top of page
  • صورة الكاتب

جرة ذهب - الحلقة الثالثة والعشرين

أما أنا فيبدو أني نمت ساعات طويلة، وحينما صحوت رأيت سلامة يتسلل خارجا من خيمة المؤن حاملا على كتفه شوالا، لعله فضَّل سرقة الطعام لطبيلة عن سرقة الذهب لنفسه، وغياب بيبرس سهَّل مهمته، ولم يعرف أن الجميع سيغرق في اللحوم قريبا، وسيأكل حتى تضيق الأنفاس.

تذكرتُ نعناعتي فبحثت عنها ولمَّا لم أجدها، راودتني مذكرات روهان، فعدتُ إليها: مللت تحليل الكلمات المشفرة وذهبت لأعتني بنجمة، وتعمدت إحداث جلبة لألفت انتباه جودت، ولكنه كان مازال نائما، فذهبت في جولة بالقرب من الصخور متجنبًا الاقتراب من الجميع وبخاصة سلامة؛ حتى لا يسألني عن رشيد.

دفعني فضولي ورغبتي في الابتعاد عن الجميع إلى تسلق الصخور محاولا الاقتراب من البيوت المهدمة ببطن الجبل...كلما اقتربتُ أخذتني الجرأة لأستمر، وكان من المُحال الوصول إليها دون الالتفاف حولها، وعندما شارفت عليها شققت طريقي نزولا، ولمَّا لم تفصلني عنها عدة أمتار وصلتْ مسامعي صرخاتُ امرأة تستغيث بكلمات غير مفهومة، وكأن هناك من يخنقها.

لحظات حتى أدركت أن المستغيثة هي نيروز نعناعتي، فدبَّ الخوف في قلبي، وقررت أن أهرب لاستدعاء مَنْ يغيثها؛ فأنا لست بجندي ولا أجيد القتال، ولن ألقي بنفسي إلى التهلكة، وقبل أن أستدير هربا تحولت رنة الصوت من استغاثة إلى طرب، وامتزجت غمغماتها بالموسيقى والألحان، وما كاد ليطمئن قلبي حتى عادتْ للصراخ، فلم يكن أمامي إلا الإسراع في طلب النجدة، ولكن انقلاب الصوت تارةً أخرى كان أسرع من استدارتي، فأردتُ التأكد من استغاثتها أو طربها! أقتربُ في حذر شديد فإذا بقدميها عاريتين ممددتين على الأرض، فانتابتني رعشة لاقتراب تحقق حلمي؛ أكاد أرى جسدها بلا ساتر، حلمتُ بهذا كثيرًا، وها هي عارية، أطالع النظر شيئًا فشيئًا فتزداد رعشتي، وتتسارع نبضات قلبي، ولكن هيهات هيهات...واحسرتاه! لقد كان جسد المسخ اللعين فوقها عاريا، اتكأ على يديها الملتصقتين بالأرض فلم تستطع الحِراك، بل تقلِّب وجهها يمينًا ويسارًا ليتناغم مع تقلُّب ملامحِه، وتغيُّر نبرةِ صوتها بين التوجع والتلذذ؛ لقد كانت تتأوه، وما كانت لتستغيث إلا بالمسخ الحقير ليطفأ نارها المُتأججة... ما رأيته لم أره طِيلة حياتي، ولطالما تخيلته مع كل امرأة تمر أمامي، ما أحسسته كان أقوى من الخوف، فلم أنفك أراقب وأعبث حتى عاد إليَّ رشدي وقررت الابتعاد قبل أن يمسك بي الكعب ويجعلني أستغيث وأستغيث... تراقص اللعين فوقها طويلاً، ولم تكن رقصة الـ "القاقا باقا" هذه المرة، ربما تكون الدماء بلونها الأحمر المفزع ما يدفع المسخ ليخضِّب جسده وأعضاءه بالدماء ويثير جنونه لممارسة هذه الطقوس...وربما فعل الملعون ورقص الـ "القاقا باقا" فوق جسدها عندما افترس أنوثتها الساذجة، وفض خاتمها في أول لقاء...ليتني كنت خادمًا له في تلك اللحظة ليشرفني بدمائها وأشاركها في الأمر، ولو كان مجرد الرقص والتحديق...انصرفتُ هائمًا على وجهي، ولم أدر كيف عدتُ إلى المخيم. جلستُ صامتًا حتى نادى عليَّ جودت وسألني عن إطعام فرسه، فقلت:

- وضعتُ لها الماء، ولكن حينما وصلنا ونصبنا الخيمة رأيتك دخلتها ولم تخرج! ولم أرغب في إزعاجك، فعدت لاحقا وكنت أيضا لاتزال نائمًا وانتظرتك لتصحو حتى أتمكن من إطعامها.

رد علي قائلاً:

- في المرة القادمة حتى ولو كنت نائما بإمكانك الدخول، وكان أحب إليَّ أن تزعج نومي على أن تبقيها بلا طعام.

أحنيت رأسي واعتذرت، ثم دخلت وأخذت من العلف ما يكفي، وقبل ذهابي ناداني وأعطاني قطعًا من الشوكولاتة، فشكرتُه كثيرا، على الرغم من رخصها ورداءتها مقارنةً بما أحمله معي، ولكن لا بأس قد تنفعني في رشوة أحدهم عند الحاجة.

عدتُ إلى مقر إقامتي الفاخر بجانب شجرة زيتون روماني، فاستلقيت وأخذت أستعيد أحداث الكابوس اللذيذ، وأتساءل:

- كيف يمكن لفتاةٍ مثل نيروز أن تمارس مثل هذه العلاقة مع قرد!

وجدتُ راحةً في إيهام نفسي بأنه أجبرها على ذلك، نعناعتي المسكينة كانت تتغنج وتتأوه، ولابد أنه أجبرها على ذلك أيضا! من المُحال أنها فعلت ذلك برغبتها! حتى الدابة ما كانت لتقبل على إقامةِ علاقة مع هذا الخنزير!

لو يدرك البشر نعمة النسيان التي وهبها الله لهم لشكروه ليلَ نهارَ، والحمد لله على ما ابتلاني من ذاكرة فولاذية يُحال اختراقها لشطب أو استبدال، فكل ما تراه عيناي سيرافقني إلى الأبد، حتى أدق التفاصيل.

لقد رأيت الكعب عاريا حين ذبح رشيدًا، ولكن الرؤية الليلية لم تساعدني على ملاحظة الندوب في جسده، أمَّا عند رؤيتي له عاريا فوق نعناعتي نهارًا وجدتُ في جسده الكثير من الندوب التي تدل على أنه تعرض لعدد كبير من الطعنات، كما كان ظِفر خنصر قدم نعناعتي الأيسر فيه شق ناتج عن كدمة، وبأسفل قدمها كانت هناك عدة نقاط ناتجة عن وشم، وتبًا لذاكرتي اللعينة!

سلامة أطل برأسه من وراء الخيام الثلاث، وكان قادما نحوي، ولم أجد طريقة للهرب منه سوى تقليد عبد القادر، فأغمضت عينيَّ ونجحت في إبعاده، وعلى الجانب الآخر كانت هناك شجرة زيتون رومانية وقف في ظلها الكعب وجودت، وحركات جسديهما تشير إلى أنهما قررا زرع بعض جرار الذهب في هذا المكان، وهذا ما حدث.

في ساعات ما بعد الظهر قمنا بالحفر والدفن، ورقصة السعدان والـ "القاقا باقا" لم تكن حماسية كما كانت في ساعات الليل، وجودت يراقب هذا الهراء بامتعاض، ويشيح بوجهه حتى يخفي ابتسامته التي ترتسم رغمًا عنه، وقد امتعض الكعب عند ملاحظة ذلك، وكان الأجدر به أن يبحث عن رقصة وكلمات جديدة حتى لا يشعر القوم بالملل، ويصدقوا هراءه.

عاد الضجيج وروائحه الكريهة بعودة بيبرس والدواب، وبعد الغروب وفي ساعات الليل كنا نتسلل كاللصوص ونسير لمسافات تصل أحيانا إلى آلاف الأمتار، ونقوم بالحفر، والدفن، والنقش، والـ "قاقا باقا"، وأحيانا نقوم بذلك في ساعات الفجر الأولى بسبب اختفاء القمر وتعذر الرؤية؛ أربعة أيام مظلمة قضيناها في المكان نفسه، وأكلنا من اللحوم أكثر مما أكلناه طوال حياتنا، بفضل جمل كُسرت ساقه، ودعوت الله أن يتعثر كل يوم جمل حتى لا نجوع.

علاقتي بالحسناء تطورت، فأصبحت المسؤول عن طعامها، وكنا نجلس كثيرا ونتحدث، والكعب لم يشعر بأية غيرة، أما الخادم اللعين بيبرس فقد توقف عن مراقبتي أو الاهتمام بما أفعل، إلا أنه بقي ينغص عليَّ حياتي، ولم ينجح في إخفاء إنجذابه إليها.

لا أحد يتلصص ويستطيع كشف المتلصصين مثلي، عيناه لا تخفي ما تحمله من شهوة تجاهها، وبالرغم من ذلك يتعامل معها كمحرمة عليه، ولو كان –فعلا- لا يشتهيها لما أرهق نفسه بالهرب من افتتان عينيه بجسدها، من المؤكد أنه يحبها سرا، وربما يخفي شوقه خوفا من سيده، إنه أكثر مني وسامةً ولستُ له بمنافس، ولو جمعتهما علاقة لتفهمت الأمر، ولم أجد فيه غرابة كغرابة علاقتها الشاذة مع هذا المسخ العجوز القبيح المشوه، وهي دون العشرين، ليست خارقة الجمال ولكنها تنضح بالأنوثة والطيبة والبراءة.

قبل نحر رشيد -رحمة الله عليه- بيوم واحد أقسم الأيمان أنه على ثقة بأن طبرق عشيقها، فلم أصدقه وهاجمته بشدة، ومنذ اختفائه وأنا أتحاشى لقائي بسلامة الذي لم يتوقف عن ملاحقتي، ولم يكن أمامي إلا أن أحسم الموقف، فأعددتُ له الجواب المناسب، وحينما عاد الكَرَّة لم أهرب منه، وبدأ بمناورات وأسئلة روتينية عن نجمة التي حسدني على اعتنائي بها، فشكرتُه على تعليمي، وبدا تائهًا لا يجد طريقة لسؤالي، ولا داعٍ لأكون معه سانتور؛ ففي هذه القافلة اثنان يعرفان جيدا أني لست أبلها، الأول دُفن مع الذهب، والآخر يقف أمامي ويحلم بالذهب، وكان لابد أن أضع النقاط على الحروف، فبعد مقتل رشيد لم يعد هناك هامش للمناورة والمقامرة، حياتي على المحك ولن أضعها بين يدي عربي، فقلت له مباشرة:

- عمي سلامة، أعلم أنك تبحث عن طريقة لتسألني عن رشيد، وأين اختفى، سأخبرك بما حدث ولمصلحتنا معًا التزام الصمت، لقد سرق رشيد جرة ذهب وهرب بعيدا، وتم الامساك به، ولحسن حظنا أصابته رصاصة وقتلته، ولولا ذلك لتم التحقيق معه واعترف على ما خططنا له، أريد أن يطمئن قلبك، فلم يعرف أحد سرك، ومادام الجميع على قناعة بأني مجرد أبله سنبقى بخير.

أحنى رأسه وابتعد، وأخبرتني عيناه بفهم مغزى كلامي، وقد صدقته فهو شيخ كبير غزاه الشيب، وليس شابا متهورا كرشيد، يثرثر أحيانا ولكنه يعرف متى يجب عليه الصمت، أنا لا أحبه ولكنه استحق احترامي واحترام الجميع.

كل يوم عندما تبدأ الشمس بالتثاؤب وإسدال جفونها، يبدأ إيليا الأمهق بالعزف على نايه الشجي، وتلك هي اللغة الوحيدة التي يجيدها، فأشعر بقشعريرة تسري في عظامي، وأبدأ بالتساؤل عن عدد الجرار التي سنخفيها، وعن الطرق التي سنسلكها...بعد ذبح رشيد لم أعد أشعر بالشوق لمعرفة المزيد عن مواقع الدفن، فالجرار التي أعرف مكانها تكفيني لأعيش ملكًا لمئة عام، ومرافقة الكعب تصيبني بالغثيان وتجعلني أتساءل عمَّن وقع عليه اختيار الذبح، وبخاصة بعد انتقاله من ذبح الحمير إلى ذبح البشر، كنت أدعو الله ألا أرافقهم، وأبقى بالقرب من نعناعتي، ففكرت في طريقة لإقناع جودت بإبقائي لرعاية فرسه كي أتجنب مرافقة الكعب اللعين، ولكن يبدو أن خطتي السانتورية قد عمقت إيمانه بأني لا أجيد التآمر والكذب، وأن غبائي سيفضح الكعب إن تلاعب، فكان إصراره الدائم على أن أرافق الكعب في كل مهمة، ولو لم يكن ذلك هدفه لأبقاني بالقرب من نجمة وبخاصة أني الوحيد الذي يأتمنني عليها.

وبالرغم ممَّا وصلت إليه من حظوة عند جودت أفندي لم أطمح أن يسمح لي بدخول مغارة علي بابا لألتقي بالذهب مباشرة وجها لوجه دون جرار تحجب بريقه، كنت أعتقد ألا يثيرني في الوجود أكثر من جسد امرأة، واكتشفت أن للذهب سحرًا يفوق سحر النساء.

كان الأربعاء وزين الهلال السماء، فجاء إليَّ سالم وقال:

- جودت باشا يريد...

لم أنتظر ليكمل الأحرف الأخيرة من جملته حتى وجدت نفسي واقفا بباب خيمته ورفعت صوتي ليسمعني:

- سيدي أنا هنا.

- ادخل يا عزيز.

دخلت الخيمة ومنها إلى الأخرى الملتصقة بها حيث كان ينتظرني، فطلب مني أن أحضر عدة جرار كانت مركونة بطرف الخيمة الأولى، فحملتها ووضعتها وسط الخيمة الثانية، ثم فتحت الصندوق بناءً على طلبه، وكان يبلغ ارتفاعه سبعين سنتيمترا، وعرضه خمسين وطوله مئة، مملوء بالقطع الذهبية، ابتسم وسألني:

- هل تعرف ما هذا؟

كان سؤالا غبيا يُطرح على أحمق، ولكنه جاء في وقته حيث كدتُ أغرق داخل الصندوق، فأبعدت عيني عن الذهب فورا، ومثل هذا السؤال لا يمكن الإجابة عليه إلا بطريقة واحدة، فقلت:

- إنه ذهب يا سيدي.

ابتسم وقال:

- وكيف تعرف أنه ذهب يا عزيز؟ ولِمَ لا يكون نُحاسًا مثلا؟!

أغمضت عيني اليمنى، وشددت عضلات فمي، وقصرت أنفي كمن يفكر بتركيز شديد، ثم أجبته:

- لا يا سيدي إنه الذهب، وأنا تعلمت عنه، وأعرف كل شيء عنه ولدينا منه الكثير.

تفاجأ قليلا من جوابي فسأل:

- عندكم منه الكثير! كيف ذلك وأين؟!

أجبته بزهو وافتخار:

- عندنا بالمخازن أكثر من عشرة آلاف صندوق ملآنة بالذهب، ويفوق هذا لمعانًا.

ضحك وقال:

- عشرة آلاف صندوق مرة واحدة يا عزيز! ملآنة بالذهب! في العالم كله لا توجد مثل هذه الكمية!

- أقسم بالله يا سيدي أني أقول الحقيقة.

- وكيف عرفت أنها ملآنة بالذهب؟

- لقد رأيت بأم عيني يا سيدي.

لم تُخفِ ملامح جودت أفندي الحيرة التي اعترته مما قلت، وربما شك للحظة عن إمكانية وجود مثل هذه الكمية الكبيرة فعلا، فسأل:

- وكيف رأيتها؟

الحقيقة أني لم أكذب بعدد الصناديق، كان هناك آلاف الصناديق، ولكنها لم تحوي ذهبا ولا فضة وإنما آثارا ذات قيمة، وأخرى لا تساوي قيمة الصندوق التي تقبع فيه، وتنتظر أن يتم فرزها، للتخلص مما لا قيمة له، واعتاد روهان بيك أن يردد:

- "بعض هذه الصناديق أغلى من الذهب".

أجبت جودت بكل براءة:

- لقد أخرج البيك من جيبه قطعة واحدة من الذهب، وقال لي: إن الصناديق كلها ملآنة بالذهب، ويجب أن أحرسها جيدا، وألا أسمح لأحد من الاقتراب منها حتى لا يتغير لونها.

انفجر ضاحكًا وقال:

- ولماذا لم تفتح الصناديق لتتأكد أنها مملوءة بالذهب؟

أجبته:

- قال البيك: إن الذهب إن تعرض للهواء يتغير لونه ويفسد.

ضاحكًا:

- معه حق، الذهب أفسد كل البشر، لهذا يفسد من الهواء، هيا املأ جرة كبيرة وواحدة صغيرة ذهبًا، والأربع الباقية املأ نصفها ترابًا.

<<<<<<<<<<<نهاية الحلقة 23>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>

يتبع>>>>>


٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page