top of page
  • صورة الكاتب

جرة ذهب - الحلقة السادسة عشر

في قديم الزمان وفي بلاد اسمها بابل عاش حكيم اسمه سانتور، خرج يوما للصيد وغاب لعام كامل، وفي طريق عودته استوقفته عجوز شمطاء، وعرضت عليه أن تأخذ منه صيده مقابل أن تجعل منه ملكًا على بابل، فرد عليها:

- لستُ أحمقًا لأصدق.

فقالت:

- لن يضرك أن تكون أحمقا لمرة واحدة.

فأعطاها ما حمله معه من صيد، ثم سألها:

- كيف ستجعلين مني ملكا؟

قالت له:

- كل ملك يحتاج إلى تاج، أعطني حصانك لأذهب وأحضر لك التاج.

فقال:

- لست أحمقًا لأصدق.

فردت عليه:

- أنت حكيم، ولن يضرك أن تكون أحمقًا لمرتين.

فأعطاها حصانه، وقالت له:

- أعطِني جبتك لتقيني من البرد في طريقي لإحضار التاج.

فقال:

- لست أحمقًا لأصدق.

فردت عليه قائلة:

- أنت حكيم ولن يضرك أن تكون أحمقًا لثلاث مرات.

فأعطاها ما طلبت، ثم قالت:

- أعطِني سيفك لأدافع عن التاج من اللصوص حتى أحضره لك.

فقال:

- لست أحمقًا لأصدق.

وردت:

- أنت حكيم، ولن تضرك أربعة حماقات.

أعطاها السيف، فقالت له:

- لا تدخل بابل حتى أعود إليك بالتاج.

وقال:

- لست أحمقا لأصدق أنك ستعودين.

فقالت:

- أنت حكيم لن يضرك خمس حماقات. وإن لم أعُد تذَّكر أن سانتور حكيم يموت، وسانتور أحمق يعيش.

وقبل أن تذهب سألها:

- من أنت أيتها العجوز؟

فأجابت:

- أنا من حولتك من حكيم إلى ملك.

تركته وهي تضحك، وجلس سانتور بجانب بوابة بابل بانتظار عودة العجوز مع التاج، فسأله خادمه:

- لِمَ لا ندخل بابل؟

- سأدخلها حين تعود العجوز مع التاج.

- وهل تعتقد أنها ستعود؟

- لا لن تعود أبدا.

- ولماذا تنتظرها إذًا؟

- أنا حكيم ولن يضرني ست حماقات.

- اعذرني إن قلت أن هذه العجوز حولتك من حكيم إلى أحمق.

- وهل يوجد أحمق لا يعتقد أنه ملك؟

مرت أيام ولم تعد العجوز، وخرج إليه جمع من أصحابه ليستقبلوه، ويزفوا إليه نبأ الآلهة؛ فقد أمرت كهنة بابل باختيار أذكى مئة رجل ليتنافسوا فيما بينهم لإيجاد طريقة لهدم برج المعبد العظيم، وأن أذكاهم سيتوج ملكًا على بابل وقد أجمع الناس على أن تكون أنت أول المئة، فهمس الخادم بأذنه وقال لقد خدعتك العجوز وإن اكتشفت الآلهة حماقاتك ستسخر منك فرد عليه:

- أنا حكيم لن يضرني إن سخرت مني مثل هذه الآلهة.

واكتمل البدر واحتشد الناس وجلس ممثلي الآلهة على العرش وأُعلن عن بدء اختبار أذكى أذكياء بابل، فتقدم كل منافس بما ابتكر من طرق، وابتدع من أفكار لهدم البرج، وهتف الشعب بحماس، وحينما لم يتقدم سانتور بأية أفكار سأله أحد ممثلي الآلهة:

- لمَ لا تتقدم وتنافس الآخرين على تاج الملك؟

فرد عليهم:

- لن أجهد نفسي بهدم أبراج الآلهة من أجل تاج ستحضره لي العجوز.

وقص عليهم ما حدث معه، هتف الجميع بصوت واحد:

- إذًا لحين وصول التاج، أخبرنا كيف ستهدم برج الآلهة بحكمتك، وربما ستفوز بتاجين.

وفاجأ سانتور الجميع بأن اقترب من البرج العظيم وأخذ يضربه برأسه حتى سالت الدماء من جبهته، سخر منه الناس، ووقف كبير ممثلي الآلهة، وقال:

- هذه هي الطريقة الوحيدة لهدم برج عظيم، سانتور يعيش، والجميع يموت.

وتوجوه ملكًا وصلبوا البقية، وأعلنوا أنهم في العام القادم وعند اكتمال البدر سيتم التنافس على اختيار ملك جديد، وفي كل عام كان يجتمع الأذكياء مجددا للتنافس على هدم البرج وعرش الملك، وعاما وراء عام...سانتور يعيش ويحتفظ بالتاج والجميع يموت.

عادت العجوز بعد سنوات لتزوره وقالت:

- يا سانتور ألم تمل من كونك أحمقًا؟

فرد عليها:

- لن يضرني إن كنت حكيما طوال عمري.

هرم ومات ملكًا، وترك خلفه سانتوريات توارثتها الأجيال، وكانت آخر كلماته:

- لا تطلب من حكيم ألا يستظل بظل برجٍ عبده الحمقى.

القافلة تقصد المجهول، تجتاحني وحدتي، تُطبق على قلبي، تعتصرني بقوة، أشعر بالاختناق، تمتلأ رئتاي بسواد رؤياي، أغترب عن نفسي، أبحث في كل الوجوه، أستغربها؛ ما عاد فيها أنيس، أظلمت عيناي على جثث الموتى؛ منهم من يسبق الدواب ومنهم من يسير خلفها.

أسرعت الخطى، أسابق الموتى، أقترب من عبد القادر؛ عربي يسوق قطيع إبل، في بداية الخمسينيات، يشع وجهه نورا، شعره بني كثيف، قارب أكتافه، رمى عليه حطة بيضاء، لم يقيدها بعقال، وجهه مستدير أبيض، عيناه بنيتان، أنفه طويل قليلا، شاربه تنقصه العناية، مبتسم دوما، أسنانه ناصعة البياض، لحيته لم تطول كثيرا، يخالطها القليل من البياض، لم يكن فارع الطول، كان بنفس قامتي، لم أشعر جواره بالنقص، ربما لهذا لم أبغضه يوما.

كان يرتدي دشداشة بيضاء لم يكتف بتقصيرها، واعتاد ربطها على خاصرته، يحمل معه قربه ماء، ربطها بحبل رفيع، أطلقها لتتدلى من عنقه، وحقيبة فارغة من القماش تتدلى تحت إبطه، لا يحمل متاعًا، وملابسه دوما نظيفة، لذا تساءلت كثيرًا: هل يغسلها ليلاً! وكيف لا تتسخ، وهو يمضي معظم وقته بين الدواب! لم يتوانَ عن العمل، كنا نتدافع نحو بئر الماء والطعام، وكان يتنحى جانبا، ما رأيته يأكل أو يشرب، لا تربطه علاقة بأحد، ولم يعرفه أحد، اعتقده الجميع أخرسًا، كنيته أبو غميضة؛ فقد اعتاد إغماض عينيه؛ ليقطع السبيل عن محادثته.

اعتاده الجميع بعدما تحدث واعتذر عن فعله، لانشغاله بدعاء الله وتسبيحه، وبعدها لم يزعجه أحد، لم أره يصلي أبدا، ولكنني احترمت عزلته عن البشر، وتفضيله صحبة الدواب، ما كان ليعترض، وما كان ليترفع عن عمل، يهبُّ دوما للمساعدة دون أن ينبث بحرف واحد.

اقتربت منه وسرتُ بجواره؛ فأغمض عينيه، وفهمت مقصده:

- أنا عبد القادر لا وجود لي، ولا تحاول أن تحدثني لأني لن أرد عليك.

أحببت البقاء بجواره، كان يمشي عن يميني، كنت ألحظه بعيني اليمنى، وباليسرى أبصر طريقي، ومازال مُغمض العينين، بينما كدتُ أتعثر. ما كان هذا الرجل بحاجةٍ ليترقب، أو ليفتح عينيه ليرى ما عجزنا جميعا عن رؤيته.

ابتعدت باحثا عن رشيد، ومازال بغضه يسكن قلبي؛ لم أنس تآمره عليَّ، واحتجازي في تلك البئر...يا له من عبثٍ ساخر! مَنْ كان عدوًا بالأمس أحتاجه صديقًا اليوم، ومازال قلبي يعافُ اقترابَه؛ لقد أصبح رشيد الشخص الوحيد الذي أعرفه جيدا، والأقرب إليَّ بين الجميع. اقتربت منه فتجنبني هامسًا:

- لا تجلبْ إلينا العيون، لا تنسَ ما وصَّى به حيَّان والبيك.

لم ندر وقتها ألا أحد يكترث بنا؛ من نحن! ومن كنا! أو حتى ما هي أسماؤنا! مادمنا عبيدا مطيعين قادرين على الحفر وحمل جرار الذهب، لم ندر وقتها أن أيامنا القادمة ستخلو من الأسرار وستمطرنا بالأحمر والأصفر.

الخوف يجتاح كل ذرة في كِياني، يلفح وجهي، يلوي عنقي، ويسري كالصقيع في عظامي، يزداد ثقلا على صدري، وركلاته داخل معدتي لا تتوقف، ليته كان ضبعا فأقتله، أو مرضا لأشفى منه!

وجد الخوف طريقه إلى نفسي واستوطنها منذ طفولتي؛ قبل أن أجمع الأحرف لأنطقها، ولم أتحرر منه إلا على يد الشارب العظيم حيث قال لي آنذاك:

- الخوف صديق البشر؛ فقد شيد أسوارا عالية تحيط بنا، تحرسنا وتحمينا من كل خطر يمس وجودنا، ليس عيبا إن خفنا، بل العيب يصيب عقولنا إن لم نخف، لكن حينما نسمح لخوفنا أن يعبر الأسوار يتحول من حارس إلى وحش أسطوري يبتلع أرواحنا؛ يحرمنا لذة الحياة، يحجب عنا نور الشمس وضياء القمر، ولن يحمينا وقتها حصن منيع؛ عاليةٌ أسواره، فولاذيةٌ أبوابه من عدو سكن داخله، إنه لأكثر أمنًا أن نكون بالعراء بلا خوف، ولا نكون برفقته داخل حصن منيع...إنَّ قتلَ الخوف من المُحال، ولكن بالإمكان سجنه في زنزانة سحيقة بأعماق نفوسنا، وكلما قيدناه تحررنا.

قبل سنوات قام روهان بيك باعتقال خوفي وسجنه في أعماقي، وأخرج من جيبه مِفتاحا حديديا ودفعه في يدي قائلاً:

- حذارِ أن تسلمه لأحد، واعلم أن خوفك لن يتحرر إلا إذا فكَكْتَ أسره بيديك، لا تفتح له الباب يا عزيز، وإن غزتك الأوهام يومًا تذكر أن المِفتاح في حوزتك.

حملته معي، علَّقته بسلسلة في عنقي، ومُذ يومها لم أتركه أبدًا، وكلما حاول أحدهم أن يزرع الخوف داخل قلبي تحسسته لأطمئن على بقائه، لم يكن أكثر من رمز للمِفتاح الحقيقي الذي أخفاه البيك في عقلي، ولم أشعر يوما بالخوف طالما أني بصحبته، وها أنا أسير بين الدواب وحيدا، يتحرر خوفي شيئًا فشيئًا، ويتسلل ليقتحم أسوار أمني...أمسكت بالمفتاح، وأحكمت عليه قبضتي وأقسمت أني لن أستسلم أبدا، وسأقطع إصبعي إذا أبى أن يتحسس مِفتاح راحتي، كي لا أخيِّب أمل روهان بيك، سأحافظ على دفاتره وحَجَره، وأسلمهما لزوجته، وسيكون فخورًا بي حين ألقاه.

القافلة تشق طريقها عبر الجبال والتلال متجنبةً كلَّ الطرق المكشوفة، ولم يكن جر الدواب صعبًا؛ ففي أحايين كثيرة كانت تعرف طريقها جيدًا فتجرنا خلفها لنلهث وراءها جميعًا، بل نلهث وراء مصيرنا المجهول. كنت أشعر بأننا ابتعدنا كثيرا فعاودت الالتفات مراتٍ ومرات، وأخذت أقيس المسافات كطفل صغير يتساءل كم ابتعد عن البيت...كم ابتعدت عن روهان بيك؟

تحولت القافلة إلى طرق فرعية لم ترق للدواب، فأخذت تحتج وتعلن تمردها بين الحين والآخر، ولكن الساسة كانوا بارعين في إنهاء تمردها سريعًا، لم أكن أمتلك أية مهارات في سوق الدواب أو جرها، ولا أظن أن الدواب سيسرها التعامل مع جاهل بشؤونها مثلي، ولمَّا لم أجد سوى المراقبة كالأبله، أشغلت نفسي بالثرثرة مع أحد البغال المحملة بالكثير من الجرار الفارغة، فسألته:

- هل ترغب أن أحمل أثقالك يا بغل أفندي؟

فردَّ علي:

- ولماذا تسعى لقتلي يا عزيز باشا؟

راقني كثيرًا أنه رآني "باشا"، ووفر عليَّ افتخاري الزائف، ورحم أذنيه من الاستماع لشرح مفصل عن مكانتي المرموقة، وعلى أية حال لابد أن ألتزم بنصيحة البيك، فقلت:

- أنا لست باشا أنا مجرد سانتور ولا أسعى لموتك يا بغل أفندي.

فقال لي:

- وماذا تعتقد أن يُفعل بي بعدما تحمل أثقالي وتنعدم منفعتي؟ هل سيطعمونني ويتركوني أتبختر مثلك بلا عمل مفيد أخدمهم به؟!

امتدحت فطنة البغل، ووعدته أني سألتزم الحِكَم السانتورية بحذافيرها، وقبل أن أخرجه من رأسي طلبت منه ألا يبوح لأحد بكوني باشا متنكر في زي سانتور، فقال مُستهزئًا:

- لا تقلق أنا أيضا باشا، والحمار الذي بجواري آغا، ففي هذه القافلة كلنا باشوات يا أفندي.

دفعني البغل الحكيم إلى تذكر القواعد السانتورية التي تقول إحداها "سانتور يسبق الآخرين وينافسهم في القيام بكل عمل مهما كان وضيعًا"...ألحظ عبد القادر وأراقبه خفيةً متجنبًا الاقتراب منه كثيرا؛ حتى لا يغمض عينيه كعادته؛ وقد كان الأبرع في سوق الدواب وقيادتها؛ بحركة واحدة من يده يتمكن من السيطرة على قطيع كامل، ولم يضاهيه في براعته سوى سلامة.

تذكرتُ ما قاله لي روهان يومًا: "إنَّ ما يفعله رجلٌ يستطيع أن يفعله رجلٌ آخر"، فشعرت أن بإمكاني فعل مل يفعله عبد القادر، وكل ما عليَّ عند قودها أن أمسك الرسن وأشده إلى الأمام، وعند سوقها أسير مرددًا بعض الكلمات العربية، التي لم أعرف معناها، وتعيها الدواب أكثر مني:

(هيش هو هي هيش هاش هييي غي كيك...)

اقتربت من أحد قادة الدواب، ولم أعرف اسمه حينها، ولأن السانتور لا يهتم بمعرفة أسماء الأشخاص امتنعت عن سؤاله، وأسميتُه الأعوج؛ لأن أحد أكتافه ذهب إلى الأعلى، وخاصمه الآخر نحو الأسفل...منعت نفسي كثيرًا من محاولة الضغط على كتفه لأرى إن كان بإمكاني إصلاح عوجه، ولعلي يوما سأكتشف سر هذا الاعوجاج!

كان يقود جملاً سمينًا يتبعه ما يزيد عن عشرين جملا تسير بانتظام، وقد حرص ربط كل واحد بذنب الآخر...هذا الأعوج كان أقصر مني، وأصغر حجما، ولم أجد خطرا في التعدي على مكانته وعوجه، ابتسمت له وأمسكت برسن الجمل، وكنت وقحا ولم استأذنه، رفع رأسه نحوي فرأيت في عينيه شراسة العرب، وقبل أن أتراجع وأعتذر ترك الرسن مع ابتسامة، وقد فاضت عيناه عِرفانا، ثم أفصح عن اسمه "خلدون"، اعتقد هذا الأعوج الأحمق أني أسعى لأقدم له المساعدة ولم يدرك أنى ما كنت لأبذل جهدا لإمساك يده ولو كان يسقط من فوق جرف هارٍ...أحكمت قبضتي على الرسن وتركت الحبل رخوا كما يفعل عبد القادر، ورددت الكلمات السحرية التي كان يرددها سلامة:

- (اغغغغغ كيك كيك هيش هوش...)

فسار الجمل خلفي وتبعته بقية الجِمال، وبدأت أشعر بمتعة خاصة، تجتاحني معها رغبة في إخبار الجمل أنى أستاذ أفندي ليخبر من خلفه، ويتناقل الخبر بين إخوته...ماذا أفعل! لا أستطيع أن أقاوم هذه الرغبة بالرغم من تعهدي أن أكون سانتور فقط.

لم يمر الكثير من الوقت حتى أعلن الجمل الحقير تمرده، وعرقل سير القافلة، ولم تنفع معه (الهيش ولا الهوش)، وعاد الأعوج مسرعا ليمسك بالرسن، ولامتني عيناه على جهلي بقيادة الدواب، وسار الجمل خلفه كحمل وديع...لم أنتبه لمَا أخبره به ليعود لطاعته مُجددًا...لابد أن هناك لغة سرية تخص الدواب ولا يعرفها إلا العرب! وربما أن هذا الجمل العربي الحقير لا يحب الأتراك!

دفعني فشلي إلى الإمساك برسن حمار هزيل، عيناه وأذناه تدل على وداعة وبلاهة...أجرُّه، وقد أخجلني ضحك جودت أفندي الذي راقب ما حدث، وكرهتُ أن أحفظ بذاكرتي هذا الموقف السخيف، ولم يحفظ ماء وجهي إلا تكراري إحدى القواعد السانتورية القائلة: "إنَّ المواقف المضحكة التي تدل على سذاجة هي جزء من شخصية السانتور".

مرَّ أكثر من ساعة ومازلت أجرُّ الحمار الهزيل، ولم أسلم من سخرية العرب، وبخاصة صاحب اللسان السليط؛ واسمه نعمة. لم أكترث لذلك بل حرصت على بقائي في طليعة القافلة ليعلم الجميع أني أقوم بعمل مفيد، ولكني واجهت صعوبة في منع نفسي من الالتفات، وعدم الاكتراث بما يدور حولي، وأبقيتُ عيني ملتصقتين بالأرض، لأكون والحمار الذي أقوده سواء...كدت أختنق؛ فلم أعتد على ترك الأسرار تسير خلفي، وها أنا مجبر على تجاهلها!

وفجأة رفع الكعب يديه عاليًا، وأخذ يجعر:

- (هوووووع، هووووع).

لم أفهم هذه (الهووووع)، ولكني فهمت أن على القافلة أن تتوقف، وبرشاقة نادرة فيمَن في مثل عمره، عرج عن الطريق وأخذ يتسلق تلة على يميننا، وترك عباءته الشيطانية تتطاير خلفه، حتى بلغ مجموعة من الصخور المتلاصقة، يتخللها الكثير من الشقوق الكبيرة الواضحة رؤيتها عبر ضوء القمر، واعتلى أكثر قممها ارتفاعًا، وانتصب واقفًا في شموخٍ وكبرياء، ثم أخذ يتجول بناظريه في جميع الاتجاهات...رأيناه أكثر طولا، ولابد أنه رآنا أقزامًا واستمتع بذلك فأطال البقاء، ثم رفع يده ولوَّح بطريقة استعراضية، وكأنه قصد أن يقول:

- أيها العبيد...تعالوا إلى سيدكم.

وكان جودت أفندي أول من فهم المغزى من التلويح؛ فقال:

- ليذهب خمسة منكم خلف الشيخ، وليأخذوا معهم فُئُوسًا ومجارف.

وبالرغم من نطقها بلسان عثماني (كوريكلارفه بلطالار) ومعنا من لا يفهمها، إلا أن الإشارات التي رافقت قوله كانت كافية ليفهم الجميع مراده. لم يحدد من يذهب ومن يبقى، ولم نكن عمال سكك حديدية لنفهم طبيعة عملنا، ولا يبدو أن ساسة الدواب والحمالين سيتسابقون للقيام بمهام شاقة، حتى لو كان فيها الكثير من الثواب، ومَنْ الأحمق الذي سيرهق نفسه بتسلق التلة ثم الحفر؟! حتى الدواب ما كانت لتفعلها إن لم تجبر على ذلك.

أوعز لي عقلي بأن الفرصة واتتني لأتقمص دور السانتور وأثبته قولا وفعلا، وعلى الفور تركت الحمار الهزيل وأسرعت باتجاه خُرج الحمار المحمَّل بالفئُوس، والتقطت إحداها، ووقفت كعسكري في انتظار الأوامر، أما العرب الأذكياء فأخذوا يبحثون عن أسبابٍ مُلفَّقةٍ تجنبهم المشقة؛ فمنهم مَن تظاهر أنه يعتني بالدواب، ومنهم من اختبأ خلفها، وبعضهم تسلل راجعًا إلى الخلف.

أعلم أنَّ جودت أفندي يلاحظ الجميع، ولم يكن راضيا عن تقاعسهم، فأخذ يختار منهم في حنق، أمَّا أنا فسبقت الجميع صعودا، وانقطعت أنفاسي وكادت روحي تفارقني مع وصولي أعلى التلة، وسريعًا اكتمل حضور الجميع فحدد لنا المسخ اللعين مكان الحفر، وكان بجوار صخرة كبيرة بيضاوية الشكل، أبدعت فيها الطبيعة شقوقًا متناغمة؛ فأشبهتْ شجرةَ سرو.

لم أمسك فأسا في حياتي، والحفر لم يكن بالأمر العظيم، فسبقت الجميع، ولاحظت تكاسل البقية، فزادني ذلك نشاطا ورعونة، وأخذت أُنشد سرًّا:

- (كَز عزيز كَز).

- احفر عزيز احفر، لا تفكر، لا تتكلم، لا ترى، لا تسمع، كن سانتور.

لم يسقط الفأس على الأرض إلا وارتفع، واحفر يا عزيز احفر، عرق جسدي، واشتعلت بداخلي طاقة لم تصل إلى هذا المدى من قبل، وبنشاط أدهشني انتقلت من حفرة إلى أخرى، ولم يكن هذا رائقًا لعيون المتقاعسين. كظمتُ غيظي أكثر من مرة حين سخروا مني حتى أن أحدهم علَّق قائلاً:

- (هذا واحد عبد سخرة).

أخمدتْ سخريتُهم نار حماسي، وأبرد الهواء جسدي، فانطفأت شعلة طاقتي وشعرت أنني سأنهار، وأغرتني رائحة التراب ورطوبة الهواء بالنوم قليلا، ففكرت للحظات أن أفعل ضاربا بعرض الحائط كُلَّ القواعد السانتورية، لولا أني لمحت جودت أفندي يقف على مقربة منا مراقبًا، فاستجمعت ما تبقى في جسدي من طاقة وعدت أنشد سرًّا:

- (احفر يا عزيز...احفر).

أراد الكعب أن نحفر عميقا، ولم يكتفِ بحفرة واحدة، وكم أطربني سماع صراخه:

- (كفى...كفى...جيد...جيد).

<<<<<<<<<<<نهاية الحلقة السادسة عشر>>>>>>>>>>>>>>>>




٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page