top of page
  • صورة الكاتب

جرة ذهب - الحلقة الثانية والعشرون

تاريخ التحديث: ٢٨ يوليو ٢٠١٨

وأشار بيده إلى الطريق التي سلكها الكعب...لكزني قلبي وراودني إحساس سيئ مثير للريبة، ذاكرتي تستعرض الأحداث، حماقات رشيد كانت مكشوفة ولم تغفل عنه عينا بيبرس، وهمساته قبل قليل في أذن سيده أثارت شكوكي، ولا مكان للمصادفة في طلبه من رشيد مرافقة حمار الذهب في اليوم نفسه! هناك خدعة ما، سقت الحمار وسار رشيد أمامي في طريقنا للكعب الذي ينتظرنا خلف التلة، حسب ادعائه، وفي الطريق أخذ يتمتم لي:

- إنها فرصتنا يا عزيز.

لم أفهم ما يريده بالضبط، واعتقدت أنه ربما قد فكر أن يفتح إحدى الجرار ويخرج منها بعض الذهب دون ملاحظة أحد، ولم يخطر لي ببال أن حماقته دفعته ليفكر في سرقه الحمار وما يحمله، وحينما كشف لي عن نواياه التفتُّ حولي بحذر وهمست له:

- أيها الأحمق إنه كمين معد سلفا لاختبارنا.

لم يتوقف عن تحسس الجرار، وعلمت أنه وقع تحت سحرها، بذلت جهدي لأثنيه عن ارتكاب هذه الحماقة، إلا أنه أصر على أخذ الحمار وحده إن رفضتُ مرافقته، لم أكن لأقتل نفسي من أجل هذا العربي، أمسكت برسن الحمار بقوة، وحاول سحبه مني، لم أكن مقاتلا ولا جنديا مثله، وكل ما استطعت عمله هو أن أبقى ملتصقا بالحمار، فلكمني على وجهي لكمةً أسقطتني أرضا، ولكن لم أستسلم بل أمسكت بساق الحمار الأمامية، فأخذ يركلني بقوة، وفجأة سمعنا صوتا:

- أين أنتم أيها الأولاد؟

تراجع رشيد ووقفت، ثم سرنا تجاه الصوت، والأحمق رشيد لم يدرك أن الصوت كان على يميننا وليس أمامنا وهذا يعني أن هناك من كان يراقب، سرنا مسافة تزيد عن المئة متر، وكان الأمهق وبيبرس في انتظارنا عند منتصف الطريق، ومرت دقائق قبل أن يطل الكعب من خلف الصخور، وأشار بيده إلى صخرة، فتوجه إليها الأمهق مع معداته وبدأ ينقش رموزه، وهذه المرة الأولى التي كان النقش فيها قبل الدفن.

على مسافة عشرة أمتار بجوار صخرة أخرى، طلب من خادمه بيبرس أن يأخذ رشيدًا ويقوما بحفر حفرة، أما أنا فبقيت بجانب الحمار، ثم اقترب مني وسألني:

- لماذا تأخرتم؟

نبرة صوته دلت على أنه راقب وشاهد العراك، ولم يكن أمامي إلا أن أخبره بالحقيقة التي لاشك أنه شاهدها، برمت شفتي وقلت:

- أراد رشيد أن يأخذ الحمار، وجودت أفندي أوصاني أن أسلم الحمار لك سيدي.

تلاعبت بالكلمات، فلم أقُل أراد سرقته، بل قلت أراد أخذه، والجملة الثانية تعفيني من تحمل المسؤولية ولا تشير لسرقه بوضوح، فمد يده وأخذ يتحسس وجهي وقال:

- وماذا أصاب وجهك يا عزيز؟

علمت أن جوابي على سؤاله سيضع النقاط على الحروف، والأحمق لا يكذب ولا يموه، فأجبته:

- لقد ضربني رشيد.

- لماذا ضربك؟

- لأني منعته من أخذ الحمار.

ابتسم وربت على كتفي قائلاً:

- اذهب وساعدهم.

انتهينا من الحفر، ودفنا جرة واحدة، ثم انتقلنا إلى مكان آخر، وبعد الانتهاء من الحفر ونقش العلامات، طلب من خادمه أن يصحب الأمهق ويعودا إلى المخيم، وطلب منا أن نضع الجرار الثلاث بالحفرة، وقبل أن نهيل التراب أخذ يؤدي رقصة السعادين ويتمتم بهرائه المعتاد والـ "قاقا باقا"، ثم نزل الحفرة، ونادى على رشيد، وطلب منه أن يقلب إحدى الجرار، فانحنى رشيد ليفعل، وقبل أن يحركها فاجأه الكعب بإمساك شعره وشده، ثم حزَّ عنقه بخنجره الذي أخفى مقبضه بباطن كَفِّه، ونصله تحت كُمِّه، فتدفقت الدماء كالشلال، وفتح رشيد فمه، وأخذ يشخر وجحظت عيناه، وأنا لم تعد تقوى ركبتاي على حملي، فسقطت على الأرض وأخذت أتقيأ، حتى شعرت بأن روحي تفارقني وبدأت أتلوى، وضممت ركبتي إلى بطني وما عدت قادرا على فعل أي شيء سوى مراقبة طقوس الكَعب الشيطانية التي ملأت قلبي رعبًا.

تعرى من كل ملابسه ومد كَفِّه وغرف من الدماء التي تجمعت في قاع الحفرة، وبدأ يمسح بها جسده وأعضاءه التناسلية بمتعة غريبة، ولم يعد بمعدتي ما تُخرجه، خرج من الحفرة وترك الدم يسيل من كَفِّه على وجهي، بينما أنا جثة هامدة لا تقوى على الحِراك، وربما كان في رشيد المذبوح أثر للحياة أكثر مني، كنت مستسلما خاضعا وهو يدوس بقدمه على وجهي، وينشر الدماء على جبيني وأنفي، لم أتمنى شيئا أكثر من أن يسرع بذبحي إن أراد ذلك، ولينتهِ عذابي.

انتهى من رقصة السعدان الشيطانية والـ" قاقا باقا" التي رددها عشرات المرات، ثم ارتدى سرواله الأسود، وقطافا غريب الشكل، وبعدها العباءات والسلاسل والخواتم، وشد خصره بالحزام، وأعاد الخناجر الثلاث، وأمرني بالنهوض ثم بدأ بردم الحفرة بالتراب فوق رشيد وجرار الذهب، خارت قواي ولم أستطع النهوض، فاقترب مني وأمسك إبطي وشدني وكأني ورقة بين يديه، ثم صفعني أكثر من مرة، فوقفت ميتا بلا روح، وبدأت أجرف التراب وأردم الحفرة، حاولت تجنب النظر إلى رشيد، ولكني قررت بعدها أن أنظر إلى المصير الذي ينتظرني، كان الحمار يحمل أربعة جرار، وها هو رشيد ينام بجوار ثلاثة منها، وأنا أخاطبه سرًا آملاً أن تسمعني روحه:

- لقد كنت ذكيا يا رشيد حينما توقعت أنهم سيقتلوننا ويدفنونا، وكنت أحمقا حين اعتقدت أنهم لن يفعلوا ذلك إلا بعد الانتهاء من دفن آخر جرة ذهب، أيها المسكين المتهور، الموت بالرصاص رفاهية لن ننالها، ولن يحدد موعدنا مع الذبح سوى خنجر المسخ، أقسم لك يا رشيد أني سأخرج من هذه القافلة حيا، وحين أعود لأحصل على الذهب لن اقترب من قبرك، وسأترك لك الجرار الثلاث؛ فقد دفعت ثمنها غاليا.

كنت أهذي وأهذي ولا يغيظ الموت أكثر من السخرية منه، تساءلت إن كنت بطريقة أو بأخرى سببا في موته، ولكن لا...لا أشعر بأني مسؤول، لقد نصحته كثيرًا، ولن ألوم نفسي، ماذا كان بوسعي أن أفعل؟! هل أتركه يسرق الحمار والذهب وأُعرض نفسي للتهلكة؟! وهل اعتقد أنه يستطيع التملص من الفرق الخاصة التي تراقب الطرق وتحيط بنا؟! أي أحمق الذي اعتقد أن قافلة تحمل كل هذا الذهب ستكون مكشوفة للعرب وقطاع الطرق؟! لماذا لم يصغِ إليَّ حينما أخبرته أنه كمين من طبرق، وأن كل ذلك كان معد سلفا؟! ولو جاريته لكنت الآن مذبوحًا راقدًا معه بجوار الجرار الثلاث.

انتهينا من الدفن وجمعت العدة، ووضعتها في خرج الحمار ومشيت أتبع الكعب كعبد يسير خلف سيده، فأخذ يخاطبني دون أن يلتفت:

- عزيز...ما دفناه دفناه...ادفن لسانك جيدا حتى لا أقطعه لك، اليوم عاقبت رشيد لأنه اعتدى عليك، ولا أحب أن يعتدي أحد على خدمي وخدم الجان، هل فهمت؟

أحنيت رأسي بالموافقة على ما قال بالرغم من أنه يسير أمامي ولن يراني، فكرر سؤاله:

- أفهمت يا عزيز؟

فأجبته:

- نعم فهمت.

وقلت سرًا:

- لقد فهمت يا "اروسبو اغلو"، لقد فهمت يا ولد السقيطة.

ثم تابع قائلا:

- من اليوم يا عزيز كل ما تسمعه أو تراه تأتي لتخبرني به مهما كان، هل فهمت؟

أجبته:

- فهمت... فهمت...

وقلت سرًا:

- فهمت يا ابن السقيطة.

عدنا إلى القافلة، والنار تأكل عقلي وقلبي، هلوسة مجنونة تجتاحني، أبحث فيها عن القليل من الراحة، أتخيل عراكا بالخناجر وأجد نفسي أسير فوق الكثير من الجثث، ارتعبت كثيرا ولكن تذكُّري البيك وحيان شد من أزري، وتخلصت من كوابيسي خلال أيام، ولكني لا أعتقد أني سأتخلص بسهولة من ذلك المشهد الوحشي، لم أعتقد يومًا أن يُنحر أحدٌ أمامي، ورشيد سيرافقني إلى الأبد، وكيف سأتخلص منه وأنا أشعر بأن لي يدًا في موته؟!

كان يجب أن أحذره منذ اليوم الأول أن بيبرس يراقبه، ربما كان بإمكاني إنقاذ حياته لو بذلت جهدا أكبر، حقدي عليه من حادثة البئر جعلني أتمنى موته، وربما لم يقتله سوى أمنيتي.

أعلم أني أهلوس وهذه الهلوسة ستقتلني، أين المنطق فيما أحدِّث به نفسي؟! وما دخلي أنا؟! لقد اختار رشيد مصيره ودفع الثمن، لا أشعر بالأسى تجاهه، وأحمد الله أني لم أدفع ثمن حماقته، ولكني أتساءل:

- هل جودت أفندي مطَّلع على ما حدث؟ هل له يد في مقتل رشيد، وهل أرسلني مع جرار الذهب ضمن خطة متفق عليها مع الكعب؟ هل لو تركت رشيد يسرق الحمار لذبحنا الكعب معا؟ أم كل ذلك محض مصادفة؟ هذه المرة الأولى التي لم يرافقهم ليسجل ملاحظاته عن المكان!

لا تبدو هذه مصادفة أبدا، أستعيد الأحداث وأستعرضها في مخيلتي؛ جودت كان مرهقا ولم يخفَ عليَّ ذلك، لقد قال لي: "أعطِ الجرار لطبرق وعُدْ لاستبدال الماء لنجمة" ولم يطلب أن أرافقهم، ولماذا أهتم؟! ولو كان على اطلاع، لقد نجوت بفضل ذكائي، وبالرغم من تلك المأساة فقد صبَّت النهاية في مصلحتي.

في الآونة الأخيرة أثار رشيد حولي الكثير من التساؤلات، وكاد يفسد كل خططي، والخلاص منه يجب ألا يحزنني، فهو حقير فعلا، حتى حينما حاولت نصحه ضربني وركلني، تبًا له! ها هو يرقد في قبرٍ يمتلئ ذهبًا، ولكن ماذا سأخبر حيان وروهان إن سألاني عنه عندما نلتقي مجددا، فلا بد أن نلتقي، هذه القافلة اللعينة ستعود لتجتمع يوما، سأخبرهم بحقيقة الأمر؛ لقد أعماه الذهب، وارتكب الكثير من الحمق، لا ذنب لي في هذا كله؛ أعدَّ طبرق له كمينا ووقع فيه، كان حمارا يحاول سرقة حمار، وربما من الأفضل أن أختلق قصة أخرى لأخبرهما بها.

اللعنة كل اللعنة على الجرار التي دفنت معه، لو شاءت الأقدار ونجوت سأعود لأستولي على كل جرار الذهب وسأوفي بوعدي له ولن أقترب من قبره، لا أريد الذهب المدفون معه، سأتركه له، هي ثلاث جرار فقط لا تستحق أن أحفر وألتقي به مرة أخرى، ولن أجلب الشؤم لنفسي من أجلها، ولكنه ميت، وما حاجته في الذهب، وهل وعد ألقيته فوق جثة يساوي ثلاث جرار مملوءة بالذهب؟! اللعنة على الكعب! أما كان بإمكانه أن يدفن الذهب في حفرة أخرى، ولكن...لا...من المُحال أن أجرؤ على حفر قبره، وإن فعلت كيف سأجده؛ هيكلا عظميا أم جثة؟! تبًا للجرار الثلاث لا أريدها!

يجب ألاَّ يشغلني الآن سوى التفكير فيما سأخبر به مَنْ سيسألني عنه، ولكني لست مجبرا على الحديث بشأنه، فالكعب قال لي: "ادفن لسانك جيدا حتى لا أقطعه لك" وما دخلي أنا، لِمَ ألوم نفسي؟ هل أنا من نحرته؟ أو طلبت منه أن يسرق الذهب؟! فليذهبوا جميعا إلى الجحيم! أراد أن يسرق ذهبي، ولو نجح لخسرتُ أربع جرار، وها قد خسرت ثلاث.

أشرقت الشمس وأسرعت لأغتسل من آثار الدماء، وأسعدني أن اليوم الخميس، ولو ذُبح أول أمس لترسخ في عقلي أن الموت يكمن لي كل ثلاثاء، مضى اليوم بطيئا وبذلت كل جهد لأنام أو لأتظاهر بالنوم كلما اقترب مني أحد لأتحاشى سؤالي عن رشيد، وجاء الغروب ومعه ارتحلنا وحفرنا ودفنا جرار الذهب.

وقبيل الشروق كنا قد وصلنا إلى موقع جديد للاختباء، ولم يكن سيئا مقارنة بموقع الأمس، وجدنا أطلالاً، وآثار حدائق متواضعة، وآبار ماء تم اختيار موقعها بحكمة؛ لقد كانت البيوت قائمة منذ زمن بباطن الجبل الذي خيمنا أسفله، وكل ما رأيته يشير إلى أن ساكن هذا المكان فيما مضى كان فاحش الثراء ساعيًا للعزلة والابتعاد عن البشر، وربما كان ذا شأن كبير تم عزله رغما عنه، فتوفرت له سبل الراحة، ولو كان ناسِكا أو فيلسوفا لما أهدر وقته في رفع الحجارة إلى بطن الجبل وبناء البيوت.

وكما جرت العادة نصبنا الخيام ليرتاح الأسياد، وأخذنا قسطا من الراحة في العراء، سالم وعبد القادر وخلدون الأعوج أخذوا الدواب وابتعدوا لمسافة تزيد عن الثلاثمائة متر، حيث توفرت الأعشاب، ورافقهم بيبرس بناء على طلب الكعب، ولم يحدث مُسبقًا أن ابتعد أحد هذه المسافة عن المخيم.

<<<<<<<< نهاية الحلقة 22>>>>>>>>>>



٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page