top of page
  • صورة الكاتب

جرة ذهب - الحلقة الثانية عشر

تاريخ التحديث: ٢٧ فبراير ٢٠١٨

الكل يشيح بوجهه عن الكعب إلا أنا، لم أنفك عن مراقبته، ولم ينفك هو عن المماطلة واختراع حججٍ واهية لتأخير القافلة، لم يرد أن تبرح القافلة إلا بعد إلحاح جودت وَحَثِّه، كان واضحًا أنه بانتظار أحد ما.

حولتنا الفوضى إلى قافلة واحدة، أو ربما لم يعد هناك داعيًا لفصلنا، وصلنا حيث الاشتباك الأول مع العرب، ورأينا خمسةً من الأغربة المسلحين بجانب الطريق وقد غطاهم التراب والغبار، وآثار الدماء ما زالت تظهر على الأحجار والصخور، ولكن جثث الجند من جراء الاشتباك الأول لم يعد لها أثر، ولم نستدل على أنهم قاموا بدفنها قبل وصولنا.

جودت يحاول أن يسرع القافلة والكعب يجادل الدليل حول الطرق التي يجب أن نسلكها ويتعمد إطالة الحديث. أبو سعد يتسلم القيادة وجودت لم يعترض، وأنا أحدث نفسي: مَنْ مِن ثلاثتهم هو القائد الأول لهذه القافلة الملعونة؟!

مر حيان بجانبي وهمزني بطرف يده، وهمس أن أعود للبيك. ولم يكن سهلا إيجاده وسط هذا السيل الجارف من البشر والدواب، لمحته من بعيد وقد امتطى أتانًا عرجاء، ويده اليمنى معلقة في رقبته فاقتربت منه وعاتبني على ابتعادي عنه، فأسررت في نفسي:

- حبيبك حيان عندك يلازمك ليل نهار، وينام في حضنك، ولم يعد لي مكان عندك.

وسألته إن كان في حاجة إلى شيء، فردَّ:

- سوى أن تبتعد عن هؤلاء الرجال الخطيرين، وتكف عن مراقبتهم، إنهم لصوص وقتلة...التزم الصمت لعل هذه الرحلة تنتهي في سلام.

وعدته الامتناع عن مراقبة الجميع، وما كنت لأفي، تريثت قليلا حتى انشغل وبدأت أمشي في الاتجاه المعاكس لسير القافلة؛ للبحث عن رشيد؛ ولإشباع فضولي برؤية بقية القافلة، كانت الطريق ضيقة، لهذا قررت تأجيل رحلتي الاستكشافية حتى نجاوز هذه الطرق الضيقة، ومن بعيد لمحت رشيد برفقة حمالين عرب، يمسك بيده رسن أحد الجمال ويسير أمامه، وكان يبدو سعيدا بأصدقائه الجدد، فعدت ولم أجد أنه يستحق الجهد الذي سأبذله في الوصول اليه.

عدتُ أدراجي وحرصت على تجاوز البيك وأتانه العرجاء؛ لأتجنب نصائحه المملة؛ وعندما وصلت مكاني الأول وجدت جمال الدين وأبا سعد يتهامسان؛ الأول على صهوة حصانه، والثاني ممسك برسن جمل ويقوده، ولم أتمكن من سماع ما يدور بينهما، وما كان هذا المشهد ليثير اهتمامي لولا حرصهما على ألا يلاحظهما أحد.

جمال حك رأسه أكثر من مرة، وكان يتكلم مع الجمل الذي يقوده ويكثر من الالتفات، وأبو سعد يقرب الجواد منه أكثر وينحني أحيانا، وكأنه بحاجة أن يسمع بوضوح أكثر، وشفاه الاثنين لم تكف عن الحركة، وأنا ما كنت لأمر مرور الكرام إن تهامس اثنان أمامي، فكيف إن كان أحدهم أبو سعد والثاني جمال الدين! سأكتشف سر هذه العلاقة.

على أيقاع أقدام الدواب تسير القافلة، وتتغير أماكن الأشخاص حسب اتساع الخطى؛ يمر أحدهم بجوار آخر يلقي عليه نظرة سريعة ويتمتم:

- (بِعِين الله.)

- فيرد عليه الآخر بالمثل، لا حاجة للمصافحة أو التعارف، (بِعِين الله.)

تكفي ليبلغ الواحد الآخر ما قصد، كما يقال (نحن بالهوا سوا). تختلف اللهجات وطريقة لفظ الكلمات، والمشترك بين الجميع لفظتا (بِعِين الله) و(الذهب).

الكثير من الإشاعات تناقلها أفراد القافلة همسًا حول ذهب تحمله الجمال، وكان غريبًا أن الجميع دون استثناء كانوا على يقين بوجود الذهب، وأنا ما كنت لأشك بأن مثل هذه القافلة الغامضة ستحمل شعيرًا كما قال المغفور له مراد.

لم أتوقع أن أول الذهب الذي ستقع عليه عيناي سيتواجد بفم الكعب العفن، وذلك حينما تمكنت أشعة الشمس من اقتحام فمه والمرور على أسنانه السوداء لتصطدم بسنه الذهبي؛ وقف فجأة وفتح فمه الكبير ناظرًا وراءه وقد فرحت عيناه، مما دفعنا جميعا إلى الالتفات لاكتشاف سر الفرحة التي غزته دفعة واحدة.

من بعيد أطل علينا خيَّال اقترب من جودت وأسرع الكعب ليستمع لما يدور بينهما، لحظات وعاد الخيَّال حيث أتى، ولم يغلق المسخ فمه وعلا السرور وجهَه العبوس، وارتسمت على شفتي جودت ابتسامة ساخرة جذبت انتباه أبا سعد، فاقترب منه وتهامسا وضحكا معا. كم تمنيت حينها لو أني أصير عصفورًا يطير بجناحيه لأستمع لما يدور بينهما! الكائن الفضولي يصرخ بداخلي:

- تبا للأسرار! كم أكرهها! ماذا قال هذا الخيال لجودت؟! ولماذا فرح الكعب وسخر منه الاثنان؟!

آهٍ لو كنت أملك القدرة على التحدث مع الحيوانات لدفعت نجمة لتثرثر بما دار من حديث.

لم ينفخ أحد في البوق معلنا بدء الاستراحة ولكن نبح الدليل وتناقل الجميع الخبر، وقِرَبُ الماء بحوزتنا مازالت ملآنة، ولم نجد حاجة لأن نستبق نحو البئر. لم يُسمح للدواب أن تستريح، وهذا يشير إلى أن الاستراحة لن تطول.

أطل الخيَّال مُجددًا، وبرفقته اثنان تركهما أول القافلة ثم عاد أدراجه، فإذا بعيني الكعب الصغيرة التي تنضح بالحقارة فاضت بالسرور، وانفرجت شفتاه عن ابتسامة سوداء، وأسرع للاطمئنان على ضيفيه الغامضَيْن، لم يقطع نصف المسافة وإذا بالخيَّال الضيف يترجل ويهرع تجاهه، ويثب غزالاً يتعلق برقبته ويطيل عناقه في عنفٍ ساكنٍ، سقطت القبعة الإنكليزية وانسدل إثرها شعر طويل عبثت به النسائم فعبث بقلوب الرجال، لقد كان شعر الكعب أكثر طولاً، ولكن شتان بين رائحةِ قذرٍ عفنٍ ورائحةِ الأنثى التي تشق طريقها إلى أنوف الذكران، ولمَّا انفكت يدا الكعب ناهيك عن ردفٍ ثقيلٍ جذب خَصرًا دقيقُا تعلوه رمَّانتا غصنِ بانٍ يتثنى؛ إنها أنثى ارتدت ملابس الرجال التي لم تفلح في إخفاء حسنها، اعتقدنا أنها ابنته لولا تلك القبلة التي رسمتها على شفتيه السوداوين الغليظتين المتشققتين، سامحها الله...لو علمت أنها بحاجة إلى شفة لتقبلها لقدمتُ لها شفتي بلا مقابل.

المشهد الساخن بين عجوز قبيح وصغيرةٍ مليحةٍ تركنا في حيرة، أمَّا جودت وأبو سعد فقد اكتفيا بتبادل النظرات والابتسامات الساخرة.

الخيَّال الآخر المرافق للفتاة لم يبرح مكانه حتى أشار إليه الكعب فاقترب منه ببطء، ترجل وانحنى حتى لامس أنفه حذاء الكعب ورفع رأسه وقبَّل يده، كان في منتصف الثلاثينيات، شعره طويل تجاوز كتفيه، أنفه كحبة لوز ابتعدت عن شفتيه، أملس الوجه لا شعر فيه، متوسط الطول، يرتدي الأسود من الحذاء حتى الرأس، كان نسخةً مُصغرةً عن الكعب في ردائه؛ العباءة، وحزام القماش، والخواتم، والسلاسل، عدا أنه يضع خنجرا واحدا، ولم يكن قبيحا مثل سيده، ويبدو أن كليهما تاجر حُلِي، أو ينتميان إلى طائفةٍ ما، الطريقة التي انحنى بها على قدم الكعب ألهمتني أن أمنحه لقب خنوص ، لحين معرفة اسمه الحقيقي، وإن كان لقب كعب الحذاء الصغير أليق به. وعلمت لاحقا أن اسمه بيبرس

الأحداث تتسارع والأسرار لا تتوقف عن التدفق، لتتزاحم داخل رأسي، فلم أعد قادرًا على التنفس، خلعت ربطة عنقي، وشعرت بدوار ثم سقطت على الأرض، أسرع عبد القادر وساعدني على الوقوف، وجلب ماءً باردًا، فأسقاني، وغسل وجهي، ثم أسندني إلى جذع الشجرة التي استظل بها البيك، لا أدري ماذا حل بي؟! يبدو أن كل ما مررت به وكبته بداخلي تفجر مرة واحدة.

تنهار نفسي، والدموع في عيني تترقرق، فيسألني البيك عن سر حزني...ماذا أخبره! هل أبدأ بأشباح الموتى التي تطاردني كل ثلاثاء؟ أم بالخوف الذي يغمرني وأجاهد إخفاءه عن الآخرين؟ أم بالغيظ الذي أتنفسه مع كل شهيق؟! وبعفْوية طفلٍ صغيرٍ قلت له:

- سأموت إن لم تخبرني عن السر وراء حملنا لهذه الحجارة السخيفة كل هذه الطريق، ولا تحاول أن تقنعني أنها أثرية.

قهقه بأعلى صوته، ومنذ مدة لم يبتسم، وقال:

- فات الأوان على أن تزداد طولا، ولكن هناك فرصة لأن تزداد وزنا، إن لم تخلط مع الطعام هذا القدر الكبير من الفضول، الذي يتحول بداخلك إلى غيظ يستحيل هضمه.

قهقه ثانيةً، وتابع كلامه:

- أتذكر قبل ثلاث سنوات حينما أخبرتك أن على مؤخرة الحارس وشم غريب يحتاج إلى خبير ليحلله، وأنت بحماقتك أخذت تراقبه كلما ذهب لقضاء حاجته، وبعدما يئست من الكشف عن مؤخرته لترى الوشم، ساومته على أن يريك إياها مقابل أن تدفع له نقودا، وهذا دفعه ليظن بك الظنون؟

عادت إليَّ ضحكتي، وكيف أنسى هذا الموقف الذي زجني فيه، وتابع البيك:

- هذا الكهف يا عزيز لم يحن الوقت للكشف عنه بعد، وإن وصلت إليه الطرابيش لن ترى فيه إلا ذهبا وياقوتا يصلح لشراء المزيد من السلاح والجواري، لن يكترث أحدهم لقيمة الأسرار الكامنة وراء هذا الابداع العظيم، وما كنت لأمهد لهم طريق الوصول إليه لسرقته وتخريبه، وكان علينا أن نمارس الخداع وأن نحمل صناديقًا ملآنةً بالحجارة لإقناع الجميع بأننا أخرجنا كل ما في الكهف، ولم نترك خلفنا ما يستحق العودة للبحث عنه، ومَنْ يشك أن الأتراك يتركون خلفهم شيئا ويرحلون؟

فسألته:

- ألا تخشى أن يعود حيان يوما إلى الكهف ويسرقه برفقة أصدقائه العرب؟

امتعض من سؤالي كثيرا وقال:

- الملازم حيان كان بطلا حينما وافقني على إخفاء الكهف، وحمايته من الطرابيش، وهو يعلم أنه لن يمر وقت حتى يتسرب الخبر وتنتشر الإشاعات، ويُتهم بسرقة ما لم يسرقه، وحينها لا يوجد ما يثبت براءته إلا أن يكشف الحقيقة، وخشية أن يتعرض لذلك وافق على العودة معي لإسطنبول، لحين إيجاد حل ما، ولن أعجز عن ذلك.

فسألته بفضول:

- ولماذا أخذ رشيدًا معه؟

أجابني بنبرة حادة:

- هذا شأنه الخاص ولا علاقة لنا به.

حذرني من الثرثرة واختتم حديثه وكأنه يسعى لإغاظتي، وقال:

- حيان رجل شجاع، قلائل مَن هم مثله، سبقني حينما قرر أن مثل هذا الإرث يجب أن يكون ملكًا لشعوب المنطقة لا لطرابيش فاسدة، واختار أن يدفع الثمن.

مدَّ روهان يده وأمسك بأذني وطلب مني أن أكف عن غيرتي الصبيانية، فوعدته بذلك، ووعدني أنه سيحكي لي كل شيء عن الكهف حينما نصل بسلام.

لم أشعر بالرضا، ولكن شعرت بالقليل من الراحة، وما دامت الأوراق التي تحوي المعلومات عن الكهف تحت متناول يدي، لن أنتظر طويلا حتى أعرف المزيد، وسأحاول ألا أكره حيان، ولكني سأكره رشيدًا ما استطعت.

قررت أن أحيل اهتمامي إلى فتاة الكعب وخنوصه، فهم الحدث الطازج والأكثر إثارة. نبح الكلب وتحركت القافلة، إنَّ إيقافها لا يحتاج لأكثر من دقائق، أما تحريكها فيحتاج وقتًا طويلاً، ولا فائدة من وراء التوقف مادام قصيرًا. لم تكن الاستراحة الأخيرة لاستقبال ضيوف الكعب، وإنما كانت للبحث عن طرق بديلة تساعد على إخفاء القافلة، ولمَّا لم تتوفر اضطروا للمخاطرة بسلك طرقٍ مكشوفة.

تحملُنا طرق وعرة، وكانت أشد ظلاما، لأن الجبال حجبت ضوء القمر. بالقرب مني كان عبد القادر يقود مجموعة من الجمال، وهو مغمض العينين، اقتربت منه وأخذت أمرر يدي أمام عينيه لأرى ردة فعله، ولم يبدر منه ما يشير إلى أنه مستيقظ، إنه نائم لا شك.

لم أكن أتمنى شيئا وقتها أفضل من ساعة نوم واحدة، ولا أشك في أنها أمنية الرَّكب كله، وإن كان هذا العربي قادرًا على النوم ماشيا، فما الذي يمنعني أنا عزيز أفندي من فعلها! أغمضت عيني وأمسكت برسن بغل ليقودني، سرت لعدة خطوات مغمض العينين قبل أن أتعثر، لابد أن هناك ثقب ما بجفون عبد القادر يسمح له بالرؤية وهي مطبقة، أو أنه يمارس خدعة ما، وربما قد لاحظني أراقبه، فسخر مني.

عاد إلينا الدليل، وانحرفنا إلى عن الطريق بِناءً على أوامره، وانتهينا إلى مكان فسيح تطوقه التلال، وبالقرب منه نبع ماء يحتضر، وأصدر أبو سعد أوامره، وطلب أن نحل ونريح الدواب من حمولتها.

ضُربت عدة خيام للأسياد، أما نحن فقد افترشنا الأرض وانتظرنا دورنا لنحصل على نصيبنا من الماء، نقتات القليل من الطعام الرديء، ولا أشك في أن سكان الخيام لديهم ما يفيض عن حاجتهم من الطعام الفاخر، غفى الجميع من شدة التعب، فاستعطف حالُنا شمسَ ذلك اليوم، وتكاسلت عن زيارتنا -على غير عادتها- في مثل هذا الشهر، وحين وصلتنا آنستنا ولم تقلق راحتنا بحرِّها، وداعبت أجسادنا النائمة نسائمٌ رقيقةٌ، ولا أذكر طيلة حياتي أنى استمتعت بالنوم مثل ذلك اليوم.

أيقظني البيك قبل الظهيرة لأساعده على استبدال قطعة القماش التي غطت ذراعه المصابة بأخرى نظيفة، وكان يصك على أسنانه محاولاً إخفاء ما يشعر به من ألم. استيقظ حيان وساعدني بتنظيف الجرح، وسألته:

- إلى أين تعتقد أننا ذاهبون؟

البيك قبل حيان:

- إلى اللامكان، نحن نختبئ فقط، هذه القافلة تم الاستيلاء عليها ولابد أن هناك من يبحث عنها.

حيان:

- كل الطرق التي سلكناها تشير إلى أنهم يبحثون عن مكان للاختباء.

حينها سألت بسذاجة:

- هل نختبئ من قطاع الطرق العرب؟

ضحك حيان وقال:

- لا...نحن نختبئ من لصوص الدولة، مثل هذه القافلة يقف خلفها أحد الكبار الذين يملكون نفوذا واسعا على بعض أجهزة الدولة.

وقبل سؤالي التالي قاطعني البيك مصرًّا على أن أترجم له حوار حيان واللص العربي حينما حاولوا أن يتخذوه رهينة، وبالرغم من استيائي لامتداح حيان أمام البيك، إلا أني كنت مجبرا على قول الحقيقة كاملة، وتعمدت تكرار بعض الكلمات التي وصف بها حيان البيك أمام اللص؛ عجوز، عاجز، مسن، مريض ومسكين... فلَكز البيك حيان المستلقي بجانبنا وقال:

- أنا عاجز يا حيوان أترغب أن تصارعني لنكتشف من العاجز؟

رد حيان ساخرا:

- أنت شاب وسيد الشباب يا أستاذ روهان، وأنا فقط حاولت أن أقنع الثوار بأي كلام.

استفزني وصف العرب اللصوص بالثوار، واعتقدت أنه نطقها سهوا، فقلت:

- قصدك اللصوص العرب الأوغاد قطاع الطرق.

هز رأسه بابتسامة صفراء وقال:

- (مثل ما بدك عزيز باشا.)

علق البيك:

- لصوصٌ صغارٌ يسرقون لصوصًا كبارًا.

وبدأ بامتداح شجاعة حيان، ووبخه على تهوره، وأخذ يروي له قصصا من تاريخه المجيد المتعلق بالسياسة، والآثار، ورحلاته لمعظم بلدان العالم، وكان عليَّ أن أهرب وأترك حيان يعاني وحده قصصَ البيك المملة، التي اعتدت سماعها عبر السنين، وذاكرتَه الضعيفة التي ستدفعه ليروي القصة مرات عديدة في جلسة واحدة، ولكن كان عليّ أن أقاطع حديثهم، وأخبر حيان أني رأيت كلبه الوفي رشيدًا برفقة خدم القافلة الأخرى، ولا يبدو أنه متلهفا للانضمام إلينا، رد عليّ بفتور:

- دعك منه يا عزيز، لديه أسبابه الخاصة.

تركتهم وانصرفت لأستكشف ما يحيط بنا من أسرار، وبدأت أتلصص –كعادتي- وأبحث عن علاقات جديدة لمزيد من الثرثرة، وربما سيلهيني هذا قليلا عن التفكير في الموت وأشباح القتلى التي تطاردني في كل زاوية تستقبلها عيناي.

وأتمنى أن يحالفني الحظ في إنشاء علاقة مع الخنوص بيبرس خادم كعب الحذاء، لأعرف منه سر الحسناء.

أتجول بناظري وأينما أزحت بصري أرى حمالين وخدما وعبيدا، ازدحم المكان بهم، ويبدو أن الإيمان قد زار أغلبهم؛ حالة من الخشوع والتصوف والصمت تلف أجواء المكان، فأينما نظرت وجدت مَنْ يدعو الله، ومَنْ يصلي، بينما كان عدد المصلين –فيما مضى- لم يتجاوز أصابع اليد. يبدو أن الدماء والجثث، ورائحة الموت توقظ الإيمان في قلوب البشر، وحين تنجح الذاكرة في إبعاد شبح الموت يسبقه الإيمان في تركهم.

ما حدث سرق بهجتهم وغرز الخوف في قلوبهم، بالأمس تدافعوا وتسابقوا لمشاهدة الجثث، ولم يكفوا عن التحديق في وجه الموت، واشتمام رائحته، أغلبهم كان بعيدا ومع هذا لم يقاوموا رغبتهم في الاقتراب. خاطبتهم سرًا:

- لا ترتعبوا سيتلاشى كلُّ شىء من ذاكرتكم، أمَّا ذاكرتي الملعونة ستحمل معي هذا الخوف حتى آخر يوم في حياتي، لو علمتم الذاكرة التي ابتلاني الله بها، لغرستم مخالب الحسد فيها، وأنا أدعو الله أن يهبكم أقوى منها لتحفظ لكم هذه اللحظات الرائعة فترافقكم للأبد.

توغلت بين الدواب والبشر بحثا عن صيد سمين ومعلومات ثمينة، ودائمًا ما تكمن الأسرار تحت ثياب الخدم المدللين، فأينما وُجد خادم أنيق مزخرف، فلابد من أنه ترعرع بأرض خصبة أزهرت بها الأسرار، وتنتظر من هو مثلي لقطفها.

>>>>>>>> نهاية الحلقة الثانية عشر<<<<<<<<


٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page