top of page
  • صورة الكاتب

جرة ذهب - الحلقة الخامسة والعشرون

غادرنا الدليل كاظم ومرافقه وتركا المسلَّحين بصحبتنا، مما أعاد القلق إلى نفوسنا، فمنذ الاشتباك مع العرب لم يقترب منا أعضاء الفرق الخاصة، فالجميع يترقب احتمالية مواجهة خطر على الطريق، نسير من الجنوب إلى الشمال، ولا أخفي أن الطريقة التي التففنا بها وتحوّلنا السريع من اتجاه إلى آخر أربك قدرتي على متابعة الاتجاهات إضافةً لانشغالي بملامسة جسد نعناعتي وتقبيلها بين الحين والآخر بخيالي، كلما سنحت الفرصة.

اقتربنا من حقول تفيض عنبا، فعُثنا فيها خرابا، ولم نشعر برغبة في تناول المزيد، حيث أننا حملنا معنا الكثير، ولم نمنع أنفسنا من قطف ما تصل إليه أيدينا وعصره بأفواهنا من باب التسلية، فلم يكن هناك متسع لاستيعاب المزيد...اقترب الفجر من البزوغ، ولم نستطع التوقف في هذه المزارع، وتوجب علينا الابتعاد عن البشر كما اعتدنا، ولم يكن من السهل تجنبهم.

أشرقت شمس الأحد ولم نتوقف حتى ابتعدنا عن الأراضي الزراعية، وشاهدَنا الكثير من الناس، وكان من المُحال أن نختفي وبخاصة بعد مباغتة الشمس لنا.

ساعات مرت حتى وصلنا الى أراضٍ قاحلة، ومن بعيد رأينا بَدوًا يسكنون بيوتا متواضعة، هي أشبه بالخيم والعرائش منها إلى بيوت الشَّعْر، لم نبتعد عنهم كثيرا، فخلف إحدى التلال كان هناك بئر ماء ولم نجد مفرًا من التوقف.

تم نصب الخيام رغم اعتراض الدليل، وفاجئني جودت حينما قرر أن يرسلني تجاه العرب لأشتري طعاما، وأعطاني الكثير من المجيديات، ووجدت فيها فرصة لاستطلاع المنطقة، وراودتني فكرة الهرب ولكني لم أحبذ ترك كميات الذهب الكبيرة التي لم تدفن بعد دون معرفة مكان دفنها، والأكثر أهمية من ذلك كله أني لا أطيق ترك نعناعتي، وأنا على ثقة بأنها ستكون لي وسترافقني في النهاية. أسرعت لأمتطي أحد الخيول ولكنه أشار بإصبعه تجاه أحد الحمير، ولم يقصد من ذلك أن يقلل من شأني وإنما تجنبًا لطمع العرب، فحدثتُ نفسي: امتطاء حمار تجاه الطعام خير من امتطاء حصان أصيل تجاه الجوع. ويبدو أن حماسي أفقدني حذري قليلا، وهنا تدخل كعب الحذاء الذي أنصت إلى كل ما دار بيننا من حديث ولم يعلق، وصبر حتى اقتربت من الحصان، وقال لي:

- إلى أين أنت ذاهب يا عزيز؟

- ذاهب لشراء خرفان وغذاء كما طلب الباشا.

- وماذا ستخبر هؤلاء العرب حين تصلهم يا عزيز؟

- سأخبرهم أني أريد شراء خرفان وأدفع لهم الثمن وأعود...

ويبدو أن الباشا الذي اكتوى من حرارة الشمس قد عاد إليه رشده وفطن إلى ما يلمح إليه الكعب اللعين، فسألني جودت:

- وان سألوك من أنت ماذا ستخبرهم؟

وهنا كان لابد من أن التزم القواعد السانتورية، فقلت:

- سأقول لهم أنا عزيز أعمل مع جودت أفندي والشيخ طبرق.

وأخذ جودت يضحك، ولا أدرى إن فعل ذلك بسبب غبائي أم غبائه، وقال:

- ولماذا لا تخبرهم بأننا ندفن الذهب؟

أربكني تعليقه الأخير ولم تسعفني بديهتي بالرد السريع وقلت بعد صمت:

- لا لن أخبرهم لأنهم سيسرقونه؛ العرب لصوص وقطاع طرق، إن سألوني عن الذهب سأقول: لا أعرف مكان دفنه...

وما إن أكملت جملتي حتى كاد الكعب يسقط على الأرض من شدة الضحك، وهذه المرة الأولى التي أراه فيها يضحك هكذا، ثم أدركت أنه يضحك على حماقة جودت الذي قرر أن يرسل غبيا لهذه المهمة.

ففضل جودت أن نصبر يوما آخر لحين وصول الطعام، ولكن كعب الحذاء تطوع بنفسه لإنجاز المهمة، وخلع ما يرتديه من ملابس شاذة مبهرجة، وارتدى ثوبا أبيض اللون، ووضع عمامةً وعقالاً على رأسه، وحمل بيده عصا وركب حمارًا وسار باتجاه العرب، وسرق مني فرصتي في الابتعاد عن القافلة وربما تكون الوحيدة.

استغل الباشا غياب الكعب وصحبني إلى خيمته لملء بعض الجرار بالذهب، وتجهيزها لترقد تحت التراب، في انتظار عودتي لأخرجها، وطَبعي الفضولي عاد من جديد، فأمسكت بليرة ذهبية عليها صورة الملك الإنكليزي إدوارد، وسألته:

- هل هذه صورة مولانا السلطان عبد الحميد؟

ضحك وقال:

- لا هذه صورة إدوارد خليفة المسلمين.

في سذاجة:

- بارك الله فيه وحفظه وأطال عمره وحفظ صحته، ونصره على العرب واهل مصر أجمعين.

ضحك مرة أخرى وقال:

- ما حكايتك مع العرب وأهل مصر؟ ولماذا تكرههم؟

قلت:

- أنا تركي يا سيدي والأتراك لا يحبون العرب.

- ولكن العرب جنود في جيشنا ويخدمون الدولة.

- والبغال أيضا تخدم الدولة.

ضحك وقال: معك حق يا عزيز، دولتنا الحبيبة يقودها أمثالك لهذا أصبحنا في الحضيض.

شعرت أن الباشا يرغب في الحديث لمجرد الحديث، ولا يهمه إن كان يجالس غبيا، وإنما كان بحاجه ليفرغ عما يطبق على قلبه، فأردف قائلا:

- ولكن قريبا سيقود دولتنا الرجل الذي يستحق، وسنتخلص من حكم آل عثمان المتخلف.

- ولكن البيك قال إن هذه العائلة هي التي ستحكمنا إلى الأبد.

- لا يا عزيز، الأمة تحتاج إلى بطل يحرر القدس، وبعدها سيتوج وينهي عصر الوراثة.

اختتم حديثه بهذه الجملة، وتركني في حيرة، حتى أني عدت للبحث في ذاكرتي، هل القدس محتلة ليحررها هذا البطل؟! أم أنه قصد شيئا آخر! ملامح وجهه والبريق الذي في عينيه كانا يشيران إلى أمر ما يعرفه ولا يستطيع أن يبوح به.

عاد الكعب يجر خلفه ثلاث حمير اشتراها من العرب، محملة بالجبن والطحين والسكر والسمن، وعدة قرب ملآنة باللبن، والكثير من الخبز الطازج، وخلفه الكثير من الخراف، ولأول مرة أرى أن الجميع يستقبله بابتسام وترحيب، فاحت رائحة الخبز الساخن، ورائحة اللبن كانت شهية، استلمت المؤن هذه المرة، ووقف بيبرس ينتظر، ريثما أنتهي من أخذ ما أريد للباشا، لأنه يتقزز إن لمس طعامه أحد غيري، وبما أني أصبحت المسؤول عن طعام الكعب ونيروز، أخذت ما أعده لهم، وتركت الخادم بيبرس يموت غيظا.

استلم ما تبقى لتوزيع بعضه على الآخرين، واحتفظ بالباقي في عهدته، جهزت الوجبة الأولى لجودت أفندي، وللكعب أيضًا ولم أتمكن من البصق فيها لاقترابه مني، نعناعتي الحسناء لم تكن بالجوار، وأبهج قلبي حين أمرني بأخذ طعامها إلى الخيمة، فذهبتُ وناديتها ولم تخرج، فعدت خائب الأمل، وأخبرت الكعب، وكاد يُغْمى عليَّ من الفرحة حين قال:

- لابد أنها نائمة، ادخل وأيقظها لتأكل.

انطلقتُ كلمحٍ بالبصر، ورددتُ سرًا: "مت بغيظك أيها الخادم البغيض، ها أنا أحصل على تصريح للاقتراب من سيدتك وهي نائمة"، ووقفت بباب الخيمة أحرك شفتي في صمتٍ متظاهرا بمناداتي، وقصدت بذلك أن يشعر من يراقب بأني مهذبٌ ولم أقتحم الخيمة دون تنبيه مَنْ فيها.

بخفة قط يحاول اصطياد عصفور دخلت الخيمة، على أمل الفوز بما سيمتع ناظري ولم أتوقع أن أرى كل هذه الفوضى العارمة؛ ثيابها وملابسها الداخلية ملقاة على الأرض وفي كل مكان، والتراب فوق الأبسطة، وحقائبها مكسوة بالغبار وأحذيتها الثمينة متناثرة فوق الفراش وفي كل زاوية.

لا تليق هذه الفوضى بسيدة! كان عليها أن تدخل خيمة جودت لتتعلم كيف تكون النظافة والترتيب، وكونها تعيش داخل الخيمة مع خنزير لا يعطيها عذرا لتعيش وسط هذه القمامة، هذه الفتاة بحاجة لقضاء يوم واحد مع نازلي هانم لتتعلم كيف يجب أن تكون سيدة راقية.

من تملك مثل هذه الأحذية الجميلة لا يحق لها أن تتصرف هكذا، لا بأس عندما سأعود بالذهب وأصحبها معي سأعلمها كيف تكون سيدة مجتمع، أو ربما سألقيها في البحر وأبحث عمن تليق بمكانتي، اللعنة على فراشها كيف تستطيع أن تسترخي في هذا الغبار!

استلقت على بطنها، ودفنت رأسها في الوسادة، وقد أخفى شعرُها وجهها وتناثر فوق ثوبها الناعم، الذي لم يشف عن ردفيها، بل كان مشدودا ليبرزهما، وارتفع قليلا ليكشف شيئًا من فخذيها... وقفت أتأملها فهي لم ترتد أية ملابس داخلية، وددتُ أن أقلبها على ظهرها لأمتع ناظري قليلا، لم أمنع نفسي من الحبو إليها أتحسسها وأقبِّل ظهرها وردفيها حتى خارت قواي ورميت بثقلي فوقها، فأيقظتها حرارة جسدي وثقله...حرَّكت يديها ومالت برأسها قليلا، وأخذت ترمقني بطرف عينيها متأوهة:

- عزيز...خذني...أريدك الآن يا عزيز...متِّعني يا عزيز...عزيز.

ارتعدت فرائصي حينما باغتني الكعب واقفا خلفي مرددًا:

- عزيز ماذا تفعل؟

علقت الكلمات بحلقي من الخوف ولم تخرج:

- اتتتتتتتتتت..

فسألني:

- لماذا تقف كالصنم ولم توقظها؟

عاد وعيي بعد أن تأكدت أنه لم يدخل رأسي ويكتشف ما في مخيلتي، ثم انطلق صوتي:

- لقد حاولت يا سيدي ولكنها لا تستيقظ...

انحنى فوقها ومد يده وهزها من كتفها:

ناره أفيقي وتناولي الطعام.

لم تتململ وللحظات اعتقدت أنها ماتت مثل خالتي دولت، وخفت أن يتهمني بخنقها، فهزها بقوة:

- هيا يا ناره استيقظي وتناولي الطعام.

حركت رأسها في تكاسل، ومالت بعينين ناعستين، ثم ابتسمت وقالت:

- حبيبي طبرق.

ثم أخذت تتثاءب، فمسد على شعرها قائلاً:

- تناولي طعامك وأعطي ملابسك المتسخة لعزيز ليغسلها.

لم يأبه هذا الحقير بصدرها العاري فخرج وائتمنني على نهديها، ومازالت تتثاءب وتحرك عنقها في كسل، وأنا أردد سرًا لا تتعجلي واستيقظي على مهل، معك كل الوقت ودعيني أتلذذ بمراقبة جسدك قليلا، اطلبي مني أن أطعمك بيدي وأن أعيد ترتيب شعرك قليلا، وكم يسرني إن سمحتي لي بخلع ملابسك لتكوني أكثر تحررًا وراحة، وفجأة وثبت كالغزال وأمسكت برغيف الخبز وأخذت تردد:

- خبز، خبز، أوه من زمان عنك يا حبيبي!

رائحة الخبز أعادت إليها نشاطها، فأرخت ثوبها وحرمتني من متعتي، وقالت حينما ناولتها الطعام:

- (شكرا عزيز غلبتك معي).

أمسكت برغيف الخبز الرقيق المدهون لبنة بإحدى يديها، ولملمتْ ملابسها المبعثرة بالأخرى، وكوَّمتهن وسط الخيمة، وقالت ثانية:

- (شكرا عزيز غلبتك معي).

حملتُ ملابسها القذرة وخرجت، ولم أجد حججا لأطيل البقاء، وقبل خروجي قالت:

- أتريد أن أساعدك؟

لم تنتظر لتسمع ردي:

- (شكرا عزيز غلبتك معي).

انصرفتُ محدِّثًا نفسي؛ سيراني الجميع أغسل ملابسها، وسيسخرون مني سرًا وعلانيةً، فكيف سأتجنب الحرج؟ كان بإمكاني أن أعطيها لسالم أو أحمد شيخه، كما اعتدت أن أفعل مع ملابس جودت مقابل سجائر وشوكولاتة، ولكني لا أريد أن يشتم رائحتها غيري، بدايةً حرصتُ على أن أقوم بذلك سرا، ويبدو أني تناسيت بأني سانتور وهذا دوري، ومثل هذه المهمة ستعزز مكانتي السانتورية، غسلتها وكدت أمزقها محاولا إزالة بعض البقع، واكتشفت أن مهمة غسيل ملابس النساء الناعمة أصعب من غسيل ملابس الرجال الخشنة، وكلاهما أكثر إرهاقا من الحفر.

بعد الغسيل لم يتبقَ من الشمس ما سيساعد على تجفيف الملابس، وكان لابد من نشرها لتجف، ومن الأفضل أن تكون بجانب خيمتها بعيدا عن أعين الأوباش، فعدت لها بالغسيل وأعددت لها منشرا، وكافأت نفسي بالاحتفاظ بأحد سراويلاتها الداخلية؛ تركته يسقط بين الصخور ولم أغسله، حتى لا أفقد رائحتها، سأعود إليه لاحقا وأحتفظ به إذا لم تتذكره، أما إن تنبهت لفقدانه سأدَّعي بأنه سقط سهوا، وسار كل شيء كما أردت، وحصلت على مكافأتي واحتفظت بسروالها، ومن ثم ساعدتها بتنظيف وترتيب الخيمة، وفرحتْ لذلك كثيرا، لم أدعها تقم بأي مجهود، بل فقط بالمراقبة، وأرهقتْ نفسها بين الحين والآخر بتكرار كلمات:

- (شكرا عزيز غلبتك معي).

قبل خروجي من الخيمة وصل الكعب، وكنت أعتقد أنه سيُسر حينما يرى ما أحدثته فيها وسيشكرني، ولكن كان العكس فقد اتقدت عيناه غضبا، وأخذ يبحث في أرجاء الخيمة بارتياب، حتى اعتقدت أنه سيتهمني بالسرقة، ثم صرخ بي قائلا:

- من طلب منك ذلك؟!

هنا تبرمت نيروز، وقفزت الدموع من عينيها لفظاظته معي، وقالت:

- أنا طلبت منه ذلك.

فقال:

- لا أقصد أن هذا سيئ، وإنما نحن على وشك الانتقال بعد قليل وما كان يجب أن يتعب نفسه.

وأخذ يتظاهر بأنه يضحك، وقهقهته كانت أشبه بالنهيق، وقال:

- أحسنت عزيز، عليك دائما أن تأتي لتساعد ناره، اتفقنا؟ والآن تعال معي أحتاجك في أمر.

مشينا سويا حتى ابتعدنا قليلا ثم أمسك بذراعي وضغط عليه حتى شعرت بأنه سيسحقه، وقال همسا:

- أتذكر ما حدث مع رشيد؟

فأجبته:

- نعم يا سيدي أذكُر.

فقال بلهجة تفيض تهديدًا ووعيدًا:

- اقطع لسانك، وإن سمعت أنك تحدثت فيما رأيته داخل الخيمة ستلاقي مصير رشيد، أفهمت؟

رددت عليه:

- لن أفتح فمي يا سيدي ولن يعلم أحد بما رأيت.

لم أجد منطقا لما حدث...ابتعد وتركني في حيرة، ما الذي يخشى أن أخبر عنه! أيقصد جودت أفندي! لا يُعقل أن يكترث لغيره، ومن المؤكد أن هذا الخنزير لا يقصد تلك القذارة التي ملأت الخيمة، ولو أراد ذلك لأخبرني بعد دخولي أول مرة لإطعام نيروز...هناك شيء خطير يخفيه داخل خيمته وأعتقد أنى رأيته، ربما استنتج ذلك حينما رأى كل الحقائب قد تحركت من مكانها، لقد شغلتني نعناعتي عن التلصص، وها أنا ذا مهدد بالموت إن أخبرت أحدا بما لم أره...إنه يعتقد أنى قد رأيته ولن يكون حريصا على ألا أرى ما يظن أني رأيته، وعاجلا أم آجلا سأكتشف السر...لعنة الله على كعب الحذاء، أفسد عليَّ روعة يومي.


<<<<<<<<<<<<<<نهاية الحلقة 25>>>>>>>>>>>>>>



٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page