top of page
صورة الكاتب

جرة ذهب - الحلقة العاشرة

اقترب قائدهم وألقى نظرة فتجهم وجهه، وأخذ يصرخ بهستيريا عربية: - ( شو هاظا يا ولاد الحرام؟) انهال علينا بالشتائم، وكالَ لنا الإهانات، وأمطرنا بوابلٍ من القذف والسب، ملامحه الباردة الخشنة تدل على أنه لن يتوانَ عن ذبحنا جميعا، ولن يرتد طرفه، راودتني الأفكار بأني سأموت قبل معرفة ما تحويه الصناديق، العربي يكرر جملة "شو هاظا يا ولاد السقيطة"، وكأنني أرى عيون الموت تحدق بي، وعلى الرغم من هذا كله خطر ببالي أن أسأله: - أنت قل لي ما فيها يا أخي، واللهِ أنا أيضا أريد أن أرى ما فيها. ولكن انفلتت مني ضحكة خنقتُها سريعًا، وتذكرت قولة البيك حين كنا في طريقنا إلى مرج بن عامر، هذه القافلة تحمل الموت، وتساءلت إن كان في الصناديق لعنة ما تجر خلفها الموت، ولكن يبدو أن ابتسامتي الغبية هي من لعنتني وجذبت العربي إلي مباشرة فقال: - (بتظحك يا وَلد السقيطة! بتفكرنا هبايل! على مِنْ تتخوث يا ابن الخايسة؟!) لم أفهم مما قاله سوى شتم أمي، يسأل عشرات الأسئلة ولا ينتظر الحصول على جواب، أربكني صنيعه؛ كلما حاولت فهم سؤال باغتني بسؤال آخر: - أتعتقد أننا بُلْه ويمكن خداعنا! هي.. أخبرني ماذا تخفون معكم ولِمَ سلكتم هذه الطرق الوعرة أين أخفيتم السلاح والمال؟ وكان سؤاله الأخير قبل أن يتوقف عن طرح الأسئلة: - (مِن انتْ ومِنو راعي الصناديك؟) فهمت أنه يسألني عن المسؤول عن هذه الصناديق، ولأول مرة في حياتي لم أجد الرغبة بأن أدعي أنى أستاذ كبير أفندي بيك باشا. وقررت أن أثقل ضميره إن فكر في قتلي وأجبته بالعربية: - أنا مسلم ابن مسلم، عربي ابن عربي أنا أخوك في الإسلام اسمي عزيز من حلب. سريعًا: - من أي حارة بحلب أنت يا عزيز العربي؟ لم يكن الجواب على سؤاله صعبا، وقلت له من حارة السوق، وكنت أستطيع أن أصفها لو طلب، لأني قضيت بها عدة أشهر مع والدي حين كنت صغيرا...فشلت في إقناعه، فسألني بلهجة بدوية لم تسعفني لغتي العربية من استيعابها: - (ومِنو التركي اللي عشَّر أمك وعوج لسانك!) وفهمت لاحقا أنه قصد مَنْ التركي الذي حملت منه أمك ليجعل لسانك ثقيلا بنطق العربية، في وقتها لم أستطع إجابته على السؤال، وكان واضحا أنه كشف خداعي، وقال: - (مِنو راعي هالصناديق يا ابن السقيطة؟) وأخذ يسأل الجميع ورفيقه يترجم ما يقوله إلى التركية، وهنا وقف البيك وقال: أنا روهان بيك، عالم آثار تركي...قالها بفخر وكبرياء، وكأنه يودع الحياة في شجاعة، وأخذ مرافق العربي يترجم له ما قال، وأشار العربي بيده ناحية الصناديق وسأل: - (شو هاظا اللي فيها؟) أرخيت أذني وقطعت أنفاسي لأسمع جوابه: - إنها حجارة جلبناها من مكان يسكنه الجان والعفاريت لبناء مسجد ليصلي فيه الجان مع البشر. هذا ما قاله البيك؛ لقد حاول استغلال خوف العرب من كل ما يتعلق بالدين والخرافة، وهو أول الساخرين منها؛ لقد صرح مرات بأن هذه الخرافات خُلقت في عقول البشر لاستعبادهم، وضمان طاعتهم العمياء، ويبدو أن البيك لم يفلح في استعباد عقل العربي؛ يقول العربي: - والله ما في غيركم شياطين يا ولاد السقيطة، هذه الحجارة تملأ كل واد وجبل، ولا أرى فيها ما يستحق أن تتكبدوا العناء في حملها، لقد نهبتم بلادنا ولم تتركوا إلا الحجارة، ولا أرى فيها ما يصلح لبناء مسجد، بل تصلح لتكون قواعدًا تدعم الخوازيق التي سيجلس عليها العرب إن لم يقبِّلوا حذاء السلطان، وحاشيته، وخدمه، وعبيده. والآن إما أن تخبرني الهدف من وراء هذه الخدعة، وإما سأكنس الأرض بشاربك القبيح، ثم أحلقه بخنجري قبل أن أطلق النار على رأسك واجعل من هذه الحجارة قبرا لك ولعفاريتك. وأخذ المرافق يترجم للبيك ما قاله، واحتد الموقف كثيرا، فروهان ليس من النوع الذي اعتاد الخضوع، أو إمساك لسانه أمام أحد، ولا يبدو أن هذا العربي سينحني احتراما لمقابلة بيك تركي...استشعرت بخطر يحيط بالبيك ووقفت على قدمي لأسانده ولعلي أستطيع أن أرى الحجارة التي يتحدثون عنها، وقبل أن أنطق بكلمة أشار بيده صارخًا: - (اركز مطرحك يا ولد السقيطة.) وهنا فاجئنا حيان بشجاعة منقطعة النظير، وأخذ يتحدث بعربية لا يتقنها إلا عربي قُح، ولم أسمعه يتحدث بها من قبل، وقف ولم يأبه بالسلاح الموجه اليه، واقترب من العربي في شموخ وكبرياء تركي أصيل، وقال: - اسمع يا أخي، لقد تناولت الطعام في بيت الشيخ عقيل بالجليل، وفي بيت الشيخ أبو مدين بالسَبِع، واستمع ما سأنير به عقلك جيدًا، لقد أُعدت هذه القافلة لتكون كمينًا لجذب قطاع الطرق والثوار العرب، وأنت أعرَف بالأتراك مني، فهم لا يكترثون إن قُتلنا جميعا فداء تحقيق أهدافهم، ولن يمر الكثير من الوقت حتى تحاصركم الفرق الخاصة. ويبدو أن ما قاله حيان قد أربك العربي قليلا، ودفعه للتلفت مرات، ثم سأله: - ولِمَ تخبرني بذلك؟ حيان: - لأني لا أريد أن نعلق بين شقَّي الرَّحى. العربي: - ومن تكون أنت؟ فاجأني حيان بأن تحرَّى الصدق في قوله، وأخبره الحقيقة كاملة: - أنا ملازم أول بالجيش التركي، وقد هربت من الخدمة، وقادتني الأقدار كي أعلق بهذه القافلة التي لم أدرك هدفها الحقيقي. العربي ينظر في عيني حيان وكأنه يبحث عن أثر لخداع، ويشير بيده إلى أحد رجاله فتسلق التلة للاستطلاع، ثم سأل العربي: - ولمَ هربت من الجيش؟ - قصة طويلة، ولي أسبابي الخاصة. ابتسم العربي الذي لم يُخفِ إعجابه بجرأة حيان وسأل: - كم عربي قتلت يا ملازم حيان؟ رماه حيان بنظرة شرسة، وقال: - اسألني كم عربي استشهد وهو يحارب بجانبي بالبلقان! وكم عربي أنقذته وأنقذني! يبدو أنك على جهلٍ بأن أكثر من ثلث الجيش العثماني من العرب. قهقه العربي، وقال: - كل مسلم يدعو الله أن ينال الشهادة إلا الأتراك يدعون الله أن يمنح الشهادة للعرب، وكرمكم الزائد وحبكم لنا دفعكم لزجنا في أوائل صفوف كل حرب هيَّجتموها، لنسبقكم إلى الجنة، ولكن طاعتنا لكم أدخلتنا جهنم في الدنيا وستزج بنا إلى جهنم في الآخرة. صمت حيان وكأنه لا يستطيع أن يدحض هذه الحقيقة، وسأل العربي في جرأة: - من أين أنت يا أخي؟ فأجابه: - (من بلاد العرب، وجاي على بلادكم وبلاد أبوكم ألقِّط حمام.) في هذه الأثناء كان رفاق العربي مشغولين يجمعون كل ما يرونه يستحق، ويحملونه على الجِمال، ولاحظ حيان أن نظرات العربي تجاه البيك لا تبشر خيرا...العربي يطلب من البيك مرافقتهم، وطلب حيان أن يرافقهم بدلاً من البيك، فقال العربي: - حياتك لا تساوي رصاصة، أمَّا هذا فلابد أن يكون له ثمن ما. وهنا اقترب أحد العرب وأمسك بكتف البيك ليقوده أمامه، وفاجأنا الأحمق حيان واعترض طريقه متحديا الموت، فرفع القائد سلاحه وألصق فوهته برأس حيان وقال: - حابب تموت يا تركي؟ حيان: - لا أرى فيك قاتلا ولا لصا، ولا يناسبك أخذ رجل مسن رهينة، خطف الشِّيْبِ ليس من شيم العرب. ابتسم العربي ساخرًا، وقال: - نعم هي من شيم الأتراك لا العرب. تحول الحديث بينهما إلى همس، ولكن ملامح وجه العربي دلت على اقتناعه بما يقوله حيان وبدا في عينيه شيء من الاحترام. أشار إلى رجاله آمرًا بالتحرك سريعا، إلا أن دوي رصاصة واحدة تردد صداها في كل أرجاء الوادي كانت كافية لقلب الأمور رأسا على عقب، الجميع خائفٌ يترقب، وإذا بالعربي المراقب يتدحرج من فوق التلة، وقبل أن يصل إلى الأرض جثة هامدة، أُمطرنا بوابل من الرصاص؛ ضجيج وصراخ، يتساقط البعض أمام أعيننا، زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، انبطحنا على الأرض، يتبادلون إطلاق النار، وعلقنا بين المتحاربين، هي لحظات خاطفة، وشعرت بأنها الدهر كله، وما كنت أجرؤ على رفع رأسي لإشباع فضولي هذه المرة. سكن صوت الرصاص، وحجبت أشعة الشمس ظلال سوداء، وقدم لعينة حاولت قلبي على ظهري، فرفعت رأسي، وكان راكلي أحد الأغربة ليحصي عدد القتلى، ومن حوله عشرة آخرون؛ فنتيجة المعركة قد حُسمت لصالحهم. اختلطت دماء البشر والدواب، وخضَّبت الأرض، ولطَّخت الموتى والأحياء؛ ثلاث جثث من الخدم والحمالين، وأربع من العرب ملقاة على الأرض، وابن السَّقيطة أصيب برصاصة في صدره ومازال حيا، وفي الخلف جثتان عربيتان، وواحدة لأحد أفراد الفرقة الخاصة، وأُصيب اثنان، كما أُصيب روهان بيك برصاصة في ذراعه، وأكثر من عشرة إبل وبغال سقطت على الأرض، بعضها سكنت حركته، والبعض الآخر مازال يصارع الموت. استجمعت شجاعتي وأسرعت لأساعد حيان في إسعاف البيك، وكان يتأوه من شدة الألم، وكان حيان بارعا؛ استطاع وقف النزيف، وكَيّ الجرح بعدما باغته بغرس سكين في جرحه واقتلع الرصاصة؛ موقف بطولي لحيَّان، أمَّا أنا فلم أقو على فعل شيء سوي العثور على سكين وإشعال النار، والإمساك بيد البيك، وإشاحة وجهي بعيدًا. أخذ حيان ينتقل من واحد إلى آخر، ويتفحص الجميع، ويسعف المصابين وكان طبيلة أكثر الجرحى صراخا ونحيبا، ولم يتوقف عن المناداة (سمامه سمامه). مزَّق حيان ملابسه ليتفحصه، فلم يكن إلا خدش صغير بطرف كتفه، وكانت الدماء التي سربلته لخادم سقط فوقه، ولبغلٍ كان على مقربة منه، بذل سلامة كل جهده ليسكته، ولم ينجح فصفعه على وجهه، فتراجعت قليلا خوفًا من هياج هذا الثور، وحدث ما توقعته، واستحالت السيطرة عليه، وهنا تفاجأنا جميعا عندما اقترب منه عبد القادر ولامسه وتمتم بعدة كلمات فصار بين يديه طفلٌ صغيرٌ. أخبرنا حيان بأنه مصاب بنوبة ذعر، فاندهشت لذلك العملاق؛ فأنا المذعور دوما بغير ذعر أتمالك أعصابي. أسرعنا لمساعدة عبد القادر في إسعاف أحد المصابين، لقد كان الجندي حسن. شرع حيان يضغط على صدره في محاولةٍ لوقف نزيفه، ولكنه ارتبك وأصابته رعشة لرؤية الجندي مراد مُلقى بجانبه وقد فارق الحياة. ولكنه لم يفقد الأمل في استعادة حسن...عينا عبد القادر كانت تقول له: توقف. لا أمل له في الحياة...رفع حيان يديه المخضبة بالدماء عن صدر حسن يائسًا، وتركه يلفظ أنفاسه الأخيرة في صمت، ثم أمسك برأسه وتمتم بالعربية: - الله معك يا حسن. قبَّله على جبينه وابتعد مسرعا، ليخفي دمعة قد انفلتت من عينيه. لم يتوان الجميع عن تقديم المساعدة، حتى الدليل الأجرب تصرف بنبل. مازالت الشمس قابعةً على قمم الجبال التي تطوِّقنا، تراقب وتتعفف عن النزول، حتى لا تغرق خيوطها الذهبية في دماءٍ هانتْ على نفوسٍ طامعةٍ. ولكن هل تختلف نفسي كثيرًا عن هذه النفوس! يكسوني رداء الخزي من ذلك. أكلُّ هذا من أجل كومة من الأحجار والتراب! وإن كانت القافلة الغامضة وراءنا تحمل ذهبًا، فهل يستحق الذهب إراقة دماء البشر! تصطف كواسر الطير على القمم لتنقض على أكوامٍ من لحوم البشر والحيوان. تتعثر قدماي في جثث ملأت الساحة، أجاهد النظر إليها، لا أريد أن أحمل الأموات معي إلى الأبد؛ فإن سكنوا ذاكرتي سيرافقونني ليل نهار وسيشاركونني فراشي وطعامي، تبا للأموات وليوم الثلاثاء! كم أكرههم وأكره معهم ذلك اليوم! ثلاثة عشر عاما وفتاة في الخامسة عشر من عمرها تطاردني كل ثلاثاء، تزورني قبل النوم، تتعرى وتتمدد بجانبي، وتجبرني على ملامسة جسدها، ثم تطلب مني غسلها بالماء والصابون، وحين أنتهي ترميني بنظرة غامضة، وتهمس بأذني: - "سأعود إليك قريبا". تلف جسدها في رداء أبيض ثم ترحل عني، ماذا تريد مني؟! وهل تسعى لمعاقبتي برؤيتها عارية! أم أن ذاكرتي اللعينة هي من يقف وراء هذا كله؟! في مثل ذلك اليوم "الثلاثاء"، قبل ثلاثة عشر عاما، دفعني فضولي المريض لأتسلل وأشاهد النسوة يقمن بغُسل فتاة استعدادا لدفنها، الفتاة كانت خالتي دَولت رحمها الله، لم أجرؤ على إفشاء هذا السر لأحد. واليوم أتساءل هل سيبدأ هؤلاء الأموات بزيارتي مع خالتي! تبا لهم ولذاكرتي إن اجترؤا على ذلك! سأمسك بسكين وأنتزع جزءا من دماغي وألقيه للكلاب أو لكواسر الطير، وأظنها لن تقترب منه؛ لأنها ستشبع في يوم الثلاثاء هذا. أشغلت فكري بمتابعة عدة سيول صغيرة من الدماء منبعها جثث البشر والدواب تشق طريقها لتكون بركا صغيرة حمراء هنا وهناك، وعلى الرغم من حذري إلا أني -مثل الآخرين- أغرقت حذائي بإحداها. مازلت أسمع دوي الرصاص وضجيج البشر والدواب، فالتفت حولي ولا أرى أحدا، ولكني مازلت أسمع أصداءً متداخلة؛ صهيل الخيل، ورُغاء الإبل، وشحيج البغال والحُمُر، وصراخ البشر؛ طبيلة يصرخ، سالم يصرخ، الكل يصرخ، وما عاد هناك صراخًا أو ضجيجًا؛ لقد خيَّم الصمت على ساحة الموت، ولكن الصراخ سكنني. أتساءل إن كانت رحلتنا قد خُتمت بهذه المذبحة، وأننا سنعود إلى ديارنا لنروي هذه المأساة لأصدقائنا وأهلينا. أعتقد أن المتسببين في هذه المذبحة لم يعودوا في حاجة إلينا بعد الآن؛ نجحت خطتهم، وكنا الطعم المناسب لقطاع الطرق وربما للجيش العثماني نفسه. سذاجتي دفعتني لأفكر بأنهم سينقلون الجرحى لمعالجتهم، وسيطلقون سراحنا، ولكن هيهات هيهات؛ إنَّ رحلة الموت لم تبدأ بعد... - >>>>>>>> نهاية الحلقة العاشرة<<<<<<<<



٠ تعليق

コメント


bottom of page