top of page
صورة الكاتب

جرة ذهب - الحلقة الحادية عشر

أفاقت أعيننا من سَكْرتها على نور شمسٍ حزينة، وحفر الخوف دواخلنا وسكن نفوسنا، فصرنا نترقب أصواتًا لا وجود لها، ونجفل جراء كل خرفشة.

انشغل بعض الأغربة العشر في تفحص المنطقة، وذهب بقيتهم في مطاردة خلف العرب، طمأننا وجودهم حولنا بالرغم من طريقتهم الحقيرة في فحص الجثث بأقدامهم، طلبوا منا أن نجلس على الأرض بلا حراك، وبدا ذلك للحفاظ على سلامتنا.

كنت أعتقد أن هؤلاء الرجال الأشداء قد أنقذونا من يد العرب، ولكن حيان الذي اعتاد أن يفسد كل شيء فسَّر الحدث بِناء على خبرته العسكرية؛ بأننا كنَّا على منحدر يتخللنا العرب، وقد وجهوا بنادقهم عاليًا بعدما تساقط الرصاص علينا، وانطلقت الأعيرة النارية في تخبط وعشوائية بغير حرص على حياتنا. لقد برَّأ حيان العرب مما حدث بما يثير الشكوك حول ولائه، أمَّا البيك الذي مازال يتألم قال:

- كلهم قتلة ومجرمون ولصوص، كلهم طرابيش سكنها العُثُّ وأفسدها.

عاد الأغربة يتجولون بين الجثث ويركلونها بأرجلهم ثانية، ويرمقوننا في كِبْر وتعالي، وبغير شفقة يصدرون الأوامر ويحثوننا على التحرك، قبل جرِّهم العربي المصاب إلى جنب الطريق وأسندوا ظهره على صخرة، ليصرخ عليه أحد بالتركية:

- ما أنت؟ أين هربوا؟ كم عددكم؟

والبقية يركلونه على وجهه وجسده بعنف، ولم أفهم كيف يمكن أن يجيب على هذه الأسئلة الغبية المتتالية، وهم لا يسمحون له بالتقاط أنفاسه، اعتقدوا أنه فضل الصمت في لحظاته الأخيرة ولم يفطنوا إلى أنه لا يتحدث التركية، وهذا الأحمق الذي نزف كل دمائه استطاع أن يستجمع ما تبقى منه ليبصق عليهم، ويطلق شتائمه الأخيرة:

- (يا ولاد السقيطة.)

وهنا أطلقوا الرصاص على رأسه بدم بارد، ولم يكتفوا برصاصة واحدة، بل سعوا إلى فتح فجوة من جبينه إلى مؤخرة رأسه تمكنهم من النظر عبرها.

لا يجوز قتل أسير، وكان بإمكانهم قتله بعيدا عن الأنظار، ولكنهم لم يفعلوا، لنعي رسالتهم جيدًا:

- ارتعبوا منا، لن نتوانى عن قتل أحد.

وهذا ما أثبتته الأيام، وأخذ أحدهم يردد:

- تحركوا.. تحركوا.

لم يكن تركيا ولكنه قالها بالتركية بلسان عثماني ( هركت ايدن )، لا يبدو أنه يعرف إلى أين يجب أن نتحرك، أو ماذا يجب أن نفعل بالجثث والجرحى، نتبادل نظرات حائرة، ونتساءل في صمت: ماذا نفعل؟ وغراب آخر يصرخ بنا معتقدًا أنه تعلَّم العربية:

- (الااا! الااا امغي، امغي.)

هذه لغة جديدة وتحتاج لمترجم، ولم يفلح في ترجمتها سوي سلامة؛ فقد علَّمه طبيلة الكثير، قال سلامة إن قصده:

- يلا.. يلا امشي.. امشي.

هذا الغراب الأحمق اعتقد أننا جميعا عربا، وكما يُقال: إن الضحك الحلو يرافق الموت..وتخيلت نفسي أقول له:

- (مين عشر أمك يا ابن السقيطة؟)

صرنا قطيع غنم بدون راعٍ وبصحبة كلاب لا تعرف وجهتها، عيونهم باردة كالجليد، قلوبهم قاسية كالحجارة، لا يحسنون إلا القتل:

- (تحركوا تحركوا...امغي امغي.)

أردد سرًا، وما كنت أجرؤ أن أجهر به:

- إلى أين نتحرك أيها الحمقى؟ إلى أين (يا ولاد السقيطة؟) وماذا نفعل مع المصابين؟

لم يسمحوا لنا بجمع متاعنا، وكانت خيولهم تطاردنا، فتخرق سنابكها جثث الموتى:

- تحركوا، تحركوا.

يسوقنا الخوف إلى أعلى الطريق وأسفله؛ خيول تدفعنا جنوبًا، وأخرى تدفعنا شمالاً، سلامة يمسك بيد طبيلة ويجره خلفه مرة، ويدفعه أمامه مرة، وروهان المسكين يهرول كالأبله يمينا ويسارا، وعينا جمال الدين تتقد نارا...خُيِّل إليَّ أنه لو كان يحمل السلاح لقتلهم جميعًا، أما حيان فلم يتنازل عن عنجهيته؛ ولم يعد يذكر أنه فار من الخدمة؛ فاستوقف أحد الغربان وقال له:

- يجب علينا أن نحمل كل الجثث وننقلها لأقرب معسكر للجيش مع المصابين.

هذه المرة كان الحظ حليفه، فالرجل الذي خاطبه لا يبدو أنه يتكلم التركية، ورد عليه بالكلمة الوحيدة التي يجيدها:

- (امغي، امغي.)

روهان الذي لا ينحني لأحد اقترب من حيان وقال له:

- ألا تعرف أن تخرس يا حيوان؟ هل أنت أحمق! ألا تفهم ما يدور حولك! أغلِق فمك ولا تتكلم، أطِع تحركوا، تحركوا (امغي، امغي) ولا تجادل.

وما كان لأحمق مثل حيان أن يطيع أحد، فاقترب من المصابين، واضطررنا لمساعدته، وحملنا ثلاثة من المصابين على حمير، أما الرابع فلم تسمح إصابته بتحميله على الدواب كشوال من الخيش، فأسرع حيان يعد حمالة من حطام الصناديق التي أفقدتني صوابي طوال الأيام الماضية، وهمَّ أحد الغربان بمنعه، ولكنه تزامن مع وصول غراب آخر يتحدث التركية عائدا من مطاردة العرب، فسمح له بذلك، وساعده عبد القادر في حمل المصاب.

تلملم الجميع في قطيع واحد، وسارت بنا بلاهة هؤلاء الذين لم يتوقفوا عن الصراخ:

- (هركت ايدن) تحركوا...تحركوا.

تركنا كل شيء خلفنا، ولم يكف حيان التحامق، ولم يتنازل عن التصرف كقائد، ونادى على جمال الدين ليحل محله في مشاركة عبد القادر، إلا أن جمال الحقير أمسك برسن جمل وتجاهل نداءه، حتى لا يرهق نفسه بهذا الحمل الثقيل، أمَّا أنا فقد تواريت خلف أحد الجمال؛ فالمصاب عربي والأولى أن يطلب من العرب أن يقوموا بهذه المهمة الشاقة، وبالفعل تسابق عدد منهم لحمل الحمالة وعلى رأسهم سلامة.

والأحمق حيان أمسك بطوق حمار وعاد به للخلف قاصدًا جثتي مراد وحسن ليحملهما معه، وما إن سار عدة أمتار حتى أطلق أحد الأغربة رصاصة أصابت الحمار وشلت حركته، فتوقف حيان وأخذ يشير بيده تجاه جثث الجنود؛ ليفهموا أن هدفه جلبهم فقط؛ فأشاروا ببنادقهم آمرينه بالعودة.

الرصاصة التي أطلقها الغراب وأصابت الحمار نطقت بكل اللغات وخاطبت كل منا على قدر استيعابه؛ فكل ما مر بنا من أهوال لم يصل إلى بلاغة الرصاصة في الشرح والإيجاز، هذه الرصاصة اليتيمة أفصحت عن وجهتنا؛ فنحن جميعا نسير في طريق الموت.

- (هركت ايدن)

تحركنا كالأغنام تاركين خلفنا متاعنا والجثث لتتغذى عليها الضباع، ولم نقطع مسافة الأربعمائة مترًا حتى توقفوا وعطفوا أعنة الخيل، وطلبوا منا أن نستدير ونعود أدراجنا:

- (تحركوا...تحركوا...امغي...امغي.)

عدنا حيث بدأنا، وحرصنا على ألا تدوس أقدامنا الجثث، وحوافر خيولهم لم ترحمها، وتركت خلفها آثار دماء بعد أن عبرت البرك، وبعدما استوت الطريق، بدا من بعيد خيَّالان يسيران تجاهنا، ولمَّا لم تعد تفصلنا عنهم سوى عشرات الأمتار، رفع أحد الأغربة بندقيته وأطلق عليهما الرصاص، وتبعه البقية، فقفز الخيالان واحتميا وراء صخرة.

سمعنا أحدهما يصرخ بالتركية؛ يشتم أمهاتهم وأخواتهم، يلعن ويلعن، حتى علت شتائمه صوت الرصاص وأسكتته، أطل الرجل برأسه من خلف الصخرة ولسانه لم يتوقف عن الشتم، وحينما اطمأن ركض نحو فرسه التي جفلت، وأخذ يتفحصها ليطمئن على سلامتها واقترب من الغربان يقود فرسه خلفه ولسانه وعيناه لم يتوقفوا عن اللعن والتوبيخ.

- (يا جهله، يا دواب...يلعن أبوكم.)

ولم يهدأ حتى أفرغ كلَّ ما في جعبته من شتائم، ثم عاد وانشغل بفحص فرسٍ أصيلةٍ حالكةِ السواد يسميها نجمة؛ خلع عنها السرج الثمين وأخذ يتفحص أسفله، واسم الخيَّال جودت أفندي...لم نره وصاحبَه من قبل، وحين رآه البيك علَّق همسًا: "رائحة جمال باشا تفوح منه، والكثير من الشبه يجمعهما"؛ كان في الثلاثينيات من عمره، طويل القامة، ممتلئ الجسم، بشرته ناعمة بيضاء لم تلامسها الشمس، أنفه صغير وشفتاه أنثوية، وشاربه مرسوم بدقة وعناية، عيناه عسليتان، لا تخلوَا من إرهاق السفر، يرتدي زي العسكر، ولا يبدو أنه منهم، كفيه الناعمة تؤكد أنه أقرب إلى أهل العلم. وبعد أن اطمأن الحلو الناعم على فرسه نجمة، أشار بيده وأخذ ينادي على الرجل الآخر الذي بقي مختبئا خلف الصخرة:

- تعال يا شيخ لا تخاف...تعال.

أطل الآخر برأسه في حذر شديد عدة مرات، وبصر جواده الذي تكوم على الأرض، فلم يكلف نفسه عناء الاقتراب منه، وتركه خلفه وتقدم نحونا.

حينما ناداه الناعم بالشيخ، خِلْته رجلاً لحيته بيضاء ويحمل مسبحة، وإذا برجل ضخم الهيئة، قارب طوله المترين، يدب على الأرض كبغل، يثير الغبار خلفه، ترفرف وراء ذيله عباءة سوداء، لم نحسبه قبيح المنظر، وكلما زاد اقترابه زاد قبحه، خطوات معدودة بيننا وبين وجهه المشؤم الصحراوي الجاف، الأجرد القاحل، تزاحمه ندوب أحدثتها ضربات خنجر أو سيف، لم تنبت فيه شعرة ولا شوكة، لعله حلق شاربه ولحيته خلف الصخرة، وحف جلده بحجر قبل أن يطل بوجه السخام الأسود، برز منه أنف ضخم مستطيل، يشبه كعب حذاء البيك، ويلائم وجهه كثيرا، جاوز شعره كتفيه، يرتدي لباس أهل جنوب المغرب، وزين عنقه الطويل بالكثير من السلاسل، ولبس خواتمًا بما يفوق عدد أصابعه، وشد وسطه بحزام قماشي، ودس فيه ثلاثة خناجر، ولا يحمل معه أي سلاح ناري.

لو فوجئ أحد ليلاً بهذا المسخ الشارد لأصابته نوبة، واستعاذ بالله من كل شيطان مارد، ولكن فرار هذا المسخوط خلف الصخرة كفأر سرق الكثير من هيبته، ولم يترك في نفوسنا إلا الاشمئزاز وبخاصة حين أخذ يتفحصنا بعينيه الصغيرة المملوءة بالمكر والخبث، وكأننا خراف يرغب في انتقاء أحدنا لوجبة الغداء.

قام جودت بنشر الغربان الأغبياء، واصطحب واحدًا منهم لينضم إليه وكعب الحذاء في اجتماع استمر لعشر دقائق بعيدا عنا، ولم يتوقف كعب الحذاء عن النظر تجاه الطريق، وكأنه يترقب قدوم أحد ما.

لم يمضِ من الوقت الكثير حتى رأينا أربعة من الغربان يقتربون على رأس مقدمة القافلة الغامضة، فاعتقدت أن هذا ما ينتظره الكعب، وتبين أنه يترقب وصول شيء آخر؛ لأنه اقترب من القافلة ثم عاد عابسا.

ترك ملثم القافلة واتجه نحونا، ويبدو أنه ما زال مصرٌ على إخفاء وجهه، فامتطى جودت نجمة، ولاقاه في منتصف المساحة الفاصلة بيننا وبينهم، وانضم إليهم عصا المكنسة أبو سعد، ونحن لم نتوقف عن مراقبة اجتماع الثلاثة من بعيد، وهم على صهوات خيولهم، تحدثوا معا لعدة دقائق، ثم عاد جودت إلى الكعب، وتمتم معه قليلا، ويبدو أنهم حسموا أمرهم باستمرار السير في الطريق نفسها.

تحركنا معا عائدين إلى طريقنا الأولى، فاقتربنا من ساحة المجزرة، كنا نسبقهم ولم تبعد قافلة الكنوز عنا عشرة أمتار، ولكن حينما اندفع الجميع للاستمتاع بمشاهدة الجثث، واشتمام رائحة الدماء، صرنا قافلةً واحدة.

تجول الكعب برفقة جودت بين الجثث ثم ابتعد واختفى عن أنظارنا، وصرخ جودت في أحد الغربان وأمره بإطلاق الرصاص على رؤوس الدواب المصابة، وكان هذا مؤشرًا على إنسانيته.

عاد الكعب بعد جولته بأطراف الوادي، ثم أمرونا بالحفر لدفن الجثث حيث أشار الكعب، اجتهد جميعنا في الحفر لنيل الثواب وإزاحة الهم الجاثم على صدورنا، وانضم إلينا الكثير من خدم القافلة المهمة للمساعدة في حفر القبور.

وأثار استغرابنا أن الكعب أصر على دفن كل الجثث في حفرة واحدة؛ جنود، وعرب، خدم وحمالين.

امتعض حيان وتطاير الشرر من عينيه واستاء لترك تدوين أسماء الضحايا، فاقترب منه روهان وهمس محاولاً منعه من ارتكاب أية حماقة، ويبدو أنه أقنعه بضرورة الخرس وإلا سينضم إلى رفاقه بالحفرة.

وحرص حيان على حمل الجندي حسن ودفنه، وجاهد دموعه التي أبت إلا أن تشق طريقها عبر وجنتيه، وحينها تأكدت بوجود سر ما يربطه بالجندي حسن، وسأكتشفه عاجلا أم آجلا.

بعد ذلك طلب جودت رش التراب على الدماء، لا أعرف إن كان ذلك احتراما أم إخفاءً للآثار، وطلب الكعب الحقير أن نجر الدواب النافقة عن الطريق حتى لا تعيق مرور القافلة، ولم يكن هذا يسيرا لولا وجود طبيلة، لقد استحق -عن جدارة- الطعام الذي التهمه في الأيام الماضية.

لم يتوقف قبح كعب الحذاء على منظره الخارجي بل تعدى إلى التشويه الداخلي؛ طلب أن نجر أحد الحمير التي نفقت ونضعه فوق القبر الجماعي، وسجل جودت موقفًا إنسانيًّا آخر وعارض بشدة ذلك العمل البربري، واستاء الكعب ودار بينهما حوار استمر لدقائق واختتمه الكعب بقوله:

- (انت شوف شغلك وأنا بشوف شغلي.)

رضخ جودت أمام إصرار الكعب، فجررنا الحمار ليزين القبر الذي اجتمع فيه الأتراك والعرب والخدم...سؤال حائر يجول في رؤوسنا جميعًا حول هذا التصرف المشين. ألم تكن هناك طرق أخرى لتمويه النظر عن هذا القبر الجماعي دون إهانةِ أرواح الأموات؟! إن المغول لم ينحدروا إلى مثل هذا الانحطاط والإسفاف!

لقد جذبني ذلك القلق والخوف الذي اعترى جمال الدين المتباهي، الذي لم يخفِ اشمئزازه من كل شيء، ولا شك أنه يلعن -كل حين- تلك الأقدار التي حملته إلينا مع قافلة المؤن، وربما كان يتساءل سرًا:

- لو مِتُّ في معركةٍ هذا الصباح هل سأدفن تحت هذا الحمار؟!

>>>>>>>> نهاية الحلقة الحادية عشر<<<<<<<<



٠ تعليق

Comments


bottom of page