top of page
  • صورة الكاتب

جرة ذهب - الحلقة السابعة عشر

رفعت رأسي فرأيت جودت أفندي واقفًا بجوار ثلاث جرار متوسطة الحجم قد لحقت بنا مع الفوج الثاني من عبيد السخرة، وأمرنا الكعب بحملِها إلى الحفر الثلاث، وكانت كل حفرة تبعد عن الأخرى مسافة مئة متر تقريبًا، حاولت سبْق الجميع لحمل إحدى الجرار، ولكن ثقلها أعلمني حدود قوتي فتركتُها. وبعدما سكنتْ الجرار أعماق الحُفر أُمرنا بأن نعيد التراب مكانه.

نفدتْ طاقتي إلا أني سبقت الجميع وادفن يا عزيز ادفن!

أعتقد أن سانتور هذا لم يحفر أو يدفن طيلة حياته، وأنا ما عدت قادرا على رفع يدي حينها قررت أنه لن يضرني إن أهملت بعض القواعد السانتورية المرهقة...انتهينا من دفن الجرار تحت إشراف الكعب ومراقبة جودت الذي كان حريصا على تأكده من إتمام الأمر، وفاجئنا المسخ اللعين حينما بدء يتراقص ويقفز -مثل السعدان- من حفرة إلى أخرى، يسجد ويقف ويتمتم بكلمات غريبة:

- قـــاقا... بـــاقا.... مالكياواكيفو دونياتشيني موتو قـــاقا... بـــاقا....

من المؤكد أن ما ردده لا علاقة له بالأمازيغية ولا بأية لغة، وكما قال روهان يوما:

- في بلاد أهلها من الصم لا يهم بأي لغةٍ تتكلم.

لستُ أدري كيف استطاع حمارٌ الصعود أعلى التلة! لقد أشار الكعب إلى خادمه الخنُّوص بيبرس ليجلب حمارًا، وبعدما استلمه الكعب خلب الأبصار عندما أخرج خِنجره وحزَّ عنق الحمار ثم تراجع بعيدًا وقد جحظت عيناه في الدماء فانتفض جسده وأسرع يلاقي بكفيه صفير الدماء المتدفقة من عنق الحمار، ويواصل الرقص ويتمتم بهراء الـ "قاقا باقا"، بينما يلفظ الحمار أنفاسه الأخيرة راشِقا الجميع بالدماء. يعلو صوتُ المسخِ بالهراء، ويعلو صفير الدماء، وغطيط الحمار، يتراقص المسخُ، ويصارع الحمار الأرض، يقفز المسخُ فوق الحفر الثلاث، ويحفر الحمار بحوافره أخدودًا تلو الآخر، ومازال المسخُ يعاود القفز وملاقاة الدماء بكفَّيه إلى أن صارت البقعةُ أخاديد متداخلة تسري خلالها دماء الحمار حتى امتلأت وسكنت بسكون جسده بعدما غادرته الحياة، وسكنت جوارح الكعب البغيض وكأن الروح الشريرة التي سكنته قد غادرته بصحبة روح الحمار المسكين.

جودت أفندي يراقب الطقوس الشيطانية، ولم أستطع قراءة تعابير وجهه وسط هذا الضجيج، ليتني أفهم ما يدور في رأسه! نظراته تجاه المسخ زادتني حيرة؛ هل هو معجب برقصة السعدان التي أداها لاستحضار عفاريته؟ أم بنشيد الـ"قاقا باقا"؟ أم هو ساخرٌ من كل هذا الهراء؟ عيناه تحمل الكثير من السخرية والاشمئزاز، والمنطق يستوجب أن يكون معجبًا ومستمتعًا بالعرض، وإلا فما الداعي وراء اصطحابه مثل هذا المشعوذ الأبله!

خادم الكعب وقف مُفتخرًا يراقب سيده ويتمتم بنشيد الـ"قاقا باقا"، أمَّا بقية العبيد فليسوا في حاجة لتفسير ما قام به المسخ العجوز؛ تترجم تعابير وجوهم قناعةً بأنه قد جذب الجان لرصد الدفائن وحراستها، وآمنوا بهلاك مَنْ يحاول الاقتراب إلا مَنْ يحمل تصريحًا بذلك، ولم يستطيعوا إخفاء ما اعتراهم من رعب جرَّاء رقصة العفاريت؛ يُخيَّل إليهم أن عفاريته المزعومة تجول بينهم وتحيط بهم وقد تتخطفهم في أية لحظة، وما كنت لأشك لحظة واحدة بأن كل ما قام به المسخ لا يتعدى "هُراءً برائحة الخِراء"، ولكن القواعد السانتورية تقول: "لتثبت أنك أحمق، يجب عليك تصديق كل شيء"، فكان لابد أن أسبق الآخرين أعجابًا وانبهارًا وخوفًا، ولو تطلب الأمر سأرقص وأنهق "قاقا باقا"، وسأتظاهر بالإغماء من رهبة العفاريت، ومن يملك القدرة على منافستي في التمثيل والادِّعاء وتقمص الأدوار، وأنا ابن الطباخ الذي أقنع الجميع بأنه باشا ودفعهم لتقبيل يديه...تقمصت دور المرعوب، فتحتُ فمي للذباب، وأرخيت وجنتي، وتركت عينيَّ تغرق في النعاس، ورموشي تصفق بلا توقف، وضممت يدي على بطني وتركت اللعاب يسيل على ذقني.

حين انتهى الكعب من هُرائه واختفى كل أثر يدل على حفر ودفن أمرنا بالعودة، وكنت في ذروة التقمص، فتصنمت مكاني بلا حراك، صامًّا أذني أمام صوته اللعين، فصرخ بي:

- تحرك أيها الغبي.

تجاهلتُه وتوقعتُ أن يصفعني، ولكنه اقترب وأمسك كتفي وهزني، فأخذتُ أصرخ بأعلى صوتي متظاهرا بالفزع، ومرددًا:

- بسم الله الرحمن الرحيم.

اعتلت وجهَه ملامحُ الحيرة ولابد أنه تساءل إن كان ما أصابني قد نتج عن حدث الـ"قاقا باقا"، وقال:

- لا تخف...لا تخف...هيا انصرف.

جررت جسدي بتثاقل وبطرف عيني لمحتُ الفتى الأمهق ينقش رموزًا أشْبَه بالهلال والأفعى على صخرة كبيرة، وجودت يدون ملاحظات على مفكرة يحملها، وعيناه تبحث عن أية معالم ثابتة لا تنطمس بفعل الزمن، فأيقنت أنه يرسم خريطةً للاستدلال على المكان لاحقا، وكأنه لا يعتمد على عفاريت كعب الحذاء.

لو أدرك جودت قدرات ذاكرتي الخارقة لما احتاج إلى كل هذا العناء، وبالرغم من سانتوريتي وحرصي على بقاء رأسي مُنكسًا إلا أنه كان يكفيني النظر بطرف عيني لأرسم خرائطي الخاصة، وأقول سرًا:

- سأعود يا أولاد السَّقيطة وسأخرج ما دفنتموه.

انتهت مهمتنا الأولى، وكان نزول التلة أسهل من صعودها، وعُدنا جميعا إلى الطريق وسارت القافلة ثم توقفت، وتكرر الأمر مرات؛ احفر يا عزيز احفر، ادفن يا عزيز ادفن، حفر...دفن...جِرار لا شك أنها ملآنة بالذهب...هراء الكعب ورقصة السعادين...الـ"قاقا باقا"...نقش الأمهق على الصخور...ملاحظات جودت عن المواقع...خرائطي التي اعتدت رسمها في ذاكرتي لأتمكن من العودة وسرقة ما دُفن.

دفنَّا الجِرار في أكثر من ثلاثة مواقع، ولم يذبح المسخ المزيد من الحمير، واكتفى برش الدماء التي جمعها في وعاء من القربان السابق.

لم يكن أي فرد من الفرق الخاصة قريبًا منا، لقد كانوا حريصين على عدم الكشف عن مكان الدفائن لأحد، ومن المؤكد أننا أيضا لسنا محل ثقة، وأن هناك خطة ما أُعدت لنا، ولن تكون سعيدة.

الخوف بادٍ في عيون العرب، ولست أدري إن كان سببه إدراكهم النهاية المحتومة التي تنتظرهم، أم أن هُراء الكعب قد ترك تأثيره فيهم؛ لذا لابد أن أستمر في تقمص دور المرعوب من هراء العفاريت حتى أني فقتهم رعبا وإعجابا بقدرات المسخ العجيبة التي لم نر منها ما يُعجز قردًا عن القيام به.

التزمت السانتورية وأبعدت عيني عن الجميع، لا أراقب، لا ألتفت، مطيعٌ منفذٌ الأوامر مُتقبلٌ الإهانات بلا تذمر، وأسير بجانب طبيلة الذي حجب عني القمر، ولم يقم بأي عمل مفيد حتى الآن؛ وذلك لأن الكعب يتجنب اقترابه؛ ولابد أنه يبحث عن طريقة للخلاص منه.

أشعر أثناء السير أن كفيَّ الناعمتين قد أصابهما شيء، ودبَّ الرعب في قلبي حينما ظهر بباطن كفي وأصابعي الكثير من الفقاعات الجلدية المملوءة بالماء، فاعتقدت أن مرضا خبيثا قد أصابني، ولم يكن قريبًا مني سوى نعمة؛ سليط اللسان في الثلاثينات من عمره، طوله كعرضه، كثيف الشعر، أفطس الأنف، أذناه رفيعة وطويلة، وسبحان الخالق له عينان واسعتان سوداوان يحسده عليهما الرجال والنساء، ولكن إن أغمضهما لا ترى منه سوى القباحة، استأجره جمال الدين ضمن عدد من الأشخاص وجاء به مع قافلة المؤن، وعَلََق معنا، ومنذ ذلك الوقت أدعو الله أن يتعثر ويقع على فمه ويقطع لسانه؛ سألته عن الانتفاخات الغريبة التي أصابت كفي، ابتسم وقال:

- إنها علامات مرض خطير ينتقل من الحمير إلى البشر، ولابد أنك لامست الحمار كثيرا فأصابك الداء وإن لم تُعالج بسرعة ستموت خلال أيام.

وبالرغم من انعدام ثقتي فيه، ومطالعتي تعابير وجهه التي دلت على كذبه واختراعه هذا المرض، إلا أن خيالي أخذني بعيدا، ورأيت نفسي مدفونًا في قاع حفرة على ظهرها حمار مذبوح، ولاحظ الحقير تأثير كذبه الذي دفعه على التمادي فنادى على خلدون الأعوج وقال له أمامي:

- انظر إلى كفيَّ عزيز، أليست هذه علامات مرض الحمير الذي يتعجل قتل صاحبه؟

هزَّ الأعوجُ رأسه وقال:

- نعم نعم سيموت عزيز غدا، ابتعد عنه حتى لا يصيبك داؤه.

لم يخفَ عليَّ أنهما يسخران مني، ولكن شيئًا من الشك تسرب إلى نفسي، فتظاهرت بالابتسام وقلت:

- (بعين الله شباب).

عدتُ أقود حماري الهزيل متظاهرًا بعدم الاكتراث، بينما كنتُ أتجول بعينيَّ باحثًا عن عبد القادر، وكان يسير بمؤخرة القافلة، فأبطأت سيري حتى صار بجانبي، وحاولت التحدث معه فأغلق عينيه كعادته، ولم أكن بمزاج لاحترام خلوته الغريبة، فأجبرته تحت إلحاحي الشديد على فتح عينيه، وقبل أن أرفع كفيَّ لأريه ما أصابهما، قال:

- اطمئن يا عزيز، إنها قروح أصابت كفيك الناعمتين؛ لأنك لم تعتد حمل الفأس، اغسلها واتركها، وبعد أيام ستنفجر ويخرج ماؤها، وبإذن الله ستُشفى وحدها.

عاد وأسدل جفنيه، فتركته لخلوته وادِّعائه الانشغال بالتسبيح والدعاء، وشكرته على كلماته المعدودة التي أعادت الطمأنينة إلى قلبي.

قبل شروق السبت وضعت القافلة رحالها لنيل قسط من الراحة، بالقرب من بئر ماء عنقها ضيقة لا تسمح بانتشال الماء في سهولة، تم نصب خمسة خيام؛ ثلاثة منها لجودت والصناديق، وواحدة للكعب والفتاة التي برفقته، وواحدة للمؤن، واتخذها بيبرس مسكنا له، بحثت عن زاوية لا يزعجني فيها أحد وحملت إليها حقائبي، واستلقيت على الأرض، وفي حذر شديد أخرجت مفكرة روهان بيك، وألقيت عليها نظرة خاطفة، دبَّ النعاس في مفاصلي فلم أدر متى غفوتُ حتى أرغمتني حرارة الشمس على الاستيقاظ، فانتصبت لهوفًا على حصتي من الطعام. واأسفاه...لقد فاتني التوزيع! وبدأ الجوع في العبث بمَعِدتي الفارغة، فاندفعت مطالبًا بنصيبي، ولم أحظَ إلا بطردي وتوبيخي على يد بيبرس بحجة أني لم أكن حاضرا عند توزيع الطعام، فاكتفيت بعدة قطع من الشوكولاتة، أخرجتها سرًا حتى لا أضطر لمشاركة أحد، وكانت كافية لإسكات جوعي، ثم بحثت عن مكان لأستظل به، ولم أجد ما يشغلني سوى مراقبة الآخرين من بعيد، ومحاولة العودة إلى النوم في انتظار الغروب.

كنت أحترق شوقًا لمقابلة المزيد من جِرار الذهب، ومع كل واحدة نقوم بدفنها يكبر حلمي بالثراء، وما عاد يشغل بالي البحث عن طرق النجاة، إن لم يكن ذلك مصحوبا ببعض الجرار الملآنة بالذهب!

انقضى اليوم وعدنا من جديد إلى رحلة الحفر والدفن، وبالرغم من ساعات نومي الطويلة، إلا أنني لم أكن بنشاط الأمس، فأنا لم أعتَد على الأعمال الشاقة قط، ولكنه تحايلُ سانتوري على بذل الجهد واستحضار عافية الغباء، فحملتُ فأسا وحفرت جاهدًا إلى أن انفجرت انتفاخات يدي وسال ماؤها فاترًا، وانسلخ الجلد عن بؤرٍ مستديرةٍ حمراء تلسعني كلما لامستْ هرواة الفأس، ولكن حلمي بالحصول على الذهب كان كافيًا ليمدني بالطاقة، ويبهج قلبي، وينسيني ألمي.

أشرقت الشمس من جديد وحطَّت القافلة رحالها، وكان موقعا مثاليا لإخفائها بالرغم من ضيقه، فالتلال التي تطوِّقه مملوءة بالأشجار، وعين الماء كانت غزيرة فارَ منها الكثير من السيول فاستطال العشب حولها وأشبه المكان حديقةً غنَّاء، مما أبهج الدواب والبشر، وأسرع الجميع بالاستحمام والاستلقاء على فُرُشٍ من العشب الأخضر الناعم.

وقبل نومي حرصت أن أنال حصتي من الطعام، وأشك أنه سينفد خلال أيام قلائل. لم أشعر برغبة في النوم ولكن حاولت استدعائه لأمنع نفسي عن مراقبة الآخرين، ولأستمتع بالتفكير والتخطيط في كيفية حصولي على الذهب وفي حالة بين اليقظة والنوم كانت بداية حلمي جرة ذهب واحدة تكفيني لأتحول إلى باشا حقيقي، وقبل أن تغفو عيناي طمعتُ أن أسرق بغلاً مُحمَّلاً بالكثير من الجِرار.

صحوت قبيل الظهر نشيطًا مفعمًا بالحيوية، حتى شعرت بأن لوني أكثر بريقًا ولمعانًا من ذهب الجِرار الذي لم تقع عليه عيناي بعد! أقسمت أن ألجم فضولي اللعين، ونجحت في ذلك إلى حدٍ ما، جِرارُ الذهب وحلمُ الثراء ساعداني على مواصلة تقمصي دور السانتور الأحمق باحتراف، ونجحت في إقناع الجميع عدا سلامة ورشيد اللذين لم يخفَ عليهما أني أتظاهر لغايةٍ في نفسي، فتجنبت اقترابهما، وحبستُ عينيَّ عن التلصص والنظر إليهما، لكني وجدت صعوبة في إبعادهما عن الحسناء صاحبة الصدر العامر...إنَّ غرْس سكين في بؤر يدي الحمراء أرحم وأقل ألمًا من منع نفسي من مراقبة فتاة الكعب وثديها الناهد الذي لم يكف عن التراقص مع حركتها أثناء تجوالها بيننا دون خجل، لم تتجنبْ أشعة الشمس بل رغبتْ في أن تستحم بمائها الذهبي الذي زادها بهاءً...تعذبتُ كثيرًا في منع نفسي، فلابد أن ألتزم سياسة السانتور، وأيضًا لابد أن أتلصص وأهيم بمخيلتي قليلا وإلا سأموت غيظًا...تسافر عيناي في كل منحنيات جسدها...تتوقف...تمد يديها، ترميني بنظرة شبقية، فأقترب منها في نَزق...التقيتها، ترقد فوق جفنيها شهوة عارمة، يلفح وجهي لهيب أنفاسها، يتخلل أصابعي شعرها الغجري، أعرِّي مفاتنها، تداعب شفتاي حلمتيها، تسألني المزيد، ألثمها بين نهديها، تتوجع، يفيض أنفي برائحتها، أسمع نهيق الحُمُر، لم أقو على إخراج وجهي، يزداد النهيق، لن أترك دفء نهديها...ضجيج...أحكمتُ ضمَّ خاصرتها بين فخذي، الضجيج يعلو، أتصبب عرقًا، يناديها الكعب،حتى رصدتني عينا بيبرس.

هكذا كان شعوري بعد إفاقتي...تبًا مَنْ يكون هذا اللعين! ولماذا يبقى برفقتها ويتبعها كظلها أينما ذهبت؟! ابتعدا كثيرًا، تبعتْهما عيناي حتى غيبتهما الدواب، ثم أشغلت نفسي بمراقبة إيليا؛ هذا الفتى الأبيض الذي غزاه الشيب قبل أوانه، وكأن أمه حينما أنجبته غمرته في برميل طحين، كل شيء فيه أبيض؛ بشرته، شعره، رموشه، وحواجبه، بدا في الرابعة عشر من عمره، وربما جاوزها بكثير، وبالرغم من بياضه الشاذ إلا أن الحزن الذي يفيض من كل جزء فيه، أكثر لَفْتًا للأنظار من مظهره العجيب.

أشعر برغبة في الذهاب إليه وفتح فمه لأرى إن كان يملك لسانا؛ فلم يتفوه بكلمة واحدة مُذْ رأيته، لغته الوحيدة تمر عبر ذلك النَّاي الذي يحمله، وكلما سنحت له الفرصة ينفخ فيه ألحانا شجيَّةً، تطرب لها الآذان، وتئن القلوب، وتدمع العيون، حتى الدواب تهدأ حركتها، ويذهب نَفْرها، عدا ذلك الكعب البغيض، وأشك في أنه يمتلك قلبًا بين جوانحه.

لم تثر فضولي تلك الرسومات التي نقشها عند دفن جرار الذهب، بل ما شغلني حقًا تلك الظروف الغامضة التي ألقت به في طريق القافلة! لا أعتقد أن هذا الفتى قد رافقنا بإرادته، ولستُ بحاجةٍ لأثقل عقلي بالمزيد من الألغاز، لعنة الله على سانتور وقواعده الغبية التي حرمتني من ممارسة هواياتي في كشف الأسرار! ومازلت في حيرة من أمري تجاه العديد منها، تحيرني كثيرًا تلك العلاقة التي تربط الكعب وجودت، فلم تخفَ عليَّ نظرات الارتياب المتبادلة بينهما، ولم ألمح -مرة واحدة- أنهما قضيا وقتا معا ليتحدثا بعيدًا عن أمر القافلة، أو أن أحدهما ابتسم للآخر! فمن المُحال أن يجتمع مثل هذين الاثنين معًا إلا بأمر مَنْ يفوقهما مكانةً وسلطةً...شتان بينهما؛ الأول خشن شرس دموي، والآخر ناعم مهذب اشمأز من ذبح حمار.

وبينما أفكر في أمر ذلك المهذب فإذا به يخرج من خيمته، ولم يكن ليفعل ذلك وقت التخييم إلا لقضاء حاجة أو طلب أمر ما، فأسرعت لاستغلال الفرصة، وما إن اقتربت حتى أشار لنعمة، وحركات يديه أنبأت بحاجته إلى ماء ووعاء للاغتسال، وقبل أن يحرك نعمة مؤخرته الثقيلة، كنت قد انطلقت وعدت بالماء والإناء، وتبعته إلى خيمته وقدمت مطلوبه دون النطق بكلمة واحدة، فراقه ذلك، وأحني رأسي احتراما، وابتسم سائلاً بلهجة عربية مشوهة:

- (سو انتو اسمكا وين بلادكا انتو؟)

لهجته المشوهة ذكرتني بنفسي حينما تعلمت العربية في يومي الأول.

لا أخفي أن اعتقاده أني عربي قد استفزني قليلا، فأجبته كمن يرد عنه تهمه:

- أنا تركي الأصل؛ أبي تركي، جدي تركي، وأمي تركية، وجدتي تركية، اسمي عزيز عثمان مراد أفلا، عمري ثلاثة وعشرون عامًا، لدي أخوان وأخت، وأنا أصغرهم، من مواليد بورصة، مكان السكن الحالي إسطنبول يا سيدي.

أسرعت في إجابتي على طريقة المجندين، ولم ينقصني سوى تأدية التحية العسكرية لأكون جنديٌّا يجيب قائده، فتعجب سائلاً:

- من أي بلد أنت؟

يبدو أنه لم ينتبه لحديثي المتسارع؛ فقلت:

- أنا من بورصة يا سيدي.

- أين خدمت بالجيش يا عزيز؟

- لم أخدم بالجيش سيدي.

- ولماذا لم تخدم بالجيش؟

- لم يقبلوني بسبب عيب يا سيدي.

- وما عيبك؟

يبدو مستغربًا؛ فلا تبدو عليَّ عاهات جسدية ظاهرة، وما كنت لأخبره بحقيقة أن علاقات والدي جنبتني الخدمة، والقليل من المال كان كافيا لإثبات علة ضعف البصر، وكل ذلك لأخالف مصير شقيقي الأكبر، الذي قُتل على حدود ليبيا على يد بعض العرب المصريين، لعنة الله عليهم، ولكن هذه الحقيقة لا تصلح هنا.



٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page