل الخيمة مع جودت؟ فأجبته: - يا سيدي أنت تعرف كل شيء، وأنا أقسمت على كتاب الله ألا أخبر أحدا عن الذهب الذي ساعدته في دفنه بالخيمة، وأفضل الموت على أن أحنث في يميني، وقد أصاب بالشلل جراء ذلك. لمعت عيناه الحقيرتان، فجوابي حافظ على تظاهري السانتوري، وقال: - لا تحنث في يمينك يا عزيز، انظر في عينيّ وسأترك قرينك يخبرني الحقيقة. أمسك يديَّ وحملق في عيني، ولم يخطر ببالي حينها إلا ما قاله العربي حين هاجمنا، وقلت في سري: - يا ولد السقيطة، على من تستهبل؟! وبصوت أراد أن يوهمني أن الجان من يحدثني، قال: - لقد دفنتم خمسة جرار كبيرة، والكثير من الجرار الصغيرة، وكلها تفيض ذهبًا يا عزيز. تقمصت دور المرعوب المصدوم، فأخذت قدمي اليسرى ترتعش، وأصابعي تهتز، وعياني لم تتوقفا عن الرمش المتكرر، وفغرت فاهي ودفعت بعض اللعاب ليسيل على ذقني من هول الصدمة أمام قدرات عفاريته على كشف المستور، تاركا الحقير يثمل باعتقاده السيطرة عليَّ وامتلاكي، ثم أحنيت رأسي لأؤكد قوله، فابتسم وترك يدي، وقد وجدت الأمر مسليا فأخذت أتأتئ ليفهم أني أرجوه أن يصرف عفاريته عني، وما كان منه إلا أن عاد لهرائه ليزيد من وهمي قائلاً: - لقد صرفتُ الجان عنك، بإمكانك أن تحرك جسدك، ولكن تذكر أنه يُمنع عليك أن تحدِّث أحدًا بما سألتك عنه. في تلك اللحظة شعرت أني أعطيت هذا التافه أكبر من حجمه، أصابني شعور بالتقزز والقرف، فصفعته وبصقت في وجهه، وأمسكت بشعره وألقيته أرضا، وبحذائي دستُ رأسه وصرخت فيه قائلا: - قبِّل حذائي أيها الحقير السافل. وطبعا –كعادتي- لقد حدث هذا في مخيلتي، فلا أمتلك هذا القدر من الجرأة لأبصق في وجه هذا الحقير، وسأكتفي كلما سنحت لي الفرصة بالبصق في طعامه فقط. يا للإعجاز! لقد عرف عدد الجرار التي تم دفنها بالخيمة، ولم يتساءل للحظة بأن أي أحمق قادر على الوصول لهذا الاستنتاج، وبخاصة إذا كان على علم مسبق بعدد الجرار التي حملناها، هذا الحقير يزداد طولا كلما تغذى على سذاجة الآخرين. انتهى خلدون من الحفر وخرج من الجحر، وقد قصر عنقه وازدادت أكتافه عوجا، كان ينضح عرقا فتحول التراب الملتصق بجسده طينًا، لم يتركه ليلتقط أنفاسه، بل طلب منا رفع الجرة إلى الجحر، أشفقت عليه وكنت أود لو باستطاعتي رفعها لوحدي، لم نتمكن من تحريك الجرة، ولم يكن أمامنا إلا إخراج الذهب منها ثم تعبئتها مجددا عند الجحر، ولكن الحقير عندما رأى فشلنا في تحريكها اقترب وحملها وحده، وسار بها إلى الجحر دون مساعدة. أشهد أن هذا أول عمل خارق يقوم به ويستحق الذكر، لقد كان بغلا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ثم طلب من خلدون أن يدخل قبل الجرة وفعل، ودفعها إليه وتساعدا معا حتى استقرت في المكان، وطلب مني أن أنقل إليه حجارة، وأخذ يدفعها باتجاه خلدون، وكنت على يقين بأنه سيضطر لإخراجها من جديد ليفسح له مجالا للخروج، ولكني فضلت الصمت على إبداء أية ملاحظة تخالف قواعدي السانتورية، فغبيٌّ مثلي لا يفطن لأمر. نقلتُ الحجارة في صمتٍ حتى أمرني بالتوقف، وجلب الوعاء الفضي الذي تركه بالقرب من الحمار، فأحضرته، وحينما اقتربت ومددت يدي لأعطيه إياه، رمقني بنظرة قسمت روحي نصفين، وراودني إحساس فظيع، شعرت معه بالصقيع على جبهتي وعنقي وبطني، بل وتسرب إلى عظامي أيضا، وأخذت أرشح عرقا باردا وأصابتني رجفة، حتى كدت أفقد توازني وأسقط أرضا، لقد رأيت المستقبل قبل حدوثه بثوانٍ، وربما بنصف دقيقة. لقد طلب من خلدون أن يُخرج رأسه ليستنشق الهواء حتى لا يختنق، وبصعوبة مد رأسه، وما إن فعل حتى أمسك الكعب بشعره بيده اليسرى وأحكم قبضته عليه حتى لا ينزلق، ثم قام بشدِّه عاليًا، وباليمنى أمسك الخنجر وأخذ يحز عنقه ببطء شديد، وكأنه حرص ألا تتسرب الحياة منه دفعة واحدة، ارتخى واستسلم ولم يشخر كما حدث مع رشيد، وكانت عيناه مصوبة تجاهي، فشعرت بأنه يتوسل مساعدتي، فرفع الكعب صوته وقال: - تعال وتشرف بجمع دمه يا عبد الـ"قاقا باقا". اقتربتُ وقرَّبتُ الوعاء من عنقه، وكان الدم يسيل بطيئًا، ولاتزال الحياةُ تسري في عروقه؛ يحرِّك شفتيه مُتمتمًا وعيناه تتوسلان مساعدتي، ولكن كيف لي ذلك! فالمسخ اللعين يمسكه بيد وبالأخرى الخنجر، ومازال ينحره في هدوء وسكينة. أغمضتُ عيني ودعوتُ الله أن يأخذَ الكعب ما يريد من دمه وألا يكمل نحره، وهنا صرخ بي: - افتح عينيك أيها الكلب، لقد شرفتك بجمع دمه، وكل قطرة ستهدرها سأستوفيها منك. حزَّ عنقَه مرةً أخرى، فارتخى جفناه ولم تنغلقا تمامًا، وطلب مني إمساك الوعاء بيد وبالأخرى إمساك شعر خلدون ورفعه عاليا، ثم أجهز على رقبته هذه المرة، وما لبث الدم يتدفق من عنقه كالشلال، حتى تعرى هذا المسخ الشيطاني، ومازلت ممسكا برأس خلدون وحاملا الوعاء كما أمرني، وبكفيه غَرَف من الدم وارتشفه، ومسح وجهه وجسده وخصيتيه، وحينما انتهى مدَّ يدَه وأخذَ يرسمُ بالدم على وجهي قائلاً: - شرفتُك يا عبد الـ"قاقا باقا"، شرفتُك، شرفتُك. وبدأتْ رقصة السعادين، تجمد الزمن ألفَ ساعة، ألفَ شروقٍ وغروب! ربما مرَّ كل هذا وأنا متيبسٌ لا أتحرك حاملا الوعاء وممسكا بالرأس، مبصرا كل ما يجري، يبدو أن نحر رشيد فيما مضى قد جعلني أعتاد هذا النوع من الموت، ولكن... حين قال" اشرَبْ يا عبد الـ "قاقا باقا"...امتقع لوني، ولم تقوَ ساقي على حملي، وسقطت على الأرض أرتجف، وسقط الوعاء على الأرض وانسكب منه بعض الدم، لم أعد أقوى على تحريك جسدي، وخُيِّل لي أن شللا قد أصابني، كنت أسمع صدى صوت ينادي باسمي ويتكرر ألف مرة: - عزيز...عزيز. انعقد لساني فلم أستطع الإجابة أو الحراك، فأخذ يركلني ويصفعني على وجهي عدة مرات حتى أغمضت عيني، وكنت على أمل أن أفتحها وأجد نفسي مستلقيا على الأرض نائمًا في البيت، كنت أتمنى أن يكون كابوسًا لعينًا. فتحتها...ولم أكن إلا عبدًا مطيعًا، نفذت ما طلبه، أحضرت له الماء، وخلطته بالتراب، وقام بدفع رأس خلدون بقدمه إلى داخل الجحر، وأخفى بابه بالحجارة والطين ثم ضيَّع الأثر بالحجارة، كنت أتحرك بلا وعي، وكأن ضبع سلامة قد تبوَّل وخدَّرني، أو أني –بالفعل- كنت أصارع كابوسًا مفزعًا. انتهى من إغلاق الفتحة وإخفائها باحتراف، ثم عدنا أدراجنا إلى المخيم، وفي الطريق اقترب من جحر آخر وأحكمه كسابقه، ولكن هذه المرة بلا جثةٍ ولا ذهب، وبعيدا عنه رسم صليبا من حجارة، وقال لي: - تذكر هذا المكان. كنت أسير خلفه كعبد طوَّقت عنقه سلسلةٌ خفيةٌ، ومازال يكرر على مسامعي: - (عبد القاقا يسمع كلام، يقطع لسان، عبد القاقا يعيش). كنت أصغي له وأهز رأسي، وقد تملكني الرعب، أحدث وأشتم نفسي "ما بك يا عزيز؟! الانسان يموت مرة واحدة! لِم كل هذا الخوف؟! استجمع شجاعتك يا عزيز ولا تدعه يسيطر عليك" خدشت خاصرتي بأظافري وكأني أعاقب نفسي على الخوف الذي اعتراني وتملكني، كان يجب أن يكون هذا القتل أقل رعبا، وبخاصة بعد نحر رشيد، ولكن يبدو أن الموت هو الموت مهما تكرر حدوثه. الاشتباك الذي وقع مُسبقا مع العرب، والعدد الكبير من الضحايا الذين سقطوا أمام ناظريّ، لم يتركوا مثل هذا التأثير في نفسي، حينها كنت وسط جمع من الأشخاص، فاستمديت بعض الشجاعة منهم، وربما أنا جبان لدرجة كبيرة حتى أني لم أعرف هذا الجُبن عند ذبح رشيد، شعرت وقتها بأنني كنت سببا، ولكن سرعان ما تخلصت من ذاك الشعور، ففي هذه المرة ساهمت في ذبح خلدون. قبل وصولنا المخيم قال لي: - امسح الدم عن وجهك، وتذكَّر، المكان الذي دفنَّا فيه الذهب حيث وضعت الإشارة، تذكر ذلك جيدا يا عبد الـ" قاقا باقا". وصلنا وآثار الدم مازالت تغطيه، ولم يفكر في الاغتسال، ثم اقترب من جودت وكان يحمل الوعاء وما تبقى به من دماء، وابتسم قائلاً: - خذ عزيز ليدلك على الموقع لترسم وتنقش علاماتك. أثناء حديثه ركضت نيروز تجاهه وعانقته بقوة، فالتصقت بها آثار الدماء، وانتظر جودت انتهاء العناق ثم سأله: - وأين سائس الجمال الذي رافقك؟ فأجابه بثقة وهدوء: - انتهى أجله، (انت شوف شغلك وأنا بشوف شغلي). لم يعلق أبدا بل هتف للأمهق وعدنا سوية إلى الموقع، لم أنبس ببنت شفة، ولاحظ ذهولي، فسألني: - ماذا فعل طبرق بالعربي؟ لم أتمالك نفسي وأجهشت بالبكاء لمَّا استعادت ذاكرتي مشهد الرعب، وخجلت من بكائي كفتاة صغيرة، وزادني خجلاً شفقة جودت، لم أقل إلا كلمة واحدة كلمة واحدة فقط "ذبحه"، ثم التزمت الصمت، ولم يقل شيئا؛ لم يسأل لماذا، كيف أو متى، ردة فعله أثارت استيائي وحنقي تجاهه، ألا يستحق الموضوع أن يسأل سؤالا واحدا! أم أن الذبح ليس بالأمر الغريب! هل حين يحين دوري ليتذوق خنجر الكعب دمي لن يسأل أيضا؟! ربما سيسأل أين عزيز ويجيبه الكعب "انتهى أجله". وصلنا إلى الجحر الوهمي الذي لم يدفن فيه شيئًا وأشرتُ إليه، وأخذ يسجل ملاحظاته، وطلب من الأمهق نقش الإشارات على صخرة قريبة، ثم عدنا إلى المخيم وكانت شمس الثلاثاء قد سبقتنا إليه، ولم أتساءل إن تم ذبحه قبل منتصف الليل ليكون يوم اثنين، ويبرأ من دمه الثلاثاء اللعين، ما عاد يشغلني إن حدث صدفة، أم أنه القدر المحتوم بمواعدة الموت في الثلاثاء، لقد حدقتُ في عيون الموت مطولا هذا اليوم، ولن يتركني، وليذهب إلى الجحيم هو وكل ثلاثاء لعين! <<<<<<<<<<< نهاية الحلقة 27 >>>>>>>>>>>>



٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page