top of page
صورة الكاتب

جرة ذهب - الحلقة الثامنة عشر

تاريخ التحديث: ١٩ مارس ٢٠١٨

يبدو مستغربًا؛ فلا تبدو عليَّ عاهات جسدية ظاهرة، وما كنت لأخبره بحقيقة أن علاقات والدي جنبتني الخدمة، والقليل من المال كان كافيا لإثبات علة ضعف البصر، وكل ذلك لأخالف مصير شقيقي الأكبر، الذي قُتل على حدود ليبيا على يد بعض العرب المصريين، لعنة الله عليهم، ولكن هذه الحقيقة لا تصلح هنا.

تحدثتُ على سجية سانتور، وتركتُ خياله يراني كما أردتُ، فأجبته:

- لقد قررت لجنة التجنيد أن ذكائي يفوق قدرة الجيش في استيعابه، ولهذا أعادوني للبيت.

جوابي أصاب الهدف المرجو، وضحك جودت أفندي وسأل:

- وماذا فعلت بعدها؟

- تم تعييني عالم آثار ومسؤول عن استلام وتصنيف القطع الأثرية قبل تخزينها.

ضحك جودت حتى كاد أن يختنق، وقال:

- عالم آثار دفعة واحدة! لابد أن يكون ذكاؤك خارقا لتشغل هذه المهمة؟

لم أشاهده مسبقا بهذه السعادة، وبعد أن توقف عن الضحك سأل:

- أخبرني كيف وجدت طريقك إلى هذه القافلة يا عالم الآثار؟

الآن عليَّ أن أكون صادقا، وبخاصة أنه يسهل عليه التأكد من صدق روايتي، واعتيادي على تقمص دور الأستاذ الكبير كان سيكون كافيا ليثبت صحة ادعائي إن حقق في الأمر، فأخبرته بالحقيقة على طريقتي؛ لقد تم استدعائي شخصيا مع روهان بيك لاكتشاف موقع أثري، ورويت له سوء الفهم الذي وقع في محطة القطار، وتجنبت ذكر حيان ورشيد والأجزاء المريبة في القصة.

لم يهتم كثيرا بتفاصيل القصة، ويبدو أنه كان بحاجة ليضحك أكثر، فسأل:

- وماذا اكتشفتم بالكهف يا أستاذ عزيز؟

وكان هذا السؤال محرجا لي، وهنا التزمت بسياسة الصدق السانتورية، فبعد أن قمت بتقليد بعض حركات روهان أجبته:

- حقيقةً لقد كان الكهف سخيفا لا يستحق الاهتمام؛ لهذا انشغلت في فحص محيطه، ومن ثم قمنا باختيار حجارة تصلح لبناء مسجد لمولانا السلطان، وحملناها بصناديق وانطلقنا وحدث ما حدث.

ضحك ولكن هذه المرة كان أقل حماسا وسألني:

- وما حكاية حذاء البيك يا أستاذ عزيز؟

أدركت أنه يسعى ليذكرني بأنه كان متواجدا عندما قمت بخلع حذاء روهان وغسل قدميه، وأنه ليس غبيا وإنما يجاريني فقط، وهذا أسعدني ويبدو أن ما قام به البيك قد انطلى عليهم، فأجبته -ولم أتخل عن الشخصية السانتورية- قائلا:

في المخازن التي نجمع بها الآثار كنت مسؤولا عن طربوش البيك وتلمعيه، وبعدها قرر ترقيتي، وقام بتعيني مسؤولا عن كل الأحذية الأثرية.

هنا أصابته نوبة من الضحك صكَّت مسامع كل مَنْ بالقافلة، ثم تابع سائلاً:

- وماذا تجيد غير تلميع الأحذية الأثرية يا أستاذ عزيز؟؟

- كل شيء يطلب مني يا سيدي.

وهنا باغتني بسؤال أربكني، وقال:

- لقد لاحظت أنك تتكلم العربية يا عزيز، أين تعلمتها؟

ولم يكن سرا؛ فالجميع يعلم أني أتحدث العربية، ولا يُعقل أن أخبره بأن البيك أرسلني لتعلمها على نفقته، فليس من المنطق أن يتم ارسال غبي ملمع أحذية أثرية لتعلم لغة أجنبية عنه؛ فقلت:

- أنا أتحدث كل اللغات العربية.

ابتسم وقال ساخرا:

- وأين تعلمت كل اللغات العربية؟ بالمدرسة أم بالجامعة يا أستاذ عزيز؟

- لا يا سيدي...المدارس أيضا قالت إن ذكائي خارق ولم تقبلني، وحينما كنت أعيش مع والدي في حلب أصر على أن أتعلم لغة البِغال حتى يعيِّنني يوزباشي بالجيش حين أكبر؛ وكان والدي كبير مستشاري طعام الوالي، الذي لم يكن ليأكل إلا إذا أمره والدي.

وهذا ما كان يتردد في أوساط الأتراك: أسهل طريقة للسيطرة على البغال - قاصدين العرب - هي أن تتعلم لغتهم، ولابد أن هذه المقولة مرت على جودت، فضحك مرة أخرى، وأصبت هدفي بدقة؛ سانتور بكل ما تحمله الكلمة، ولكنه فاجأني بسؤال لم أتوقعه بعد هذا الكم الكبير من الغباء الذي أظهرته:

- هل تجيد الكتابة والقراءة؟

لا يعقل لأبله مثلي أن يكتب أو يقرأ، وقد لاحظ البعض أثناء رحلتنا أني أجيدهما، وقد يكتشف الأمر يوما، فكان عليَّ أن أعطيه جوابا يكون فيه مخرجا، فأجبته:

- نعم يا سيدي لقد تعلمت كيف أرسم اسمي واقرأه إذا كتب أحدهم لي رسالة عليها اسمي، لأعرف أن الرسالة لي.

تبين لي أن جودت يسأل بلا أهداف خبيثة، إنما وجد بي فرصة للترفيه عن نفسه، فقال:

- وهل كتب لك أحد رسالة؟

- لا يا سيدي، ولكن روهان بيك وعدني أنه سيكتب لي رسالة حينما ينتقل إلى العالم الآخر.

ضحك جودت مجددا وسأل:

- أتجيد الطهو كوالدك؟ أم أنك طاهي آثار فقط؟

- نعم يا سيدي، البيك لا يتناول الطعام إلا إن أعددته.

وهنا ابتسم وطلب مني إعداد وجبة ساخنة...شعرت أنه يختبرني، ولم يتوفر حينها ما يصلح للطهي إلا أني تدبرت أمري؛ أشعلت نارا وتصببت عرقا لشدة حر الشمس، وغسلت القدر وبدأت بتقطيع حبات البندورة حتى باغتني الكعب اللعين بركلة بغل أفقدتني توازني، وكادت تلقي بي فوق النار، لولا أني تمكنت من الميل بجسدي قليلا، يقف فوقي وقد ازداد طولا وعباءته اللعينة زادته عرضا، وأخذ يطفئ النار بقدمه قائلا:

- من سمح لك بإشعال النار يا كلب؟

رمقته بنظرة وديعة بريئة تخفي الكثير من مكري وخبثي، وأخبرته بغير تسمية:

- هوَ طلب مني.

فرد عليَّ بما أثلج قلبي:

- ومَن هذا الحمار؟

- الباشا يا سيدي.

ضيق مكان التخييم يمكن الجميع من سماع أي حوار ما لم يكن همسا، فهرع جودت لإنقاذي وكان ممتعضا لتحوله من باشا إلى حمار، ولكنه تظاهر بعدم سماع الشتيمة، وقال:

- دعه يا شيخ طبرق، أنا طلبت منه أن يعد لي الطعام ولن تلفت النار نظر أحد نهارًا.

تراجع الكعب خزيانًا، وتركني وشأني، وعلمت أن اسمه الحقيقي طبرق، أعددت كمية مضاعفة من الطعام قدمت الطبق الأول منها لجودت أفندي الذي سره مخاطبتي له بالباشا، تذوقه وامتدحني كثيرا وقال:

- أنت أستاذ كبير في الطعام يا عزيز.

وبتواضع سانتوري أجبته:

- أنا أستاذ في كل شيء يا سيدي.

ابتسم وانصرفت، فعدت وحملت الطبق الثاني قاصدًا الكعب وحرصت على أن أبصق فيه أكثر من مرة، وأردت أن أزينه بطبقة من البصاق لولا خوفي أن يتغير طعمه ويكتشف فعلتي...أحنيت رأسي متظاهرا باحترامي، وقدمت الطبق:

- تفضل يا سيدي وأرجو أن ينال إعجابك! وتغفر لي اشعالي النار دون إذنك.

فاجأه ذلك وسره، يبدو أنه ليس من النوع الذي اعتاد على هذا المستوى من الاحترام، هزَّ رأسه وامتدح طعامي وقولي، ثم رد عليَّ بخشونة:

- جيد... جيد.

- بالهناء والشفاء يا سيدي.

في عالم روهان تعلمتُ أن أغلب هؤلاء المصابين بمرض الهراء والخرافات لم يكونوا مؤمنين بها، ولكنهم برعوا في اختراع الأكاذيب التي تناسب جهل الآخرين مراعين المكان والزمان المناسبين، وكثرة المؤمنين بهم شجعهم على اختراع المزيد من الأكاذيب حتى ما عادوا قادرين على تمييز الحقيقة من الكذب فاندفعوا إلى تصديق أنفسم، وأصابهم هذا بمرض العظمة، وأيقنوا أنهم من أهل الخوارق، ومِثل هؤلاء لا يسرهم أكثر من امتداح قدراتهم العجيبة.

بصوت مرتعش، ونظرات تفيض بالاحترام والانبهار، والكثير الكثير من الإعجاب بشخصية هذا المسخ التي لم أرَ منها إلا رقصة السعادين وتمتمة المجانين قلت له:

- سيدي: ادعُ الله أن يشفي خالتي "دولت" فقد أمرضها الجان وهي طريحةُ الفراش.

ابتسم وسره طلبي الذي يؤكد على مكانته الهرائية قائلا:

- سأشفيها لك.

هذا الهرائي لم يجد داعيا لذكر الله، وتقديم مشيئته، واختصر جوابه بـ"سأشفيها لك". لم يهتم بأية تفاصيل، ونصَّب نفسه إلهًا مطلعًا على كل شيء، لعنة الله على خالتي، وعلي زيارتها لي التي لم تتوقف كل ثلاثاء لتقلق منامي منذ صارت في عداد الموتى، لم يكن هناك ما أطلبه من هذا الهراء إلا هراء، فسألتُه أن يأذنَ لي بالانصراف فأشار، وقبل ذهابي كدتُ أنحني وأقبِّل يده، لولا أني تذكرت القاعدة السانتورية التي تقول: "المبالغة في التذلل للأسياد وتمجيدهم عمل يدل على خبث لا حماقة".

عدت مُستلقيًا في زاويتي لأعود إلى فتاة الكعب، بل نعناعتي الحسناء، بحثتُ عنها لتشعل ناري مجددًا، وأتلذذ بمراقبة ثنايا جسدها، وأكافئ نفسي على نجاحي بأداء دور السانتور، ولكن لم أجدها، وفجأة غمرني السرور وابتهج قلبي حين انتبهت أنها كانت بالقرب من الدواب وبدت أكثر مَيْلاً للحمير دون الجمال والبغال، كان من المُحال ألا ألاحق كل خطوة تخطوها، أو أن أمنع نفسي من التلذذ برقصات نهديها كلما قفزت عن عائق يعترض طريقها، توقفت بجوار جمل، فلم أدع الفرصة تفوتني واقتربت منها، وكانت مشغولة بمداعبة عنق الجمل، لم تترك يدي حينما صافحتها...حدثتها عن نفسي ومكانتي فانبهرت، وكانت الدواب تخفينا عن العيون، فعرضت عليها أن تمتطي ظهر جمل محظوظ، فابتسمت واستدارت ومازالت عيناها معلَّقةً برؤيتي، وقفت خلف مؤخرتها، وطوَّقتها بيدي أسفل بطنها، فهمست:

- احملني يا عزيز.

ضممتها، وبشغف قبَّلتُ عنقها من الخلف، فتأوهت، وقالت بصوت ناعس:

- خذني إليك.

أحكمتُ ضم عجزها في عنف، ولم أقو على التوقف إلا حينما ظهر جودت خارج خيمته، وأشار إليَّ بيده...كنت أرغب في قولي: اذهب إلى الجحيم حتى انتهي من حلمي اللذيذ، ولكني وثَبت كالغزال ولحقتُ به إلى الخيمة، فسألني إن كنت ماهرًا في إعداد القهوة وأجبته:

- أنا خير من أعدها وشربها يا سيدي.

ابتسم، وأمرني باستخدام أدواته وقهوته الخاصة، فأدركت أنه يتقزز من مشاركة الآخرين في أدوات طعامهم وشرابهم...قدمتُها له فارتشف وتذوق ثم قال:

- فانتاستيك!

علمتُ لاحقًا أنها مديح باللغة الفَرَنسية، طلب مني أن أجالسه وأحادثه، فتربعت على الأرض وتجنبت الجلوس بجواره، وفي خيمته مقاعد وطاولة؛ كنت حذرا لكل رمشة عين قد ترافق ما أنطق به، وشعرت بالراحة حين تبين لي أنه يبحث عن طريقة لقتل الملل والتسرية عن نفسه، ولم يجد أفضل من مجالسة أحمق، فسألني ساخرا:

- لو كنت أنت السلطان يا عزيز، ماذا كنت ستفعل بالوضع الاقتصادي المتدهور؟ هل كنت ستتحالف مع إنكلترا أم مع ألمانيا؟

فضلت الصمت وعدم الرد، لأنه سأل بلغة المثقفين، والسانتور بحاجة لتبسيط الأمور لكي يفهم، وحين انتبه أني لم أفهم أعاد صياغة السؤال، فأجبته فورا:

- سأُعِد له ألذ طعام في العالم، وسأخدمه جيدا وأدعو الله له أن ينصره على العرب وأهل مصر.

قاطعني وقال:

- لا أقصد أن تكون طاهي السلطان، إنما لو كنتَ السلطان نفسه.

أجبته بسانتورية:

- أنا تعلمت كل شيء يا سيدي ولكني لم أتعلم كيف أكون سلطانًا.

ضحك وقال:

- تعلَّم فقط كيف تضاجع الجواري وستكون سلطانا عظيما.

- سأتعلم يا سيدي وسأكون سلطانا عند حسن ظنك.

ما رأيك بمحمد الخامس يا عزيز؟

- أعرفه جيدا، إنه أخ مولانا عبد الحميد؛ نصره الله على العرب وأهل مصر؛ ولقد عرض عليَّ روهان بيك أن أتزوج إحدى بناته.

ولم أكذب فقد اعتاد البيك أن يمازحني بذلك. لم تتوقف أسئلة جودت الساخرة وردودي الغبية، بل استمر حديثنا طويلا؛ ابتسم أحيانا وقهقه أحيانا أخرى، وحين ملَّ مني صرفني، ولم يدر أنى سبقته في شعوري بالملل.

>>>>>>>> نهاية الحلقة الثامنة عشر<<<<<<<<



٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل

Bình luận


bottom of page