top of page
  • صورة الكاتب

جرة ذهب - الحلقة العشرون

أعدنا الصخرة مكانها، وفاجأنا بيبرس بأن انحنى ليدوس الكعب على ظهره ويعتلي الصخرة، ويفرد عباءته ويقول:

- من منكم سيتطوع ليعطيني من دمه؟

قبل أن نفهم قصده مدَّ خادمُه بيبرس يده، قائلاً:

- شَرِّفني يا سيدي.

فأخرج الكعب خنجره من حزامه وأمسك بيده وجرحها، فسال دمه، ثم قال الكعب:

- شرفتك يا بيبرس.

بدأ رقصة السعدان والـ "قاقا باقا"، ومرتْ أكثرُ من خمسةِ عشر دقيقة قام خلالها بطقوس الهذيان والجنون، وأنا أردد سرًا:

- لعنة الله عليك، وعلى الـ "قاقا باقا" يا ابن السقيطة على رأي العربي.

عدنا إلى القافلة وحرصت أن أرتعب -مثل البقية- من عفاريت الشيخ طبرق كعب الحذاء، وأشرقت الشمس ومازلنا نواصل السير في طريق تصطف على جانبيها الحجارة؛ علاماتٍ يتركها الدليل لتتْبعه القافلة، وبحلول التاسعة صباحا توقفنا، ونصبنا الخيام لراحتنا وأنزلنا الحمولة لراحة الدواب، وبعدما تدافعنا نحو البئر اكتشفنا أن الدليل لم يوفق في اختيار الموقع هذه المرة، وأن مياه البئر لا تصلح إلا لشرب الدواب، ولا يبدو أن أي منا قد احتاط لمثل هذا الظرف الطارئ.

قام بيبرس بتوزيع الطعام، ولم يكن هناك غير التمر والتين المجفف، وبعض المعلبات، والكثير من الزيتون والزيت والسكر، وكل هذا ما عاد يغري أحدا، ولكن مخزون السجائر الذي لم ينفد، عزز موقفه وجعل الجميع يتملقونه؛ ليزيد في حصتهم؛ فإذا به يتأمَّر على الجميع بحكم مكانته من الكعب، وطلب من سالم أن يعد الشاي، وأعطاه ما يكفي من السكر، ولم يدرك أن إعداد الشاي يحتاج إلى الكثير من الماء الذي يصعب توفيره، وشغله عن ذلك نظرات عينيه القائلة:

- هيا قبِّلوا يدي واشكروا نعمتي على هذه الرفاهية التي أقدمها لكم.

لن يكون احتمال العطش صعبًا هذا الصباح، ولكن الصعوبة تكمن بعد تمكُّن الشمس منا. وحقيقةً لم يستفزني العطش بقدر ما استفزني رشيد المتذاكي الذي أخذ يتجول ويتفحص كل جزء من موقعنا، ولم يبق إلا أن يصرخ ويعلن عن نواياه على الملأ. هذا الأحمق لم ينتبه بأن عينا بيبرس تلاحقه، لا أشعر بالمسؤولية تجاهه، ولا يهمني إن غرق في غبائه، ولن أنسى أبدا كيف احتجزني في البئر وسخر مني مع رفاقه، بل وجدت في حماقاته فرصة لانشغال بيبرس عن حراسة نعناعتي الحسناء قليلا لأتمكن من الاقتراب.

لم أشعر بحاجة في النوم، فذهبت لسلامة وقدمت له نصف حصتي من الطعام، ولم أكن بحاجة إلى النصف الثاني فأبقيته للمساومة لاحقا، فلدي مخزوني الخاص من البسكويت والشوكولاتة وسأتدبر أمري لحين وصول المؤن، ولم يبخل سلامة عليَّ بالمزيد من الدروس عن الخيل، وكنت حريصا ألا يشاهدني أحد، وبخاصة الدروس العملية التي تتطلب الاقتراب من الخيل. سألته عن فرس الأفندي، فأخذ يتغزل فيها ويمتدح أصالتها، هذا العربي وصف لي أباها وأمها وعمرها، واستحق كل الطعام الذي سرقه مني، ولم يتبقَ في جعبته ما يقدمه، فقد اعتصرتُ كل معرفته عن الخيل حتى القطرة الأخيرة، ولم تعد هناك حاجة لأكون كريما معه، وبقي أن أمارس ما تعلمته بصحبة الخيل؛ فاليوم طويل، ويبدو أن نعناعتي كانت نائمة، ولا يوجد ما أفعله غير ذلك.

الاعتناء بالخيل لم يكن سهلاً، والدروس النظرية والعملية لم تكن تكفي لإنجاح خطتي. حاول سالم مساعدتي وكان سعيدا بذلك، ولكني اكتشفت أن ما اكتسبته خلال ساعات مع سلامة يفوق كل معرفته عن الخيل، ولم أزل بحاجة لأتعلم كيفية التواصل معها، كما يفعل جودت مع فرسه، ولم يكن هناك من هو أكثر براعة من عبد القادر الذي لم يتمكن أحد من اختراق خلوته. أراه يرفع مطرته إلى فمه أكثر من مرة، فتعجبت من كيفية حصوله على الماء، واقتربت منه ولم يغمض عينيه –كعادته- ولعله أدرك أن هذه الخدعة لن تفلح معي، وفضَّل إهدار دقائق بصحبتي بعينين مفتوحتين على إهدار ساعة في محاولة التخلص من تطفلي؛ فرحَّب بي بوجهٍ بشوش وعينين مفتوحتين غير راضيتين، وطلبتُ منه أن يعلمني كيفية التواصل مع الخيل، ومدحتُ تفرده في امتلاك هذه القدرة العجيبة، كان ساحرًا يتحدث معها همسًا وتطيعه، وعندما أدرك أني لم أفهم سر ذلك قال لي:

- الحيوانات تفوق البشر ذكاءً في تمييز المشاعر الصادقة من الكاذبة، وتشتم رائحة الحب والحنان، وتميز مَنْ يحبها مِمَنْ يكرهها، وردود أفعالها تساير الموقف الذي تعايشه؛ فإما أن تطيع حبًا وإما أن تطيع مجبرةً، والخيول أكثر الحيوانات قدرة على التمييز بين العدو والصديق، وتستطيع التواصل مع البشر، والحب لغتها دومًا.

فسألته:

- هل أتكلم معها بالعربية أم التركية؟

مبتسمًا:

- لا تهم اللغة، إنما الحب الذي يرافقها.

لُمْت نفسي على سذاجتي، ولم يبخل عليَّ بتعليمي الكثير من الطرق والخدع للتواصل مع الخيول، وحينما حاولت أن أسأله عن نفسه أكثر وأعرف قصته، وكيف التحق بالقافلة، أجاب:

- الحمد لله، الرزق على الله، ما شاء الله.

ثم أغمض عينيه، وكان العطش قد اشتد بي، ولو كنتُ من يملك الماء لما أهدرت قطرة واحدة على أحد، لهذا لم أكن لأستجديه، فقلت له:

- ما رأيك أن أعقد معك صفقة؟

- وما هي؟

- لدي شوكولاتة، فما رأيك أن أعطيك منها مقابل بعض الماء؟

- لا يوجد لدي ماء.

- سأعطيك الكثير منها.

- لا يوجد معي ماء، وأنا لا آكل الشوكولاتة.

- سأعطيك بسكويت إذا.

- لا يوجد معي ماء.

لم يسرني ذلك، ولكني أتفهم الحاجة في أن تكون لئيما في مثل هذه الظروف، فقلت له:

- معك حق يا عبد القادر، الماء في هذا اليوم أغلى من الذهب، كم تريد أن أدفع لك؟

بغضب:

- معاذ الله أن أمنع الماء عنك، أو أفكر بتقاضي ربحٍ مقابله، لا يوجد معي ماء.

- وما هذا الذي في القِربة التي تحملها؟

- هذا حليب وليس ماء.

ومد إليَّ القربة وقال:

- تفضل اشرب.

وما كنت لأفكر مرتين، التقفت القربة منه وقربتها من فمي، وشعرت بدفء الحليب وطعمه الغريب، وكان بإمكاني شرب كل ما فيها ولكني لم أفعل، وأعدتها إليه وشكرته على كرمه، وفكرت أن أعرض عليه القليل من البسكويت، ولكني تراجعت، فتركته يعود إلى دوابه، التي يجد بينها الراحة والسكينة بعيدا عن البشر، كما أن إهدار المزيد من الوقت معه لن يعود عليَّ بفائدة.

ذهبت لمراقبة ملكة القافلة نجمة؛ حبيبة جودت، والاقتراب من الذهب أهون وأقل خطرا من الاقتراب منها، وسأحتاج قليلا من الوقت قبل أن أدعو البراغيث والجراد لتذوق دمها اللذيذ، وعندها ستكتمل خطتي.

غادرتنا الشمس، وانتصف الليل، ولم ينبح أحد لنستعد لمواصلة السير، ولا تفسير لذلك سوى وجود عائق يمنع تقدمنا، ومما زاد الأمر تأكيدًا الارتباك الذي ظهر جليًّا على وجه جودت، وكثرة اجتماعات الدليل والكعب، وكان هذا سيسعدني لو أننا نخيم بجوار ماء.

أشرقت الشمس من جديد ولم نبرح مكاننا، ومفاجأة اليوم جاءت من حيث لا نتوقع؛ سالم قادر على الابتكار، لقد قام بصنع مصفاة من ثلاث طبقات استخدم فيها عمائم العرب البيض، وبعدما تخلص من الشوائب قام بغلي الماء، ثم تصفيته، وتبريده. لم يكن الماء بالجودة المطلوبة، ولكنه كان كافيا لإطفاء ظمأ البعض، وبخاصة طبيلة الذي أتعب سلامة في السيطرة عليه. سالم الشاب البسيط الطيب الجاهل، الأسمر ذو الشعر المجعد، والوجه الرفيع، الذي برز منه أنف معقوف، بجسده الهزيل ابن السابعة عشر من عمره، والذي أمضى حياته عاملا لدى تاجر ماشية من حوران، وتاه طريقه قبل عام، ووصل إلى الجليل، ومذ يومها وهو يعمل راعيًا، وحلمه الكبير أن يعود إلى بلاده التي لم يجد لها طريقا، وحين تم شراء مجموعة من الإبل لإرسالها إلى مرج ابن عامر، طُلب منه أن يرافقها، والأصح أنه تم بيعه مع الابل من قِبل التاجر الذي دأب على استغلال سذاجته، كما فعلنا جميعا منذ اليوم الأول الذي رافقنا فيه. من كان يصدق أن هذا الساذج قادر على الابتكار!

امتدحنا جميعا ما قام به، وربت الكعب على كتفه إعجابا، ولولا أني أعرفه أكثر من الجميع لشككت في ادعائه السانتورية، وقد أخبرني -فيما بعد- أنه تعلم هذه الطريقة من راعٍ في حوران، وبالرغم من عطشي الشديد لم أكن لأغامر بشُرب هذا الماء الملوث ولو تم تكريره ألف مرة، فأشغلت نفسي باستثمار كل دقيقة في دراسة الخيل، والاقتراب خلسة من فرس جودت نجمة لتعتاد علي صحبتي.

غربت الشمس وخاب أملنا حينما لم نسمع نباح أحدهم، وأيقنت أن ليلة أخرى ستمر بغير ماء، فحدثتُ نفسي: وما حاجتي إلى الماء مادام هناك حليب! فذهبت إلى سالم وسألته عن معرفته بحلب الإبل، فأخبرني أنه لم يفعل ذلك من قبل، ولكنه رأى كيف يتم حلبها، فذهبنا معا في سرية تامة، وبدأنا تفحص الجمال الواحد تلو الآخر، وسذاجة سالم وجهلي بالإبل، وما تبقى من ضوء القمر صعَّب علينا الأمر كثيرا، يبدو أن الإبل جميعها ذكورية؛ لذا لم نوفق في العثور على الناقة التي يحلبها عبد القادر اللعين، ولم أنتبه بأن الحقير نعمة قد جمع كل العرب لمراقبة سذاجتنا عند تفحص الإبل، فانهمرت علينا التعليقات الساخرة مثل المطر:

- احلب يا عزيز أفندي احلب.

- انتبه يا عزيز أفندي حتى لا يظن الجمل أنك ناقة.

والكثير الكثير من النكات التي استدللت من خلالها على انعدام النوق في القافلة، وعندها حاولت أن أسخر منهم فأخبرتهم أني أسعى لبول الجمل، فقد سمعت أن العرب يشربونه للوقاية من الأمراض، فرد عليَّ أحد الخنازير وقال:

- اذًا استلق تحت جمل وافتح فمك وسيتبول فيه حتما.

ضحكت غيظا وتركتهم، ولا يشغل بالي شيئا أكثر من اكتشاف مكان الناقة الحلوب التي يخفيها عبد القادر عن الجميع.

انتصف الليل واقترب الدليل ونبح وبدأنا الاستعداد، وأخذ الجميع يحثنا على الإسراع، ولكن هذه المرة لم نتقدم إلى الأمام وإنما عدنا للخلف، وقطعنا مسافة قبل أن نلتف خلف أحد الجبال ونعود إلى الاتجاه نفسه، وربما إلى اتجاه آخر، فمعظم الجبال والتلال متشابهة في مثل هذه الساعة، والطرق التي نسلكها أربكت قدرتنا على ضبط الاتجاهات.

أشرقت شمس الأربعاء ولم نتوقف، بل تابعنا سيرنا حتى وصلنا بعد عدة ساعات إلى فسحة ضيقة بين الجبال، تُعجز الشمس عن وصولها، وكان مكانا نموذجيا لإخفاء القافلة، والماء الوفير أعاد لنا الحياة من جديد، وما أحدثته الطبيعة في تضاريس هذا الوادي الضيق–أو الممر الجبلي- صعَّب علينا نصب الخيام، ولكنه كان باردا منعشا، فيه الكثير من الزوايا التي تمكن من الانزواء بعيدًا عن أعين الرقباء، فانزويت لأرتاح قليلا، حينما لمحت جودت من بعيد أخذت أراقبه حتى اقترب من الكعب وسارا معا إلى أن اختفيا عن الأنظار، فوجدت في غيابه فرصة لقضاء بعض الوقت مع نجمة، أطعمتها من يدي وربتُّ على عنقها، وهمستُ بأذنها كما علمني عبد القادر، وشعرت أنها اعتادت وجودي، فقررت الانتقال إلى الخطوة التالية من الخطة، ودعوة بعض القراد والبراغيث، ولكن الحشرات اللعينة رغم انتشارها الكثيف تأبى أن تقترب منها، ولم أجد طريقة لأخبر هذه الحشرات اللعينة أني لا أنتوي لها شرا، بل سأصحبها لتسكن فرسا أصيلة، وتتذوق دماءها النبيلة، وليس من المعقول أن أسال أهل الخبرة كيف يمكنني فعل هذا!

فذهبت إلى سالم الساذج وكنت أكثر سذاجة منه حين سألته إن كان يعرف طريقة تسمح بنقل القراد والبراغيث من دابة إلى أخرى، فأجابني بعد تفكير عميق:

- (مش فاهم عليك شو هذا!)

استيعاب هذا السالم بطيء، وما قلتُه يحتاج إلى شرحٍ وتبسيط؛ فقلت له:

- أريد قرادًا وبراغيثًا.

فرد:

- (والله ما معي)

وقبل أن ينهي جملته أسرعت بالابتعاد عنه، ولم يتبقَ أمامي إلا أن أجلب أحد الخيول القذرة بالقرب من نجمة لعله ينقل إليها بعض ما عنده من مصاصي الدماء، وفي هذه الخطوة مغامرة قد تتسبب في هدم كل ما بنيته، إن اكتشف جودت هذا الفعل الخبيث، فعدلت عن الأمر، ولمعت في رأسي فكرة، وهي أن ألصق الذباب والقراد بها ميتا لأنه يأبى أن يرافقني حيا.

>>>>>>>> نهاية الحلقة العشرين<<<<<<<<



٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page